رسائل من جيه إم كوتزي وبول أوستر

30 ديسمبر 2008
عزيزي بول
الظاهر أن "الأزمة المالية العالمية" التي كتبت لك عنها المرة الماضية سوف تحتدم في السنة الجديدة. وعليه فإنني أتصور أنني لا بد أن أكف ـ في هذه المرحلة ـ عن لعب دور معلق الشئون الاقتصادية. أنا لم أنس إزرا باوند، الذي بدأت صواميل عقله تفك في فترة الكساد في الثلاثينيات، حينما أقنع نفسه أنه يرى سبلا إلى نجاح الاقتصاد كان غيره من الناس غارقين في الأوهام فأعمتهم أن يروها، باختصار، جعل من نفسه بتعبير جرترود شتاين "علّامة القرية" العم إز.
الصيف في ذروته في هذا النصف من الكوكب، وقد قضيت أغلب يوم الأحد جالسا أمام شاشة التليفزيون (حيث تخيم ظلال وول ستريت!) أشاهد ثالث يوم في مباراة الكريكيت خماسية الأيام بين منتخبي أستراليا وجنوب أفريقيا الوطنيين. استلبتني تماما، انغمست فيها عاطفيا، فما عدت أقدر على انتزاع نفسي إلا بشق الأنفس. وكنت لكي أشاهد المباراة قد أزحت الكتابين أو الثلاثة التي كنت أقرأ فيها.
الكريكيت تلعب منذ قرون. ومثل جميع الألعاب، هناك الكثير جدا من الحركات التي يمكنك أن تقوم بها، كثير جدا من التأثيرات التي يمكنك أن تحدثها. محتمل جدا ألا تكون مباراة الأحد الثامن والعشرين من ديسمبر في ملبورن بجميع تفاصيلها إلا صورة طبق الأصل من كل ناحية ذات شأن لجميع تفاصيل مباراة كريكيت في مكان آخر. لا بد أن كل متابع جاد لا يبلغ الثلاثين من عمره إلا وقد مر بلحظات ديجافو، بل لعل الأمر يتجاوز اللحظات إلى الفترات الكاملة. وإذن فثمة مبرر قوي للقول بأن كل شيء قد حدث من قبل. في حين أن هناك شيئا واحدا يمكنك قوله في حق كتاب جيد، وهو أنه لم يكتب من قبل.
ما الذي يجعلني إذن أضيِّع وقتي وأنا ملقى أمام شاشة التليفزيون أشاهد صغارا يلعبون؟ إنني أقر بأنها مضيعة للوقت. صحيح أنني أجني خبرة (خبرة من الدرجة الثانية)، ولكنني لا أجد في هذه الخبرة نفعا من أي نوع كان. أنا لا أتعلم شيئا. لا أطلع بأي شيء.
هل أي من هذا مألوف لديك؟ هل يمس فيك وترا تعرفه؟ هل الرياضة ببساطة هي كالخطيئة: يستهجنها المرء لكنه يتوق إليها بدافع من ضعفه البشري؟
صديقك إلى الأبد
جون

***

فدق دابوسون
باريس
10 يناير 2009
عزيزي جون
وصلتني رسالتك المفاجئة الطريفة المرسلة في الثلاثين من ديسمبر قبل ساعتين من خروجي متجها إلى المطار. أنا الآن في أوربا من جديد، في باريس القارسة، والساعة الثانية عشرة ظهرا بالضبط، جالس في غرفتي في الفندق، غير قادر على الاستمرار في قيلولة كنت أرجو أن تزيح عني آثار ليلة بلا نوم. سامحني على الورق المضحك هذا، وعلى القلم الجاف السخيف. فغرف الفنادق في باريس، لسبب ما، غير مزودة بآلات كاتبة ...
مشاهدة المباريات على التليفزيون
أتفق معك أنه نشاط تافه، مضيعة حقيقية للوقت. ومع ذلك ما أكثر الساعات التي ضيعتها من حياتي بهذه الطريقة على وجه التحديد، وكم من أصائل بددتها كما فعلت أنت في الثامن والعشرين من ديسمبر. الحسبة كلها لا بد أن تكون صادمة، ومجرد التفكير فيها يملؤني بالخجل.
تتكلم (مازحا) عن الخطيئة، لكن ربما المصطلح الحقيقي هو "المتعة المصحوبة بإحساس بالذنب" أو ربما "المتعة" وحسب. في حالتي أنا، الرياضات التي أهتم بها هي التي كنت ألعبها بانتظام في صباي. يجد الواحد نفسه فاهما اللعبة فهما حميميا، ومن ثم يكون قادرا على تقييم براعة المحترفين ومهاراتهم المدوخة في كثير من الأحيان. لا أبالي مطلقا بهوكي الجليد على سبيل المثال لأنني لم ألعبه قط ولا أفهمه حقا. وفي حالتي أيضا، أميل إلى التركيز على فرق معينة ومتابعتها. وانغماس المرء في المشاهدة يزداد عمقا حينما يكون اللاعبون مألوفين له فردا فردا، فكل منهم شيء معلوم، وهذه الألفة تزيد المرء قدرة على احتمال الملل، في كل تلك اللحظات السقيمة التي لا يحدث فيها أي شيء من أي نوع.
لا شك أن في الرياضة مكوِّنا سرديا قويا. نحن نتابع التفافات الصراع وانعطافاته لنعرف النتيجة النهائية. لكن لا، ليست بالضبط كقراءة كتاب ـ على الأقل ليس كالكتب التي نكتبها أنت وأنا. لكنها قد تكون على علاقة وثيقة ببعض أنواع الأدب. فكر مثلا في روايات الإثارة، والروايات البوليسية ...
[حالا: اتصال من صديق ينتظرني بالأسفل. أنا مضطر أن أذهب، وسأكمل عندما أعود] وبعد ثلاث ساعات
... التي تبقى دائما نفس الكتب، تتكرر بلا نهاية، آلاف التنويعات البسيطة على نفس القصة، ومع ذلك تجد الجمهور جائعا إلى هذه الروايات جوعا رهيبا. وكأنما كل واحدة هي أداء جديد لطقس ما.
نعم، الجانب السردي هو الذي يبقينا حتى اللعبة الأخيرة، حتى دقة الساعة الأخيرة، ولكنني بصفة عامة أميل إلى النظر إلى الرياضة بوصفها نوعا من الفن الأدائي. أنت تشكو من إحساس الديجافو في كثير من الألعاب والمباريات. لكن ألا يحدث لك مثل هذا عندما تذهب إلى حفل يقدم سوناتا البيانو المفصلة لديك من أعمال بيتهوفن؟ أنت تعرف المقطوعة عن ظهر قلب ولكنك تريد أن تسمع كيف سيكون تفسيرها لدى عازف البيانو هذا بالذات. فهناك عازفو بيانو مشاءون، وهناك عداءون، ثم يأتي من يجعلك تحبس أنفاسك.
لا أعتقد أن حفلين موسيقيين تشابها يوما تمام التشبه، في كل حركة. ربما. ندف الثلج جميعها تبدو متشابهة، ولكن الحكمة السائرة تذهب إلى أن لكل منها فرادتها. أكثر من ستة بلايين إنسان يسكنون هذا الكوكب، ويفترض أن بصمة أصابع كل واحد منهم تختلف عن أي شخص سواه. وفي مئات مباريات كرة القاعدة التي شاهدتها ـ وربما الآلاف ـ هناك في كل واحدة تقريبا تفصيلة صغيرة أو حدث ما لم يمر بي من قبل في أي مباراة أخرى.
الجديد فيه متعة، والمعروف أيضا فيه متعة. متعة تناول طعام يعرفه المرء، متعة الجنس. مهما تكن غرابة الحياة الإيروتيكية للواحد منا، الأورجازم أورجازم، ونحن ننتظره بمتعة منبعها المتعة التي عرفناها فيه والتي منحها لنا في الماضي.
ومع ذلك، يظل المرء يشعر بالغباء بعد أن ينفق يوما كاملا أمام التليفزيون يشاهد الصغار يتدافعون بأجسادهم. الكتب الموضوعة على المنضدة لم تقرأ بعد. لا تعرف فيم مضت الساعات، والأسوأ، أن فريقك خسر. لذلك أقول لك من باريس، وأنا عارف أن عمالقة كرة القدم في نيويورك سوف يلعبون غدا مباراة مهمة وحاسمة ضد فريق قوي من فيلادلفيا، وأنني لن أتمكن من المشاهدة، وأن هذا يملؤني بالندم.
مع سلام هائل لك عابر للمحيطات والقارات
بول

