لبيد العامري - علّمونا الأمل

مثل هكذا فترات، في ظل الأزمات والكوارث العالمية والتي تؤثر سلبا، دون شك، على حياة الفرد، تظل الأرواح المنهكة والتي اصطبغت بالسوداوية تبحث عن شيء ما، يطبطب على قلبها ويخدر جروحه، قد لا يضمدها ويشفيها بشكل ناجع، لكنه يعمل على المسح على الجرح بحنو ولطف، وهنا أستحضر ذلك الطفل الذي إذا ما أصاب ولو كانت إصابة بسيطة فإنه سرعان ما يخبر والده عن إصابته فقط من أجل أن يطمئنه فينفخ الأب على موضع الجرح بهواء لطيف ويمسده فيعود الطفل إلى أباهيجه وكأن ليس ثمة أي اصابة أو ألم.


إنه الأمل ذاك العتيق الذي ارتبط بظهور الحياة البشرية على سطح الأرض، فآدم كان يأمل أن يعود إلى الجنة وأن يسامحه الإله بعد خطيئته، إلى جانب ارتباط أغلب الأديان السماوية بفكرة الأمل. وهذا ما يجعلني أرى أن الأمل لصيق بالخلقة البيولوجية للإنسان. ولو أن العديد من الفلاسفة والمبدعين العظماء ناقضوا فكرة الأمل، واعتبروها أحد أكبر الأكاذيب والأوهام التي اخترعتها البشرية، كنيتشه وشوبنهاور وسيوران و وآخرين.
هذا ليس موضع حديثنا الآن، لكن ما أود أن أقوله، في هذه الفسحة، عن أولئك الذين علّمونا الأمل، واعتبروها فلسفة حياتية يعتاشون عليها ومن خلالها، فتقودهم الى حيث تلك الفضاءات الفسيحة التي أحبوها، رغم ما عانوه من أمراض وآلام ومعاناة.
في ريعان الشباب لا أذكر كيف وصلت أعمال سعدالله ونوس إلى يدي، كل ما أذكره أنها كانت من مكتبة أبي. وكنت أقرأها بحب. كانت تلك أعماله الأخيرة. مسرحيات تتخللها نزعة فائقة من الأمل والحب. فتأثرت أكثر عندما أدركت أنه كتبها وهو في أوج مرضه. فكنت أتساءل عن القوة العجائبية في كتاباته، تلك التي تنزح نحو الحياة وآمالها وجمالها وملذاتها، القوة التي قلّ أن تراها في البشري العادي الصحيح.
في الفترة الثانية من حياتي، وهي الأعمق والأكثر كثافة، لأنني ارتبطت وتأثرت، ليس بكتابات الشخص فقط، بل بالإنسان نفسه، الذي كان أكثر من أب، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فوالدي الأستاذ مبارك العامري، كثيرا ما كان يدهشني في أمور عدة، تعكس قوة إرادته وعزيمته اللامتناهية، فكان وهو في ذروة آلامه حين كان على الفراش يكتب قصائد عن الحب والإرادة والجمال، قصائد بديعة حد الادهاش في بنائها الفني والجمالي، وأعتقدها من أفضل ما كتبه مبارك العامري. حتى أنني كثيرا ما كنت أدخل خلسة للفيس بوك فأجد أبي كتب نصا جديدا فأندهش. فضلا عن حبه للحياة وممراسَتِها بعفوية وحب وإنسانية لا محدودة، فأذكر أنه في العديد من فتراته المرضية الصعبة يخبرني أن نذهب في نزهة لنشم رائحة الوجود وجماله مثلما كان يقول.
إنها حياة الشاعر الحقيقي والإنسان، أو الشِّعر عندما يكون إنسانا.
وقبل وفاته بفترة قصيرة، كان يتألم بشدة في ليل المستشفى، فأخبرته تقوّى يا أبي فأنت الذي قلت:
" لن تَكْسِرنا المِحَنُ
ولا الآلام
مادامَ غصنُ الإرادةِ
أخْضَر "
صمت وكان ينظر الي شيء ما، في الأعلى، في السقف، وسمعته يردد بصوت خفيض مقطع القصيدة، فنام بعدها.
ومنذ فترة، وإلى الآن، وأنا أقرأ كل ما يكتبه المخرج والشاعر الفلسطيني المبدع الأستاذ نصري حجاج (حفظه الله) على صفحته في الفيس بوك. فأستعيد استنشاق رائحة الأمل، تلك التي كثيرا ما افتقدتها بعد وفاة أبي. الرائحة التي تنضح بالإبداع العميق والمدهش والحب الوافر للحياة في ظل المرض والألم.
تستدعي الآن الذاكرة صور أخرى لمن تعلمت منهم الأمل في فترات أخرى من حياتي: الشاعر القدير الراحل الأستاذ محمد الحارثي، الفنانة الراحلة القديرة ريم بنا التي كانت ذكرى وفاتها قبل أيام، والأستاذة الروائية القديرة بشرى خلفان (حفظها الله) التي صدرت لها قريبا رواية "دلشاد".





1617135249586.png 1617135327871.png 1617135423641.png 1617135445759.png 1617135467181.png 1617135498306.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى