محمد بن علي الوهيبي - شارع الشاعر مبارك العامري

“شغوف بالبياض
بانبجاس المطر من رحم الغيم
باليمام خارج السرب
بندف البرَد ومكعبات السكر
شغوف بالتقاء البياض بالبياض”
“مبارك العامري”

ليت العنوان الذي كتبته فوق هذه السطور حقيقة وليس أضغاث أحلام، لكن يبدو أن الذي جعل عقلي الباطن يتمادى في عرض هذا الحلم البعيد الخبر الآتي:

“أطلقت أمانة محافظة الطائف، اسم الشاعر الراحل محمد بن عواض الثبيتي، على أحد شوارع المحافظة؛ وذلك تقديرًا لإسهاماته الوطنية. وقالت الأمانة: إن إطلاق اسم الشاعر على الشارع جاء إنفاذًا لتوجيه من أمير منطقة مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، وتقديرًا للأدب والأدباء، واهتمامًا بالرواد والمميزين من أبناء الوطن في جميع المجالات”.

من المؤكد أن هناك الكثير من الأسماء في بلادنا تستحق أن تُكرّم ويحتفى بها، وأذكر هنا اسم مبارك العامري، لا على سبيل الحصر وإنما بكونه أحد المبدعين الذين تركوا بصمات واضحة، حيث ذكرت وزارة الإعلام بالسلطنة، في يوم رحيله: “المشهد الثقافي العماني فقد اليوم أحد رموزه المعروفة، التي قدمت عطاءات متميزة طوال مسيرتها الأدبية، بوفاة الكاتب والشاعر مبارك بن محمد العامري بعد صراع طويل مع المرض…”

ويُعد العامري أحد رواد الصحافة الثقافية في السلطنة عندما أشرف على الملحق الثقافي بمجلة العقيدة، والتي التحق بالعمل فيها في أواخر السبعينيات حيث أثرى الكاتب والشاعر والإعلامي الأديب مبارك العامري الثقافة العمانية بالعديد من الإصدارات الأدبية، فله في السرد رواية “مدارات العزلة 1994″ و “شارع الفراهيدي 1997″، وفي الشعر ديوان “بسالة الغرقى 2010م، وله أيضًا العديد من المقالات في مختلف المجالات.

وقال عنه الأستاذ والشاعر سماء عيسى: “ذات يوم وقبل 30 عاما شكَّل مبارك العامري تجربة حميمية لعدد من الكتاب الذين كانوا في بداية بحثهم عن كتابة جديدة، شكَّل هذا الشاعر الجميل والصحفي القديم القدير مركز استقطاب لهم، وذلك أثناء عمله مسؤولا عن الملف الثقافي بمجلة العقيدة آنذاك، في وقت لم يكن ثمة من يفتح بابا لكتابة بعد ما زالت مجهولة وجديدة على أرض واقع لم يعتد على تقبل الجديد والمجهول بل ينظر إليه بعين الريبة والحذر”.

مبارك واحد من الذين أقاموا حفلة للدهشة والحياة في بلادنا ثم رحلوا، كما أنه أحد الذين آمنوا أن الشعر ما يزال حيا، وأبدًا لم يكن مروره عابرًا فهو الذي اختزل كل التجارب ونثرها على بياض الورق وترك كل هذا الأثر.

كم هو مؤلم بل ويُعد جحودًا كبيرًا أن تحمل شوارعنا بعض الأسماء الغريبة أو المجهولة وتخلو من أسماء مبدعين من الساسة والعلماء والأدباء والمثقفين سابقين كانوا أو معاصرين، وبالتأكيد فإن هناك الكثير من الأسماء في بلادنا تستحق أن تُكرّم ويحتفى بها، ونجزم يقينا هنا بوجود خلل في وضع المسميات على العديد من الشوارع، فمن خلال مشاهداتنا نجد مسميات تُطلق على شوارعنا ليس لها أي حضور ولا تمثل أي قيمة.
ومما لاشك فيه أن تثبيت أسماء المبدعين في كافة المجالات في ذاكرة المدن والأماكن نظير جهودهم الإبداعية والإنسانية يدعو إلى تحفيز الأجيال للتعرف على ما قدموه من عمل وجهد أوصلهم لهذه المكانة المستحقة، بل ويدفع الأجيال لكي تحذو حذوهم، وحينما نجعل أسماء المبدعين على ذاكرة طرقاتنا فسوف يكون هذا داعيًا إلى التعرف على مكانتهم، وعلى إنجازاتهم، وعلى أدوارهم المختلفة كإسهام بارز أيٍّ كان نوعه ومجاله، ولا شك أن عمق الحضور سيظل مرتبطا بصورة ذهنية يصنعها ذلك الشارع في أذهان المارة، حيث ستظل أسماؤهم خالدة عبر الحقب الزمنية المتعاقبة، ولا شك أن الكثير من الدول قد سارت على هذا النهج وصارت تطلق أسماء المبدعين على الشوارع والميادين العامة، بل تعدى ذلك ليشمل المدارس والمتاحف والمسارح وحتى المكتبات الوطنية فيها تخليدًا لذكراهم وتكريما لعطائهم على مر السنين، ولأجل كل ذلك يتحتم وجود لجان معنية في كل محافظة أو ولاية تختص بوضع قوائم يتم من خلالها اختيار أسماء الرواد عبر رؤية تقوم على الحصر الشامل للمبدعين في مختلف المجالات، وتنطلق من معرفة حقيقية بما قدموه من إثراء معرفي وثقافي وتميز وعطاء وطني في مختلف المجالات، على أن تتسع الدائرة لتشمل العديد من مجالات الإبداع المختلفة كالأطباء والمهندسين والمعلمين والمخترعين والإعلاميين والفنانين والرياضيين وغيرهم.
إن هذا الأمر يعد رافدا مهمًا من روافد النهضة والتقدم للوطن، وثروة وطنية وكنزًا لا ينضب لمجتمعاتنا، وعاملًا من عوامل تطوره في جميع المجالات، ودليلًا بالغًا على مدى الاهتمام بالإبداع والمبدعين.

كما أن تكريم الإنسان المُبدع يجب ألا يقتصر فقط بعد رحيله بل يكون كذلك أثناء حياته ليدرك هو والمجتمع أن كفاحه وتفوقه وإبداعه كان حريا به أن يلاقي التكريم والتعزيز والتشجيع، مما يُعزز مكانته في بلاده ويكون قدوة للأجيال، ويمنحهم إشارة أنكم ستكرمون بهكذا طريقة أو أجمل إذا تفانيتم في خدمة وطنكم، ولستُ هنا بصدد ذكر أسماء بعينها، حيث إن الإبداع في مختلف المجالات سيتكفل بذلك.

خلِّدوا ذكراهم، كرموهم كما يجب، ازرعوا أسماءهم في مدننا، أو علقوهم قناديلَ، كما كتب نزار قباني يوما لحبيبته دمشق في قصيدة الموال الدمشقي:
“وددت لو زرعوني فيكِ مئذنةً أو علّقوني على الأبوابِ قنديلا”.


محمد بن علي الوهيبي- كاتب مقالات عماني


أعلى