***

26 يناير 2009
عزيزي بول
الظاهر أنك تتعامل مع الرياضة بوصفها مسألة جمالية بالأساس، ومع متع مشاهدة الرياضة بوصفها متعا جمالية بالأساس. وأنا تراودني شكوك إزاء هذا النهج، ولجملة من الأسباب. لماذا تكون كرة القدم بيزينس ضخما في حين لا بد للباليه ـ وهو ذو جاذبية جمالية أرقى بالتأكيد ـ من الدعم؟ لماذا تبقى المنافسة "الرياضية" بين الروبوتات شيئا بغير أهمية؟ لماذا النساء أقل اهتماما بالرياضة من الرجال؟
ما يتجاهله النهج الجمالي هو الاحتياج إلى الأبطال، ذلك الاحتياج الذي تشبعه الرياضة، والذي يكون أمسَّ ما يكون لدى الصبية الصغار فينشئ فيهم حياة فنتازية منتعشة، وإنني أشك في أن تكون بقايا هذه الفنتازيا الطفولية هي التي تضرم في الكبار ارتباطهم بالرياضة.
وأنا حينما أستجيب ـ بقدر ما ـ إلى الجانب الجمالي في الرياضة، تكون لحظات الجمال (الجمال: يا لها من كلمة معقدة!) هي التي أستجيب لها، لحظات الحركات (كلمة أخرى مثيرة) التي لا يمكن أن تكون موضوع تخطيط منطقي بل تبدو وكأنها نوع من البركة التي تحل من أعلى على اللاعبين الفانين، لحظات يتخذ فيها كل شيء وجهته الصحيحة، فكل الضربات في مواضعها، لحظات لا يرغب المشاهدون خلالها حتى في التهليل، إنما هو حمد صامت على أنهم كانوا على ذلك من الشاهدين.
لكن أي رياضي هذا الذي يريد ثناء على جماله في الملعب؟ حتى الرياضيات سوف يلقين عليك نظرة قاسية. الجمال، والجميل: تلك مصطلحات مخنثة.
لو أنني أنظر في قلبي نفسه وأسأل لماذا وأنا في مغرب أيامي لا أزال في بعض الأحيان مستعدا لقضاء ساعات في مشاهدة الكريكيت على الشاشة، لا بد لي أن أقول ـ مهما بلغ هذا من عبث ومن إفراط في الطموح ـ إنني لا أزال أبحث عن لحظات البطولة، لحظات النبل. بعبارة أخرى، أساس اهتمامي أنا أخلاقي أكثر منه جمالي.
عبثي الأمر، لأن أكثر الرياضة الاحترافية الحديثة لا تبالي بالأخلاق: إنما هي تستجيب لتوقنا إلى البطولة بمظاهر البطولة. "صرخنا طالبين الخبز فأعطيتنا الحجارة"[1].
في حوار ما بعد المبارة. نرى ذلك الذي ظل على مدى ساعة أو اثنتين يهددنا بأنه سوف يتركنا ليرتقي وحده إلى مملكة ـ هي أدنى بخطوة واحدة من الجنة ـ يعيش فيها الأبطال، إذا به [في حوار ما بعد المباراة] مرغم على استئناف وجوده البشري المجرد، أي أن يتحلى طقسيا بالتواضع. يجد نفسه مرغما على القول "أيوة، لقد عملنا وتعبنا من أجل هذا، وتعبنا أثمر هذه النتيجة، والفضل لعمل الفريق".
المرء لا يعمل لكي يكون بطلا. أقصد أن ما تقوم به استعدادا للمنافسة البطولية ليس "عملا"، لا ينتمي إلى دائرة الإنتاج والاستهلاك. الاسبرطيون في تريموبولاي Thermopylae كانوا يتقاتلون معا ويموتون معا، وكانوا أبطالا جميعا، ولكنهم لم يكونوا "فريقا" من الأبطال. فريق الأبطال عبارة لا تستقيم بما تنطوي عليه من تناقض بين الكلمتين.
كل التوفيق
جون

***

بروكلين
2 فبراير 2009
عزيزي جون
أعتقد أننا لسنا مختلفين في هذا. كانت رسالتي من باريس في أغلبها تتناول آراءك أنت في مشاهدة الرياضة على شاشة التليفزيون (وهو موضوع ضيق لا يعدو أن يكون موضوعا فرعيا في الحوار العريض للغاية حول الرياضة بصفة عامة) وعن السبب الذي يجعلنا نختار ـ نحن الرجال الراشدين افتراضا ـ أن نهدر أصيل يوم أحد كاملا في متابعة أنشطة خالية جوهريا من المعنى يقوم بها رياضيون صغار في ملاعب كرة نائية. هذا ما يشيع وصفه بالمتعة المصحوبة بإحساس الذنب، لكنها متعة غالبا ما تتركنا ونحن نشعر أننا فارغون، بل ونشعر بالاشمئزاز من أنفسنا بعدما تنتهي المباراة.
حينما ألقي أوسع نظرة ممكنة، يدهشني أن موضوع الرياضة يمكن تقسيمه إلى فئتين كبيرتين: الإيجابي والسلبي. من ناحية هناك خبرة المشاركة في الرياضة نفسها. ومن ناحية أخرى، هناك خبرة مشاهدة الآخرين إذ يلعبون. ولما كنا بدأنا ـ كما هو واضح ـ بمناقشة الفئة الثانية، فسوف أبذل أقصى جهدي للبقاء حاليا في حدود هذا الشق من الأمر.
المكوِّن الأخلاقي الذي تشير إليه أمر في غاية الحيوية بالنسبة للصغار جدا. فأنت تعبد آلهتك وتريد أن تحاكيها، وكل منافسة هي مسألة حياة أو موت. غير أن هذه الجوانب ضعفت كثيرا في سني المتقدمة هذه، وبت أنزع إلى اكتشاف أنني أتابع المباريات من مسافة أبعد كثيرا، باحثا عن "المتعة الجمالية" أكثر مني ساعيا إلى إضفاء الشرعية على وجودي من خلال أعمال الآخرين. وليس بهدف التأكيد على النقطة، تعال نسقط منظور الشيخ حاليا من حساباتنا. تعال نرجع إلى البدايات ونتذكر ما الذي كان يجري لنا في ماضينا البعيد.
أنت تستخدم كلمة "البطولي" في موضعها الصحيح، بل إن استخدامك لها أمر لا غنى عنه من أجل فهم طبيعة هذا الهوس الذي يبدأ حتميا في فجر الحياة الواعية. لكن ما معنى الكلام عن البطولي فيما يتعلق بالطفولة المبكرة؟ أظن أن الأمر يتعلق في حالة الصبية الصغار بفكرة الذكورة، بتحديد الهوية الجنسية، بتهيئة المرء نفسه لأن يكون رجلا... لا امرأة.
ولقد ربيت طفلين ـ صبيا وفتاة ـ فكان يذهلني (ويسليني تسلية كبيرة في غالب الأحيان) أن أشاهد هويتيهما الجنسيتين إذ تتبديان وهما في حوالي الثالثة. في كلتا الحالتين، كان ذلك يبدأ من خلال محاكاة مفرطة ـ وشديدة المبالغة ـ لما يعنيه أن يكون المرء رجلا أو أن يكون امرأة. في حالة الولد، كان الأمر يدور حول سوبر مان والرجل الأخضر وتقمص الشخصيات الخيالية ذات القدرات السحرية الساحقة. وبالنسبة للفتاة (التي سألتنا وعمرها سنتان عما إذا كان سيحدث لاحقا أن يطلع لها قضيب) كان الأمر يتعلق بأحذية الحفلات، والكعوب العالية المنمنة، والجوبات بالغة القصر، والتيجان البلاستيكية، والهوس باقتناء دمى راقصات الباليه وأميرات الحواديت. تلك بضاعة كلاسيكية ولا شك، لكن لأن الصبية والفتيات يحتاجون لفترة حتى يفهموا أنهم صبية وفتيات، تكون خطواتهم الأولى نحو تحديد الهوية الجنسية متطرفة بالضرورة، وموسومة بالولع بالرموز والحلي الخارجية المرتبطة بجنس كل منهما. ولا يكاد الموضوع ينتهي (في الخامسة تقريبا) حتى ترى الفتاة التي كانت تصر على لبس الفساتين طول الوقت وهي تتقبل بكل سرور أن ترتدي البنطلون دونما خوف من أن تتحول صبيا.
وأنا طفل أمريكي في أوائل الخمسينيات، بدأت تقليد حياة رعاة البقر الذكورية. ومرة أخرى كان الأمر كله يتعلق بالمظاهر الخارجية، الحذاء طويل الرقبة، القبعة، المسدسان المعلقان في جرابيهما. ولأنه ما من راعي بقر يحترم نفسه كان يمكن أن يرضى باسم بول فقد كنت أصر كلما ارتديت زِيَّ غربي المتوحش أن تناديني أمي بـ جون ولا أرد عليها إن حصل مرة ونسيت. (أنت لم يحدث أن كنت طفلا أمريكيا يا جون، أم حدث؟)
ثم حدث ـ لا أتذكر بالضبط في أية لحظة، ولكن من المؤكد أنه حدث فيما بين الرابعة من عمري والخامسة ـ أن استولى عليَّ حبٌّ جديد، وطائفة جديدة من الرموز، وعالم جديد أثبت ذكورتي فيه: كرة القدم (في نسختها الأمريكية). لم أكن لعبت مباراة قط، ولا أظنني كنت أفهم أي شيء من قواعد اللعبة، ولكن حدث في مكان ما، بطريقة ما (ربما من خلال الصور الصحفية أو التليفزيون) أن استقر في رأسي أن لاعبي كرة القدم هم أبطال العالم الحديث عن حق. ومرة أخرى اقتصر الأمر على المظاهر الخارجية. لم أرد أن ألعب كرة القدم بقدر ما أردت أن ألبس زي لاعب كرة قدم، أن يكون عندي زي اللعب، وحققت لي أمي السمحة دائما أمنيتي واشترت لي الزي. الخوذة، والكتافات، وقميصا ذا لونين، والبنطلون المخصوص الذي يصل إلى الركبتين، وذلك كله مع الكرة الجلدية، فبت قادرا على النظر إلى نفسي في المرآة وتمثيل أنني لاعب كرة قدم. بل إن هناك صورا فوتوغرافية توثق الاستغلال الخيالي لهذا الصبي الصغير في زيه الأصلي، وهو الذي لم يلمس قط كرة في ملعب حقيقي، والذي لم يخرج بزيه هذا خارج نطاق حديقة الشقة الصغيرة التي كان يعيش فيها مع أبويه.
وفي النهاية، بطبيعة الحال، بدأت ألعب كرة القدم، وكرة القاعدة أيضا. وينبغي لي أن أضيف أنني كنت متفانيا تفاني المتعصبين، وكلما كنت أزداد اهتماما بالقيام بهذه الأشياء، كنت أزداد اهتماما بمتابعة أداء العظماء، المحترفين. وقد حكيت لك في البرتغال عن تلك الرسالة المتهورة شبه الجنونية التي بعثتها إلى أوتو جراهام Otto Graham (أفضل ظهير في تلك الفترة ونجم كليفلاند براونز فريق البطولات) أدعوه فيها إلى حفل عيد ميلادي الثامن، والرد الذي أوضح لي فيه أنه لن يتمكن من الحضور. منذ أن حكيت لك تلك القصة وأنا أفكر فيها، وأبحث عن مزيد من التفاصيل، محاولا أن أصل إلى فهم أعمق لدوافعي في ذلك الزمن. أتذكر الآن بوضوح كيف أنني تخيلت مجيء أوتو جراهام إلى منزلي وذهابي وإياه إلى الفناء الخلفي حيث مضينا نلعب الكرة. تلك ما يقال لها حفلة عيد ميلاد. لم يحضر أي ضيوف آخرين، لا أطفال ولا حتى أبويّ، ليس إلا شخصي ذا الثماني سنوات والخالد أوتو.
أرى الآن ـ بل إنني على أكبر قدر من اليقين ـ أن هذا الخيال ما كان يمثل غير رجاء في أب بديل. ففي أمريكا عقلي الطفل كان يفترض بالآباء أن يلعبوا الكرة مع أبنائهم، ونادرا ما كان أبي يلعب معي، ونادرا ما كنت أجده متاحا بأي من الطرق التي كنت أتخيل أنه يفترض أن يجد عليها الأبناء آباءهم، فدعوت إلى بيتي بطل كرة القدم راجيا الرجاء الخائب في أن يمنحني ما عجز أبي دوما عن منحي إياه. فهل الأبطال جميعا آباء بدلاء؟ وهل لهذا السبب يبدو الأولاد أحوج إلى الأبطال من البنات؟ ألا يعدو تركيز الصغار على الرياضة مثالا آخر للنضال الأوديبي الدفين؟ لا أعرف. لكن جنون جماهير الرياضة وهوسهم ـ لا أقول جميعهم، ولكن عدد هائل منهم على أية حال ـ لا بد أن يكون نابعا من موضع عميق في الروح. ثمة في هذا الصدد ما هو أكثر من التلهي العابر أو التسلية.
لا أعني هنا أن فرويد هو الوحيد الذي يمكن أن يكون لديه ما يقوله في هذه المسألة، لكن لديه ولا شك ما يضيفه إلى حوارنا هذا.
أعرف أنني أرد على ملاحظاتك في الغالب بحكايات عن نفسي. لكن افهم: أنا غير مهتم بنفسي. إنما أقدم لك دراسات حالة، قصصا عن أي أحد.
مع أدفأ الأفكار
بول

***

15 مارس 2009
عزيزي بول
تكتب عن تعلق الطفل الذكر الصغير بالأبطال الرياضيين، وتمضي فتفرق هذا عن نزوع الكبار إلى نشدان الجمالي في الفعاليات الرياضية.
وأنا مثلك أعتقد أن مشاهدة الرياضة على شاشة التليفزيون تضييع للوقت في أغلب الحالات. ولكن هناك لحظات لا تكون وقتا ضائعا، كتلك التي كانت تظهر لنا بين الحين والآخر في أيام [لاعب كرة المضرب] روجر فيديرر ـ على سبيل المثال. وفي ضوء ما تقوله، أعيد الرجوع في الذاكرة لأدقق في هذه اللحظات، أعود إلى فيديرر إذ يضرب بظهر المضرب كرة عابرة للملعب. وأسأل نفسي: هل الجمالي حقا، أو الجمالي وحده، هو الذي يحيي لي هذه اللحظة؟
يبدو لي أن فكرتين تعبران بذهني إذ أشاهد: (1) لو أنني قضيت مراهقتي في التدرب على مثل هذه الضربات الخلفية بدلا من ... إذن لأمكنني أنا الآخر أن ألعب ضربات كهذه فأجعل الناس في شتى أرجاء العالم يحبسون أنفاسهم من فرط الذهول؟ وتليها: (2) وحتى لو كنت قضيت مراهقتي كلها أتدرب على اللعب بظهر المضرب ما كنت لأقدر على ضربة كتلك، ليس في ظل توتر المنافسة، ليس وقتما أشاء. ومن بعد: (3) لقد رأيت للتو شيئا هو في الآن نفسه إنساني ومجاوز لما هو إنساني، لقد رأيت للتو شيئا أشبه ما يكون بمثال تحقق.
ما أود أن ألاحظه في هذه المجموعة من ردود الفعل هو الطريقة التي يسبق فيها الحسد إلى الظهور في رأسي ثم تبدده. يبدأ المرء يحسد فيديرر، ثم ينتقل من هذا إلى الإعجاب به، ثم ينتهي المرء لا حاسدا ولا معجبا بل فخورا بإدراك ما لبشر ـ بشر مثلي ومثلك ـ أن يفعله.
وذلك ما أجده شديد الشبه بردود أفعالي على الروائع الفنية التي قضيت فيها (في تأملها وفي تحليلها) وقتا كثيرا إلى الحد الذي أصبحت عندي فيه فكرة جيدة عن طريقة إنتاجها: يمكنني أن أرى كيف تم عملها، ولكن ما كان يمكن لي أن أنتجها بنفسي، ذلك يتجاوز قدرتي، ولكن الذي أنتجها رجل مثلي (أو امرأة بين الحين والآخر)، فيا له من مجد أن أنتمي للسلالة التي يمثلها هذا الرجل (وبين الحين والآخر هذه المرأة).
وفي تلك المرحلة لا يعود بوسعي أن أميز الأخلاقي عن الجمالي ...
مع أطيب الأمنيات
جون

***

بروكلين
16 مارس 2009
عزيزي جون
... يمكن أن ننحي الرياضة جانبا لو أحببت، ولو أنه كان في نيتي أن أسهب كثيرا في الجزء الثاني من السؤال (أي المشاركة في الرياضة بدلا من مشاهدة الآخرين وهم يمارسونها): عن لذة المنافسة، وتوتر التركيز اللازم الذي يمكنِّك في بعض الأوقات من تجاوز حدود وعيك، ومفهوم الانتماء إلى فريق، وضرورة تقبل الفشل، ومواضيع أخرى كثيرة. ولعلي في مرحلة قادمة أجلس فأكتب تلك الرسالة حتى لو كنا في غمار شيء آخر. فلا يزال هذا الموضوع يثير اهتمامي كثيرا.
أما عن إحساسك بالفخر وأنت تشاهد فيدرر في أيام مجده، فأنا معك تماما. إحساسك بالرهبة إذ ترى إنسانا مثلك يحقق مثل هذه الأشياء، إذ ترى أننا (كسلالة) لسنا مجرد هذه الديدان التي غالبا ما نبدو أننا لا نزيد عنها بل نحن قادرون أيضا على تحقيق المعجزات ـ في كرة المضرب وفي الموسيقى، وفي الشعر، وفي العلم ـ وأن الحسد والإعجاب يذوبان في إحساس طاغ بالبهجة. نعم، أتفق معك تماما. وهنا هو الموضع الذي يمتزج فيه الجمالي والأخلاقي. وليست لدي حجة معارضة، فأنا عن نفسي غالبا ما شعرت بمثل هذا.
مع أروع الأفكار
بول

***

6 ابريل 2009
عزيزي بول
قبل أن تقول لي أفكارك عن لذة المنافسة، عندي تعليق استباقي.
في مطلع العشرينيات من عمري، كنت منغمسا في الشطرنج حتى أذني. وكنت ـ على مدار سنوات ـ قد قضيت أغلب أيام عملي في كتابة الأكواد للكمبيوتر، وكنت أشعر أنني مستلب في هذه المسألة استلابا كان يشعرني في بعض الأحيان أنني أهوي إلى جنون يستولي فيه المنطق الآلي على عقلي.
وأدركت نفسي فتركت الكمبيوتر وسافرت إلى الولايات المتحدة للدراسات العليا. وعلى متن السفينة العابرة للأطلنطي (نعم، في ذلك الزمن كان بوسع المرء أن يسافر بالبحر إذا لم يكن لديه ما يكفي من المال، في رحلة كانت تستغرق خمسة أيام) اشتركت في مسابقة شطرنج وصلت فيها إلى الجولة النهائية وكان خصمي فيها طالب هندسة من ألمانيا اسمه روبرت.
بدأت مباراتنا عند منتصف الليل. وطلع الفجر وكنا لم نزل منحنيين على الرقعة. كان روبرت يزيد عني بقطعة، لكنني كنت أشعر أن الأفضلية التكتيكية لي أنا. أخذ آخر المتفرجين القلائل المتبقين حول المنضدة ينسحبون راغبين في أن يحظوا بنظرة إلى تمثال الحرية. وبقينا وحدنا أنا وروبرت.
وكان أن قدم لي روبرت عرضا. "سأمنحك التعادل". قلت "أوكيه". وقفنا، تصافحنا، ونحينا الرقعة.
كان هو متقدما بقطعة، وأنا كانت لي الأفضلية التكتيكية، كان التعادل إذن تسوية منصفة، صح؟
رسونا. صرت في مدينة نيويورك الخرافية. ولكن حالة المسابقة لم تزايلني، حالة الإثارة الدماغية، حالة الحمى، والقليل من الغثيان، وكأنما أعاني التهابا حقيقيا في المخ. لم يثر شيء انتباهي من كل ما كان حولي. كان ثمة ما لا يكف عن الطنين بداخلي.
مررت أنا وزوجتي من الجمرك ثم وجدنا طريقنا إلى محطة الأتوبيسات. كان علينا أن نستقل أتوبيسين مستقلين، هي إلى جورجيا لتقيم مع أصدقائها وأنا إلى أوستن لأبحث عن مكان نعيش فيه. ودعتها شارد الذهن. كل ما كنت أريده هو أن أكون وحدي، فأعيد مباراة الشطرنج على الورق وأدحض الشك الذي كان ينخسني. طوال الطريق إلى تكساس في أتوبيس جريهاوند (يومان؟ ثلاثة؟) وأنا أدرس خربشاتي، متحققا من هاجس يقول لي إنني ما كان ينبغي أن أقبل بالتعادل ـ وأنه في غضون ثلاث نقلات أو أربع أو خمس كان روبرت الألماني سيجد نفسه مرغما على الاستسلام.
كان ينبغي في ذلك الوقت أن يكون على شفتي أول كأس من مشاهداتي في العالم الجديد. كان ينبغي أن أكون مستغرقا في التخطيط لحياتي الجديدة الممتدة أمامي. لكن لا، كنت في قبضة الحمى. كنت أصارع الجنون في هدوء. كنت رجلا مجنونا في آخر الأتوبيس.
تلك الواقعة هي التي تخطر على ذهني عندما تكتب عن لذة المنافسة. ما يرتبط بالنسبة لي بالمنافسة ليس اللذة إطلاقا، بل حالة استلاب يكون فيها تركيز العقل منصبا على هدف واحد عبثي: أن يلحق بالهزيمة بغريب ليس له أي اهتمام به، ولم يقابله من قبل ولن يراه من جديد.
ذكرى معاناتي نوبة الجذل تلك، قبل نحو نصف قرن، هي التي حصنتني إلى الأبد من الرغبة في أن أكون الفائز مهما يكن الثمن، في أن أهزم هذا الخصم أو ذاك وأتربع على القمة. لم ألعب الشطرنج منذ ذلك اليوم. لعبت رياضات أخرى (كرة المضرب، والكريكيت) وركبت الدراجة كثيرا، ولكني لم أكن أطمح في كل ذلك إلى أكثر من أن أبذل أقصى ما أستطيع بذله. أما الفوز والخسارة ـ فليست لأي منهما أية أهمية؟ وحكمي على إجادتي من عدمها مسألة شخصية، أمرها بين نفسي وما يحلو لي أن أسميه ضميري.
لا أحب من الرياضات ما تحمل نفسها على محاكاة الحرب، فيكون المهم فيها هو الفوز، ويكون الفوز مسألة حياة أو موت، تلك الرياضات التي تخلو من الجمال، مثلما تخلو الحرب من الجمال. وفي أعماق عقلي، رؤية مثالية ـ لعلها ملفقة ـ لليابان، حيث شخص يحجم عن إلحاق الهزيمة بخصمه لأن ثمة عارا في الهزيمة وعارا في إلحاق الهزيمة.
أفضل الأمنيات
جون

***

8 ابريل 2009
عزيزي جون
... قصة الشطرنج التي حكيتها ـ وهي أيضا قصة رعب من نوع ما ـ تجعلني أعيد النظر فيما أعنيه بـ "المنافسة".
(لي سنوات لم ألعب الشطرنج، لكنني في مرحلة من حياتي، في مطلع العشرينيات من عمري كنت منغمسا فيه، مثلك. هي بلا جدال اللعبة الأكثر استحواذا، وأكثر لعبة اخترعها الإنسان تدميرا للعقل. بعد فترة وجدت أني أحلم بالنقلات في نومي، فقررت أنني لا بد أن أتوقف عن اللعب وإلا أصابني الجنون).
عندما استخدمت عبارة "لذة المنافسة"، أظن أنني كنت أشير إلى إحساس الانطلاق الذي ينتابك عندما تمنح نفسك بالكلية للعبة، والنفع الذي يجنيه الجسم والعقل من جراء التركيز المطلق في مهمة معينة في لحظة معينة، إحساسك بأنك "خارج نفسك"، وتخففك مؤقتا من عبء وعيك بذاتك. الفوز والخسارة لازمان لكنهما عاملان ثانويان، ما هما غير مبرر لكي يبذل المرء أقصى جهده في إجادة اللعب، ذلك أنه بغير بذل أقصى الجهد، لا يمكن نيل اللذة الحقيقية.
كان المران بهدف المران ولا يزال مضجرا لي.الثني والمد، والهرولة في التراك "حفاظا على اللياقة"، ورفع الأثقال، واللعب هنا وهناك بكرة طبية، كل هذه الأشياء لا تترك الأثر الصحي الذي تحققه المنافسة. أنت إذن تحاول الفوز بمباراة تلعبها، تنسى أنك تجري وتقفز، تنسى أنك فعليا تنال جرعة صحية من المران. تفقد نفسك فيما تفعله، ولأسباب لا أفهمها فهما كاملا، يبدو أن هذا الفعل يبث فيك سعادة بالغة. وثمة أنشطة أخرى فوق بشرية بالطبع ـ من بينها الجنس، وإنتاج الفن أيضا، وتلقي الفن أيضا، ولكن الواقع يقول إن العقل يتجول أحيانا أثناء الجنس ـ الذي لا يكون في جميع الحالات مجاوزا ـ وأثناء إنتاج الفن (وانظر إلى كتابة الروايات) ويمتلئ بالشكوك، والتوقفات، والإزالات، ولا يكون بوسعنا طوال الوقت أن نمنح تركيزنا كله لسونيتا شكسبير التي نقرؤها أو أوراتريو باخ التي ننصت إليها. أما إذا لم تكن بكليتك منغمسا في المباراة التي تلعبها، فإنك في الحقيقة لا تلعبها.
ولا ينبغي أن نتغاضى عن مسألة الإنهاك. لو أن جسمك تعب في غمار مباراة، فقد فقدت تركيزك ورغبتك في الفوز (أي المقدرة على بذل أقصى الجهد). ولذلك لا يلعب الرياضات الشاقة التنافسية إلا الشباب، ولذلك أيضا ينتهي أغلب الرياضيين المحترفين ولما يبلغوا بعد منتصف الثلاثينيات. ولكن ثمة لذة أكيدة في محاولة المرء تجاوز حدوده التي يعرفها، ومواصلته بذل أقصى الجهد حتى بعد زوال طاقته.
وإنني أتذكر بصورة جلية آخر مآثري في المجد الرياضي. قبل أكثر من عشرين عاما كنت ألعب في دوري ناشري نيويورك لكرة القاعدة مرة كل أسبوع في حديقة سنترال بارك ضمن فريق فايكنج بِنْجِوِن (ناشرك الحالي، وناشري السابق). كانت الفرق مختلطة، والمباريات متهاونة، وكنت أقترب من الأربعين أو تجاوزتها، فكنت أستمتع بإعادة تنشيط عضلاتي الكروية ولكنني (بقوة العادة أو الحالة المزاجية) كنت ألعب بجدية. وذات مساء، وأنا واقف في موقعي من الملعب (في القاعدة الثالثة)، ألقى اللاعب الكرة بعيدا جهة اليمين. ولما رأيت منحنى الكرة عرفت أنه لا فرصة لي في نيلها، ولكن (ومرة أخرى بقوة العادة أو الحالة المزاجية) تتبعتها على أية حال. دافعا بأسرع ما استطعت ساقين تجاوزتا الشباب، أخذت أجري لمدة بدا لي أنها تبلغ عشر دقائق، وأدركت أن نعم، هناك فرصة، وفي اللحظة الأخيرة، وقبل أن ترتطم الكرة بالأرض، اندفعت بأقصى ما أستطيع، والتقطت الكرة بأقصى طرف قفازي، وأنا أزحف ببطني على العشب. لا تنس أنها كانت مباراة لا قيمة لها، فما هي إلا منافسة ودية بين محرري كتب هازلين، وموظفي سكرتارية واستقبال وصادر ووارد، ومع ذلك أردت أن أندفع وراء تلك الكرة لا تدفعني غير رغبة بسيطة في أن أدفع نفسي، أن أرى إن كانت بداخلي القدرة على الإمساك بها. انقطع نفسي طبعا، وكانت ركبتاي ومرفقاي تتألم بشدة، ولكنني كنت أشعر بالسعادة، بسعادة رهيبة وغبية.
أريد من هذا أن أقول إنني معك. ليست الفكرة في الفوز، بل في الأداء، أدائك أقصى ما في وسعك. مباراتك في الشطرنج مع ذلك الغريب على متن السفينة وضعتك وجها لوجه أمام جزء شيطاني من نفسك، فلما رأيت ما صرت إليه، تراجعت مشمئزا. أنا لم أر مثل هذا قط. ولا أعتقد في حقية الأمر أنني شعرت يوما بمثل ذلك الجوع إلى الفوز الذي شعرت به أنت في مباراتك مع الألماني سنة 1965. فهل للأمر علاقة بالفارق بين رياضات الفرق والرياضات الفردية؟ لقد ظللت طوال فترة صباي ومراهقتي ألعب ضمن فرق (لكرة القاعدة وكرة السلة بالأساس) ونادرا ما نافست في مسابقات فردية (كالجري، والملاكمة، وكرة المضرب). ومن بين مئات المبارايات التي شاركت فيها، أظن أن الفرق التي لعبت لها كانت تكسب بقدر ما تخسر تقريبا. كان الفوز دائما، وطبعا، أكثر إمتاعا من الخسارة، ولكنني لا أذكر حتى إحساسي أن الخسارة دمرتني، اللهم إلا في المرات القليلة التي كنت أتسبب فيها في إفساد لعبة حاسمة فأشعر بالمسئولية وقد خيبت توقعات زملائي.
غير أنني أتصور أن الرياضات الفردية تجعل الأنا أكثر تورطا بكثير، ومن ثم أكثر تعرضا للمخاطرة. ومن هنا اضطرارك رغم أنفك إلى إعادة مباراة الشطرنج في تلك الرحلة الرهيبة إلى تكساس. لقد كنت تشعر أنك اللاعب الأفضل، ثم أثبت ذلك، ولمت نفسك لأنك قبلت بالتعادل. ولكن ما الحال لو أن العكس هو الصحيح، عندما تعرف أنك لست اللاعب الأفضل؟
إنني أفكر في كرة المضرب، وهي رياضة لم أقض معها وقتا كبيرا ولم أبرع فيها قط (ضرباتي الخلفية بشعة) ولكنني مع ذلك أحب أن ألعبها. أبي، الذي كان يعيش كرة المضرب ويتنفسها، بل الذي يتحدد مجرد وجوده نفسه بحبه للعبة (لسنوات طوال كان يستيقظ في السادسة صباحا ليقضي معها ساعتين قبل أن يذهب إلى شغله)، أبي هذا كان لا يزال قادرا أن يفوز عليّ وهو في الستينيات وأنا في العشرينيات. وبرغم أنني كنت أعلم أنني في الغالب لن أستطيع أن أفوز، كنت أبذل أقصى الجهد في لعبي معه، وأقيس نجاحي بمدى قدرتي على الاحتفاظ بالكرة داخل الملعب، على مدى إحساسي بتحسن مستواي، إلخ. لم تكن الخسارات تؤلم. في المقابل، أرى بعض الانتصارات جوفاء، بل وكريهة. قبل خمسة عشر عاما أو ثمانية عشرة، لعبت كرة المضرب مع كاتب صديق تبين أن مستواه ضعيف للغاية، مأساوي الرداءة، لدرجة أنه لم يتمكن من احصول على نقطة واحدة مني. لم أشعر بلذة في الفوز. لم أشعر إلا بالرثاء لخصمي الشجاع البائس الذي قفز إلى طرف المسبح العميق وهو لا يجيد العوم.
وإذن، لذة المنافسة تبلغ ذروتها عندما يتساوى الخصمان.
مع أفضل الأفكار
بول

===============
*هذه الرسائل مأخوذة من كتاب صدر حديثا بعنوان "هنا والآن: رسائل (2008-2011)، وهو كتاب يضم الرسائل المتبادلة بين جيه إم كوتزي وبول أوستر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى