نُورُ الدّينِ النّونِي - نَظْرَةٌ وَ قِرَاءَةٌ فِي دِيوَانِ؛ "أًنْفَاسٌ تَحْتَ كِمَامَةِ" للكاتب محمد آيت علو

في اليوم العالمي للشعر:
"ويبقى الشعر ما سمعته الروح فانتعشت"

"في واحدة من لحظات إحساس الإنسان بواقعه ثقيلا، وعشية رغبة الانسان في تجاوز اللحظة/الآن، ظهر الشعر كواحد من ممكنات ذلك التجاوز، نظرا لما شكله من قوة دافعة تلغي كل تناقض أو فجوة، ونظرا لما يحمله من قدرة فائقة ورائعة على فسح المجال أمام التخيل والخيال، بما يحمله ذلك من معاني الانتقال التاريخي العظيم من الطبيعة إلى الثقافة. وليست لحظة الشعر هروبا من مواجهة الواقع، ولاينبغي لها أن تكون، وليس قولا مغاليا في الترف والبعد عن جوهر المعيش، وليس تغريدا وغناء أو هلوسة وطنينا وأنينا وحنينا ورنينا....إنما لحظة الشعر ، والشعر، والقول الشعري، والقصيدة، والعالم الشعري والأفكار والرؤى الشعرية...كلها عناصر حياة توثق الصلة والعلاقةبين الشاعر والحياة، وبين الشاعر والوجود، وبين الشاعر والواقع، وبين الشاعر والعالم....
إن الشعر، كل الشعر ، ضرورة تاريخية، وصورة عميقة عن الانسان، والواقع والحياة، وتلك مهمته أبدا".

الشّعْرُ غِذَاءُ الرُّوحْ
نَظْرَةٌ وَ قِرَاءَةٌ فِي دِيوَانِ؛ "أًنْفَاسٌ تَحْتَ كِمَامَةِ"للكاتب :محمد آيت علو
بريِشَةِ الباحث المبدع: نُورُ الدّينِ النّونِي.

من جميلِ مَا تنْعمُ بِهِ النّفْسُ البشرِيّةُ؛ آلَةُ الْبَيَانْ
، فَإِن أَحْسَنَتْهُ والتَوْظِيفَ الجيد أتقنتهُ، عَاشَتِ الاِسْتِقْرَارَ العاطفي بجُلّ تَلْوِينَاتِهِ، وَإِنْ ضيّعتهُ وَعَنِ الوَعْيِ غَيّبَتْهُ لامَسَتِ النّكدَ وَأَيُّ نَكَدٍ هُو!!، وَلَمّا كَانَ الأمر كَذلكَ آثَرْتُ أَنْ أَتّكِئَ على قلمِي لاَفِتًا النّظر ومُوَجّهًا سهام الفكر لا راغبًا فِي النّقْدِ، إِلَى دِيوَانٍ النفس تشتاقُ لاسْتِنْطَاقِهْ والنّهْل مِنْ غزيرِ فنّهْ والعيش بين تلاَوين صيغهْ، فَهُوَ المَرْجِعُ الرَاجِحُ وَالمِقْيَاسُ الْوَاضِحُ، الزَّاخِرُ بِكُلّ مُقَوّمَاتِ الحَقّ التّي مرّتْ بِنَا في سنَةٍ هِي؛ الأثقلُ وَلاَ شَكْ.
إن دأبَ الكاتب؛ "محمد أيت علو" في تأَلِيفه الجمة وتصانيفه الفذة[1]، التي حُفت بوفير عناية وجميل رعاية، دائرة في درب إرسال النفس على سجيتها طارقة كل الأبواب التي من شأنها أن تقارب هموم الإنسان شعرا ونثرا، ويعد ديوان؛ "أَنْفَاسٌ تَحْتَ الْكِمَامَةِ" من الأعمال الأدبية التي تفجرت من نبع واحد همه الإنسانية جمعاء، والتي عانت الغموض جراء وباء كان أثره أقسى على النفس، ذاقت البشرية من ورائه مرارة الفقدان بلا سابق إنذار، وتأتي مقاربتنا هذه لتطرق عتبة من عتباته محاولة نفض الغبار عن إيحاءاته وتعالقاته ودِلالاته المفترضة والمختزلة في الذاكرةِ الأدبيةِ.
إن القراءة الأولى للعنوان "أَنْفَاسٌ تَحْتَ الْــكِمَامَةِ" تحيل إلى مسألة بديهية، وإلى فهم يوحي بأن النص بني في فضاء زمني اتسم بالتخويف والتهويل تجاه وباء كسر العالم يمنة وشمالا، لكن القراءة الواعية المتفحصة لا ينبغي أن تنطلق من فهم سطحي عابر ينمحي أثره بمجرد الانتهاء منه، بل عليها أن تحاول تفسيره تفسيرا عميقا إيحائيا يلج بها إلى عوالم من التعالقات النصية المرتبطة بالسياق، تمَكّن القارئ من زحزحة كيان الإبداع منذ الوهلة الأولى.
الْعُنْوَانُ إذن؛ بابٌ من أبواب الإبداع إن دقّه القارئ وأحسن الدق فيه وَلَجَ وعلاقتَه بالنصّ عرف، كيف لا؟ وهو أول ما يعترضه، وبالتالي فاختيار المبدع
للعنوان لا يجيء بصورة عبثية، لاقترانه بالوظيفة التحفيزية، ومن هنا غذت مقاربة العناوين قبل ولوج أي إبداع شرطا أساسًا لا مناط لقارئٍ أراد استكشاف دِلالات النص المحيد عنها.
Eلُغَوِيّةُ الْعُنْوَانِ؛
"أَنْفَاسٌ تَحْتَ ْكِمَامَةِ"
عنوان يوحي إلى عدة احتمالات؛ فــ "أَنْفَاسٌ" خبر لمبتدأ محذوف وهي جمع نَفْسٍ. يقول صاحب القاموس؛ "النّفْسُ الرّوحُ... نَفّسَ تَنْفِيسًا؛ فَرّجَ تَفْرِيجًا... والنّفِيسُ؛ الْمَالُ الْـكَثِيُر..."
[2]وزاد ابن منظور في التفصيل فقال؛ "النّفْسُ: الرُّوحُ... قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ: النّفسُ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ يَجْرِي عَلَى ضَرْبَينِ: أَحَدَهُمَا قَوْلُكَ خَرَجَتْ نَفْسُ فلانٍ أَيْ رُوحُهُ... وَالضّرْبُ الآخَرُ مَعْنَى النّفْسِ فِيهِ مَعْنَى جُمْلَةُ الشّيء وَحَقِيقَتِهِ، تَقُولُ: قَتَلَ فُلاَنٌ نَفْسَهُ [أَهْلَكَهَا حَتّى] أَوْقَتَ الإِهْلاَكُ بِذَاتِهِ كُلِّهَا."[3] نكتفي مما سقناه من هذه المعاجم وتعالقاتها بالخلوص إلى مسألة مهمة يمكن النظر إليها بمنظار ذي عدستين، الأول؛ يقر بأن موقعة النفس أمر لا بد منه خصوصا وأنها عماد الجسد إن صلحت صلح سائره، وإن فسدت فسد سائره، والثاني؛ تبوؤها مرتبة الروح.
و "تَحْتَ" نَقِيضُ فَوْقَ، وَهُوَ ظَرْفٌ مُضَافٌ، وقَدْ "يَكُونُ اسْمًا، وَيُبْنَى فِي حَالِ اسْمِيّتِهِ عَلَى الضَمّ، فَيُقَالُ: مِنْ تَحْتُ، والتُّحُوتُ الأَرْذَالُ السَّفْلَةُ."
[4]
و "الْكِمَامَةِ" مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنْ كَمَمَ وَهُوَ مْضاف إليه، يقال "تُكُمّوا بالضَمِّ أُغْمِي عَلَيْهِمْ، وَغَطُّوا... وَالكِمَامُ وَالْكِمَامَةُ بِكَسْرِهِمَا: مَا يُكَمُّ بِهِ الْفَمُ ... كَمّهُ غَطّاهُ"[5]
لكن ما موقع كلمة "الكمامة" من العنوان، هل تعني شيئا بالنسبة للمؤلف؟ هل اقتران العنوان بها جاء بمحض الصدفة؟ أم أن المؤلف المبدع ضمنها في العنوان لوهجها الدلالي؟ كلها أسئلة تطرح نفسها بقوة لعل السياق هو الكفيل لإجابة عنها، ونحن نعلم علم اليقين أن الكلمة لم تكن فائقة الذيوع بهذه القوة من قبل.
من ذات التحديدات نقول إن العنوان؛ دالٌ يحيلنا إلى مدلول عميق الدِّلالة بحسب التعبير السوسيوري حيث الأنفاسُ جمع نفسٍ والنفس نفسان؛ نفس بمعنى شخص، ونفَس من الهواء، وهاته الأنفاس تتموقع تحت الكمامة التي يقي بها الناس أنفسهم من العدوى في زماننا هذا، "زمان كورونا"، لكن رغم هذه الوقاية فأنفاس الأشخاص محرومة من حرية التنفس بالطريقة المعتادة، حيث تجد نفسها مقيدة ،وهذا مما يزيد للنفسية اختناقا وخنوعا ،فأصبح يُنْظَرُ إلى الكمامة ومدى ارتداء الأنفاس لها، أكثر مما يُنظر إلى حالة الأنفاس نفسها المحرومة مما كانت تتمتع به، والذي أصبح زمان كورونا محرما في حيز مكاني، تكون فيه النفس تحت الكمامة، وهذا الحيز هو الأماكن العامة..
فضلا عن هذا فإنه بإمكاننا أن نصور لهذا العنوان معنى آخرا لا ينأى عن الدلالة على زمن كورونا و حالة الناس النفسية زمنئذ.


فالعنوان وفق ما تفق حدث يقع ولكنه مثوار عن الأنظار، حدث غير باد للعيان، شخص تملكه الخوف وجعله يردتي كمامته وأصبحت أنفاسه متسارعة، كرونا تتربص وأية زلة منه ستؤدي به إلى الهاوية، البشرية مهددة، الناس أصبحت تخاف من بعضها البعض، الواحد يتهرب من الآخر، وقد حدثت التفرقة، إنها كرونا عبثت بتفاصيل حياة الناس، ولم تعد الأمور على نصابها، هناك خلل ما. وقف صاحبنا في الزاوية وبدأت الأحداث متسلسلة بشريط حياته، هنا إما البقاء أو إلقاء النفس إلى التهلكة...!!
إننا وبهذا الاعتبار وأمام هذه التحولات التي عرفها العالم وما طرحه السياق الاجتماعي لوباء كرونا لاحت بواكر الحاجة إلى مقاربات نفسية، وإلى علوم تجعل من الخاصية الإنسانية مدخلا لفهم ما هو اجتماعي محض، إن التفكير في الوباء وحيثياته ونشأته، وانتشاره، وأضراره....، جعل من الأستاذ المبدع "محمد أيت علو" تلك الذات التي تصبو إلى مقاربة هذه التكاليف النفسية الباهظة، والحقيقة أننا أحوج ما نكون لمثل هذه الالتفاتات النبيلة التي تحصر إبداعاتها في الإنسانية وشواغلها أثناء الحاجة ومن غيرها؛ فهل كان العنوان مطية ترمي بنا إلى عوالم النص الكروني؟ أم أن دافع التحفيز وزمن التأليف كانت من وراء العنونة هته؟


حَرّكتُ مَجاذيف التأويل والرغبة من معاني النص التحصيلِ، فكان ان استتب الأمر حتى أمكنتنا المقاربة هته من الوقوف عند النظام البنيوي لتجربة المبدع "محمد أيت علو" في المجال الشعري، فهي إذ ذاك تهتم بالدرجة الأولى تحليل البينات النصية في تفاعلها مع العنوان، ولعل الإطار الذي رسمناه لمقاربة هذا النص حتّم علينا الانطلاق من هذه الزاوية تقريبا للقارئ الكريم، فكلمات الشاعر "محمد أيت علو" الرنانة تنزاح من وراء أنين يلزم منا الاتئاد في إعنان خبايا ما تحلبها من ألفاظ بدءا من "كرونا" الذي يعد لفظا يحمل ما يحمله من دلالات اضطرابية تنساق من وراء الحزن، والأسى والرثاء، نظرا لما خلفته الحرب الصحية من موتى لشدة خطورته على نفسية البرية جمعاء. فالشاعر يبرأ في استهلال قصيدته "كمامة" كأداة وقائية من مرض حاد فيه مافيه من المعاني، علة في اتّلاه الناس بين الجلوة و الخلوة المحتمة خشية من العدوى ونشرها بين الورى، كل هذا صوره الشاعر المحترم في صور شعرية مجازية استعارية بنكهة بيانية، تطفوها ضرورة فهم البعد الابستمولوجي للمفاهيم المعتمدة المناطة بالموضوع العامي "كرونا" كلفظ إفرنجي غير عربي أصلا لا تحويه المعاجم العربية.
وإذا أردنا أن نغوص أكثر في قوقعة المعنى المراد للقصيدة الرونقية نخلص أن مبغاه كان تجسيدا لسلبيات هذه الفاجعة كما سماه من خلال الإيماء لأهم الأحداث المعنة بسببه في تلك الفترة البدئية، والتي تتجسد في فقدان وجوه أبرياء ذهبوا ضحية غياب المسؤولية الذاتية والغيرية معا، وأتعب أُناسا آخرين بين جدران المنازل وفراغ فجوات الشوارع و الحارات، انتهاءً بدقة التصوير النفسي للمصلين أمام "باب الفجر" المستعار مجازا عن المسجد من الجهش
[6] والبِدار[7] في البكاء الداخلي أكثر لما عاشوه وعشناه تآلفا من رهب وإباد، أقام الأرض و لم يقعدها سُــمًّا.
*إن خلاصة الخلاصة يمكننا أن نبرأ من خلالها أن الشاعر حاول جاهدا أن يلوح للمتلقي والقارئ موضوع آن بالغ الخطورة مبينا ما أبثه في سيكولوجية المرء من خوف وتأثير سلبي.
" الْمَدَاخِلُ الأَدَبِيّةُ صَيْدٌ الشِّعْرُ قَيْدُهَا، فَالشّعْرُ عَلَى اخْتِلاَفِ أَنْوَاعِهِ وَتَعَدُّدِ مَشَارِبِهِ يُعَدُّ الرّكِيزَةَ الأَسَاسْ الذّي تُبْنَى عَلَى أَسَاسِهِ الْحَقَائِقْ، فَكَانَ العَزْمُ عَلَى حَزْمٍ أَنْ اشْتَغَلْنَا بِدِيوَانِ؛ "أَنْفَاسٌ تَحْتَ الْكِمَامَةِ" مُحَاوَلَةً فِي مُقَارَبَةِ وَتَقْرِيبِ عُنْوَانِهِ وَنَصّهِ الْكُرُونِيّ الْمَحْضِ مِنَ الْقَارِئِ الكَرِيمِ، لِصَاحِبِهِ " الكاتب: "مُحَمّد أَيْت عَلّو" ; وَ الّذِي يَضُمُّ فِي ثَنَايَاهُ حَوَالَى مِائَةٍ وَاثْنَا عَشْرَةَ صَفْحَةً (112). نَسْتَطِيعُ أَنْ نَرُدَّ مَبَاحِثَهُ وَقَضَايَاهُ إِلَى ضُرُوبٍ مِنْهَا؛ (1) الَدّينُ، (2) الإِنْسَانُ، (3) الْوَبَاءُ."
هامش توضيحي:
1 - نَذْكُرُ عَلَى سَبِيلِ المثَالِ لاَ الْحَصْرِ؛ كَأَنْ لاَ أَحَدْ/ بَابٌ لِقَلْبِ الرّيحْ مِنْ أَجْلِ كوّة لِلْفَرَحْ/ مِنَحُ بَارِدَةْ لِنُفُوسٍ شَارِدَةْ...
2 - الْقَامُوسُ المحِيطُ؛ الفَيْرُوزَبَادِي، َتَحْقِيقُ؛ مَكْتَبِ تَحْقِيقِ التّرَاثِ فِي مُؤَسّسَةِ الرّسَالَةِ، مُؤَسّسَةُ الرّسَالَةِ، دِمَشْق، ط.3، 2009م، مَادّةَ/ نَفَسَ.
3- لِسَانُ الْعَرَبِ؛ ابْنُ مَنْظُورٍ، ضَبَطَ نَصّهُ وَعَلّقَ حَوَاشِيهِ؛ خَالِدْ رَشِيدْ الْقَاضِي، دَار صُبْحْ ادِيسُوفِتُ، بَيْرُوتْ، ط.1، 2006م، مَادّةَ /نَفَسَ.
4 - الْقَامُوسُ المحِيطُ؛ [مَادّةُ / تَحَتَ.]
5 - نَفْسُهُ: [مَادّةُ/ كَمَمَ.]
6 - الْجَهْشُ؛ السُّرْعَةُ.
7- الْبِدَارُ؛ اَلْمُسَارَعَةُ.
بريِشَةِ الباحث المبدع: نُورُ الدّينِ النّونِي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى