عبد الواحد كفيح - التناغم الجمالي بين دهشة السرد وجمال الطبيعة في رواية "موّال أطلسي" للمبدعة سعيدة عفيف

إذا ما اعتبرنا -في هذا المدخل الذي لا بد منه- أن لكل عمل روائي منطقه الفني الخاص وكيانه ومنظوره وأسئلته وخصائصه الفنية الخاصة به، فرواية موال أطلسي أو "أمّ الثلوج" كما أحببت أن أصفها، لها من بهجة السرد والوصف وحيويته ما يضعها في قائمة الروايات المتميزة التي تستند إلى منظور جمالي يعتني باللغة والوصف ويجعل منها عنصرا أساسيا، إذ لا تتغيى في بنيتها السردية تقديم عنصر التشويق والسرد الرتيب ومواكبة الأحداث بقدر ما تحتفي بالمشاهد الوصفية التي لها أكثر من معنى ودلالة، في عوالم قرية "أم الثلوج" ومميزاتها الطبيعية هناك في جبال الأطلس.
في مطلع الرواية فيض من البوح الآسر المدهش الحزين، حيث في البدء، كان "الألم باق" كان وباق بوح السارد الراوي المشار إليه في الأحداث، بل يشكل عصب الأحداث. يهمس لنفسه أن الألم باق بنفسه مع باقي بني جلدته من القرويين أبناء سليلي قرية "أم الثلوج" هناك على قمم الأطلس المتوسط، حيث قساوة العيش وقساوة الفقر والطبيعة التي حجرت القلوب وجعلت البوح بالحب وإبداء الفرح ومشاعر الحزن أمرا معيبا ومخجلا ينبغي بل يجب إخفاؤه (ص12)، إذ يتحدث أب البطل السارد مختار أنهم هناك في قرية البؤس كمن يصارع الهواء وهم يواجهون مصاصي الدماء من أبناء جلدتهم. ويسترسل شلال السرد هادئا ليرفع القناع عن لعبة تنكرية يلعب فيها الكبار دور الداعين للديمقراطية التي تنمّ معانيها بالواضح الملموس عن تزوير واضح لإرادة الناس الغلبة، فيستحكمون في رقاب العباد باسم الانتخابات والإرادة الشعبية في مناطق تحتاج إلى الخبز أكثر مما تتصارع على الزعامات.
عادة ما نركز في كتاباتنا على أن الريف أساس في تشكل العلاقات الاجتماعية الأصلية المؤدية إلى بناء مجتمع تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، بيد أن أحداث "موال أطلسي" تؤكد على أنه ما زال الوقت طويلا كي تتحقق هذه المقولة لما جاء في الرواية من صراع قوى المصالح العليا وقوى المصالح الذاتية الشخصية؛ كما أن المدينة هي أيضا كمنتجة للنخب، أضحت بالنسبة للبطل محطة عبور ليس غير، ومكانا لأداء واجب وظيفي صرف كآلة، فبدا موقفه منها موقف الرفض وعدم الانسجام مع حياة المدينة، والدليل في ذلك هي الراحة النفسية التي يجدها في القرية حتى وهو يقطع المسافات الطوال مغامرا في طرق وعرة بالليل والنهار، حيث هناك يجد الاستقرار النفسي والإحساس بالراحة يهدئ من ضغوطه الحياتية وسرعة إيقاع الحياة المدينية بالرغم من أن هناك بالمدينة نبت حب كبير.

يغوص السارد عميقا في ذاكرته المعتَّقة بالأحداث وخاصة حكايته التي يصرُّها حامية في صدره ويفتح أزرار ذاكرته كلما لاذ بنفسه للوحدة، حيث يفتش في أوراقه البالية مستحضرا حبا ملغزا ساد ثم باد، جعل من مكان عمله بالمدينة وقريته "أم الثلوج" جسرا تمر فوقه أحداث وأحداث، غير أن أحداث القبيلة تستأثر بالنصيب الأوفر.
مع كل عودة لأم الثلوج ينشد التطهر والكاتارسيس من فوضى عوالم المدينة، فيغوص عميقا في ذاته وفي أعماق الطبيعة العذراء البكر هناك وفي نظرة بانورامية كتصوير فني سينمائي، تصف الكاتبة كونا فسيحا، صخور ووديان، نسائم الأصيل، الجبل، الطرق الممتدة على أعناق الجبال في المنعرجات والنباتات، الأشجار والروائح، فدادين وحقول أشجار اللوز والجوز في الأسفل والبنايات الملتصقة على صدر الجبل الذي يحضنها بحنو منذ الأزل.
يأسَرُك جمال الطبيعة الفاتنة الساحرة التي أتقنت الكاتبة في نقل أجوائها، حيث ترتمي في أحضانها بين السطور. وأفردت مقاطع فنية غاية في الإبداع والروعة وهي تقدم للقارئ بحيرة العشاق والإحالة على أساطير العشق الأمازيغية في غمز ولمز لإسْليِ وتَسْلِيتْ في ترميز غير مقصود، حيث هناك يندهش القارئ لجمال الطبيعة المدهشة ويجعله يركن إلى دواخله وذاته، فيأتي التطهر طورا آخر في البحيرة من ماء البحيرة، فتطوف بنا الكاتبة في الليالي المقمرة ، فيتخلق أثناء السرد طور آخر من التطهر بالبوح (يشفي عصبيتي) في جو مثير "للإفصاح عن مكنونات النفس والأشياء المخبوءة فيها (ص23)، فنعرب عن ذلك في "نحن لا نتخمر ولا نسكر، نحن نتألق ونتطهر" وهو بمعية صديقه حمودة يرقبان عن قرب قصيدة فاتنة باذخة تمشي على رجليها، عاشق ومعشوقته في نجوى وبوح حميمي حد التعري والغوص والطفو في البحيرة لملاكين سقطا من السماء ولن يعودا إليها، هبة ربانية جعلتهم يستفيقان من خمرة "الماحية" ويسكران بشلالات العسل الضاجة الفوارة بين جسدين بلوريين في خلقهما البدئي، في عري شبقي حيث الندى والماء والرضاب والعرق يشتعلان على صفحة البحيرة التي تتلألأ إثر انعكاس الضوء الخفيف، لوحة طبيعية ترقى لأروع اللوحات التشكيلية العالمية استطاعت الكاتبة معتمدة على الخيال والقلم تطويرها بطريقة تشد نفس القارئ وبخُنّاقه بدهشة آسرة، الروائح والألوان والأصوات وامتزاج عناصر الطبيعة في طبق باذخ فتعرش في ذات الراوي، حيث اهتزت عواطف الراوي وحنينه لزمن حبه القديم ومشاعر الشاعر، فيذكر مختار كل شيء جميل يذكره في معشوقته الحاضرة الغائبة- يذكره في حب حليمة الضائع، وقفت طويلا إزاء هذه اللوحة الجميلة الرائعة، حيث الوصف الدقيق، بدأت تتشكل بالسرد والوصف في كيمياء عجيب، حتى دبت فيها الحركة وضخت فيها حياة حقيقية؛ إذّاك ينهمر الشعر متلألأ سيالا زلالا مباشرة (ص 29 و30-) وتعود الذكريات fead back تتدفق بوحا آسرا ومونولوجا داخليا وتأملا عميقا يفضي إلى طرح السؤال والتساؤل (ص33) "نحن في زمن صدئ؟ لم كل نقاش يفضي إلى أزمة إحساس؟ أين تكمن علّتنا؟ ماذا يفيد الحب إن لم يكن ينفي التباعد ويجمل البشاعة؟ أي امرأة تكونين كي تدركي في قمة الحب ألاّ حبّ؟" وتصهر الذات إلى أسئلة حارقة.
الانتقالات السلسة: انتقال الراوي من عالم الدهشة والنقاء والصفاء (قريته) أمّ الثلوج إلى عالم المدينة الوحش الشرس جعل الراوي البطل يحس بالخواء عوض الامتلاء: تبدو الأشياء (ضبابية والأحجام كبيرة فضفاضة وخالية من أي معنى) (ص37). والإحساس بالغربة فيتدفق الشعر كرة ثانية غزيرا في باقة باذخة، وذلك راجع لكون الكاتبة شاعرة قبل أن تكون ساردة: في المدينة ضياع من نوع آخر وضياع الأم الصدر الحنون وضياع الحب وضياع حياة القرية وهواء القرية، قريته مبرر وجوده في هذا العالم (ص39)، قريته مرتع الصبا وانتقاله إلى عالم غريب وعاد ليخلو إلى نفسه ويلتصق بوحدته كما يلتصق المحار في الصدفة، في محاولة لاكتشاف خفايا وخبايا الماهيات في هذا العالم الجديد ليشغل نفسه بذلك عن حنينه إلى (عالمي الذي خلفته ورائي) الزمن الضائع- قوقعتي التي صنعتها لنفسي ونزوعي إلى الوحدة، وفي لغة شاعرية باذخة يقول: (حلّقي أيتها الروح المتحرقة شوقا إلى مرتعك، ولسوف يلحق بك هذا الجسد الواهن بعد بضع ساعات...) فيما تشكل قريته أمّ الثلوج عزلة قاتلة ومنفى بالنسبة للذين يقطنون في ملكوت الجبال، وتشكل له هو الحياة في أجلى مظاهرها، تبدو له (كوردة ندية تفتحت للتو لتملأني بروائحها الفواحة، تذكرني بدفء حضن أمي وعبقها الراسخ في أعماقي) (ص43).
والانتقالات السلسة متعددة في مفاصل الرواية، حيث الانتقال من السرد بضمير المتكلم إلى ضمير الغائب حيث الراوي ثم الرجوع إلى ضمير المتكلم في تناوب سردي سلس، فلا تحس بهذه الانتقالات. القرية، حياة القرية موال متجدد وكل ما فيها يوقظ في السارد أحاسيس فطرية دفينة، فيقع نهب تضاد وصراع بين أفكار الهجرة والحريگ وحبه لموطنه (دهشة حمودة من عودته ودفوعاته) فتطفو على سطح السرد ترانيم سردية لترميم الذات المنكسرة جراء تذكر أولئك الذين يدفعون بأرواحهم إلى قوارب أحلامهم المعطوبة، لأن الوطن كما في (ص48) (يهبك حق الاختيار وحق تقرير المصير، انتحر برا أو بحرا أو حتى... أو رمي نفسك من علو شاهق)، فيختلط التاريخ العظيم لمقاومي معركة لهري الشهيرة بخنيفرة حيث اكتسب الناس هناك صلابة الطباع من قوة الجبال وصلابتها. والعودة كل مرة للموطن الأصل الذي يذكره بالأم وكيف أحال رحيلها قلبه صحراء قاحلة، ويتألم لما أصاب القرية من تكالب قوى الشر والأطماع ممثلة في الجمعية الأجنبية التي أحالت هدوء القرية إلى فوران وانزعاج وشد وجذب في الآراء، حيث انقسم الأهالي على أنفسهم ليبدأ صراع إثبات الذات وقبول الرأي والرأي الآخر.
لم تغفل الكاتبة أبدا وصف جمال الطبيعة، حيث تضج الرواية في كل تمفصلاتها بمشاهد الجمال ومقارنته بما يعيشه مختار بالمدينة، وبين الفينة والأخرى تطفو على مخيلة السارد أوجاع فقد العشيقة وما يثيره فيه صديقه حمودة من ألم وهو يقلب مواجعه حينما يسأله في (ص61) عن حليمة وعنوان حليمة. كما تختلق الكاتبة مواقف ومحاور للتعبير عن أفكار ومقارعة الأفكار للأفكار في أسلوب وتقنية الميتارواية، حيث الحديث عن الكتاب والكتابة الروائية واختيار الشخصيات التي عادة تنفلت من بين شراك الكاتب وتتملص منه وو.... كل ذلك في سلاسة سردية ماتعة وحتى تكسر السرد وتقطع خيط الثبات السردي ولإيهام القارئ بواقعية الحدث، تعود بنا الكاتبة إلى أسلوب الحوار وذلك في (ص68) حيث الحوار الجاد بين السارد مختار وصديقه حمودة يغوص في أركان الذاكرة مستعيدا شريط اللقاء الأول بحليمة لينطلق عقال السرد ويحكي عن المؤامرة الذئبية التي تحاك ضد الفلاحين من قبل الانتهازيين لنزع الملكية أو التنازل عنها طوعا أو كرها، لتنتفض روح الانتقام ويتم إطلاق الرصاص على رئيس الدوائر ليصرع لاقيا حتفه، وتبدأ سلسلة البحث عن الجناة.
ليعود السارد مطوقا المتلقي بهمه الأول وهو الحب الضائع الذي يصفه حمودة بحب واهم لامرأة لو كانت تحبه فعلا لما هجرته إلى عالم آخر. وهما في بوحهما الليلي، تتناهى لسمعيهما نغمات أطلسية على مقام الصبا، مواويل تسفح أوتار القلبين العليلين. هنا تظهر المواويل الغنائية والسردية الأطلسية الأمازيغية بكل عنفوانها وعمقها الروحي لتداهم القارئ نيران تلعلع وتلهب الفضاء، وفي تناص تشابهي تقابلي بين حرق روما وقريته "أم الثلوج"، استطاعت الكاتبة في وصف ذكي الإحالة على هذا المشهد الدرامي التاريخي وعلاقة ذلك بالنيران التي تلتهم القرية والفاعل ربما على قمة الجبل يطل على المشهد من عل.
وفي تضارب الحكايات والأسباب والمسببات في حرق ضيعات الملاكين الكبار، وبين القتل والدمار والحرق وتضارب المصالح وكل تلك الانتكاسات يكمن التشويق والإثارة، فينهمر على مدى بقية صفحات الرواية خليط سحري من سرد وشعر وزجل وشعر فرنسي، وهنا وجبت الإشارة إلى الثقافة الفرنكوفونية للكاتبة واطلاعها على لغة موليير وإتقانها، وقد ضمنت الرواية علاوة على الزجل والشعر مقاطع شعرية بلغة موليير (مالارميه نموذجا) لأن السارد شخصية مثقفة يراوح البوح بين فضاءات القرية والمدينة تشاركه همومه شخصية متعلمة من جهة وأب مكتظ بالتجارب، وتجربته هو مع حليمة التي يستحضرها في كل أوقات الشدة من تذكار برسائل من حليمة تناقش الأفكار الكبرى والقيم الإنسانية في شموليتها ومشاكل المجتمع و.... في شبه غياب البوح الحميمي الرومنسي الذي تنتظره من رسالة حب، لا أن تطرح التساؤل والسؤال الفلسفي والقضايا الكبرى، ومع ذلك، لا يمكن اعتبار ذلك فتورا في الروح العاطفية التي كان من المفروض مرة أخرى أن تكون جياشة فائرة لا ترى إلا ببؤبؤ القلب لا العين، بيد أن شخصية حليمة أنصتت لنداء العقل عوض صوت القلب كما ترغب الكاتبة في إظهار ذلك. ومن الملاحظات البديهية التي يمكن أن يخرج بها القارئ هي تمكن الكاتبة من الأخذ بزمام سلوك سارد ذكر وسبر أغوار النفس الذكورية في كل حالاتها بدقة متناهية نجحت في ذلك بدرجة ممتازة.
هذه رواية مواويل أطلسية كتبت بشعرية باذخة تستدعي منا الوقوف على خباياها والحفر عميقا حفرا أركيولوجيا في الذات والزمان والمكان لاستكناه المعاني الثاوية خلف السطور والمعاني بعيدة المنال في قراءة أولى. لقد تهاوت أحلامه وتهاوى كل ما بناه من آمال على حبه لحليمة، وفي إعادة قراءته للرسالة المتعقلة، هي محاولة منه لمواجهة الذات وإيجاد حالة من التوازن لديه تفاديا لأي انكسار روحي يدمر ما تبقى فيه...


عبد الواحد كفيح
قاص وروائي



1619729798997.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى