نبيل محمود - قراءة في المجموعة القصصية (في انتظار حَبّ الرْشاد) للأديبة سعيدة عفيف

الاغتراب والأنسنة الجمالية

الوجود مطبوعٌ بالصيروة ومحكومٌ بالتغيّر فيمتنع استقراره على صورة واحدة ثابتة. لذلك تُعاد كتابته، دوماً، بشكل جديد. والفن والأدب والذات المبدعة هي القادرة على سبر هذه الاختلاجات الخفية في الوجود والحياة. إن كل طموح (علموي) في الفن والأدب يحاول محاكاة النموذج العلمي لا يحقّق الكفاية المعرفية إن لم يفشل في الإحاطة بهذا النشاط الإنساني الخلاّق. فكل عمل فني أو أدبي حقيقي يتجاوز راهنيته، ويصير نموذج نفسه بالضرورة!. (لأن العمل الفني على حد قول الفيلسوف الإيطالي كروتشة هو شيء فريد في ذاته والأعمال الفنية ليست على الإطلاق مترادفة Synonyme، ولا يمكن أن نسلب العمل الفني فرديته لأنه موضوع مختلف كل الاختلاف عن أي منتج صناعي له مواصفات يمكن الاتفاق عليها بل بالعكس من ذلك يمكن للعمل الفني أن يحطم القواعد العامة والأساليب التقليدية المتعارف عليها ويكتسب مع ذلك قيمة جمالية.) (1) العمل الأدبي لا يقلّد أو يكرّر نموذجاً أولياً معطىً، فطبيعته وجوهره الابتكار لأنه تعبيرٌ عما يستجدّ في الحياة. لا بل ويمضي إلى أبعد مما هو كائن لتعقّب المرغوب به، متمزّقاً بين الرثاء والرجاء، ومتطلّعاً نحو أمل ما. ومن هنا ستكون قراءة هذا العمل ومقاربته فعلاً محايثاً للإبداع، لا يمكن حصره أو تقييده بإجراءات محدّدة سلفاً. فالقراءة في جوهرها نشاط حر كالإبداع ذاته. الكتابة كالحب رغبة عارمة في الحضور والوصال ضد الغياب والانفصال.

من قراءتي للمجموعة القصصية (في انتظار حَبِّ الرْشاد) للشاعرة والقاصة المغربية سعيدة عفيف، بدا لي أن الموضوع المهيمن على أغلب قصص المجموعة هو الاغتراب الإنساني، وما يرافقه من قلق وجودي عميق. فقصص المجموعة رصد لوجوه الغربة والغرابة في ما نظنه مألوفاً وراسخاً ويقينياً في حياتنا. والاغتراب بشكل عام هو خللٌ جوهري يصيب العلاقة بين الموضوع والذات، وتشوّهٌ يصيب علاقة الذوات ببعضها. ويفضي إلى التناقض والازدواج الذي يلازم الإنسان الحديث. (لقد أنتجت الثقافة الروحية، الذهن الحديث، هذا التقابل داخل الإنسان الذي جعلت منه مزدوجاً من حيث ينبغي له أن يعيش في عالمين اثنين متناقضين، على نحو أنّ الوعي أيضاً يتقلّب عندئذ في هذا التناقض بين هذا الجانب وذاك فيعجز عن إشباع ذاته لذاته في هذا الجانب وذاك.) (2)
لقد آثرت اختيار (الاغتراب) بدلاً عن (الغرابة) في العنوان. أما الغرابة فهي التعبير الفني والأدبي عن هذا الاغتراب الذي يطبع الحياة الحديثة خاصة. ولماذا الأنسنة الجمالية؟ اهتداءً بقول ديستويفسكي (إن الجمال سينقذ العالم)، وكأن الهم الجمالي للفن والأدب، صار احتجاجاً على تشوّه وتشظّي الكلية الإنسانية وتشيّئها. فالنبرة التهكّمية الحاضرة في الأدب الحديث، وإضفاء الطاقة الحيوية والصفات الإنسانية على الأشياء، في مقابل إظهار تشيّئ الإنسان وافتقاره للحرية وفقدانه السلطة على مصيره الفردي. بتأكيد هذه المقابلة-المفارقة، صارت الغرابة الأسلوب الناجع لكشف النقص في صميم الحياة من استشراء الوحشة وانعدام الألفة، بين الإنسان ومحيطه. (قد يصعب أو يستحيل فهم جوهر الحداثة وما بعد الحداثة من دون أن نفهم معنى الغرابة وتشكيلاتها المتنوعة في الأدب والفن.) (3)

الكينونة المعطلّة
هذا ما نلحظه، مثلاً، وبوضوح في قصة (ماذا يحدث لي؟) فمن عنوانها الاستفهامي وسردها والحوار بين الشخصيتين، نكتشف غيبوبة الهوية الذاتية (كينونتي المعطلّة..) (ص43)* لدى سناء. بسرد مقتصد ومكثف وبلغة مسبوكة ومنتقاة، تختبر الشخصية واقعية أحاسيسها باختبارات لا تخلو من تهكّم وسخرية (..أحسستني بلا وزن بلا هوية بلا جنس بلا شكل بلا هدف.) (ص46) بالطبع هذا الموضوع ليس جديداً في الأدب. لكن ما يميّز القصة هو الذهاب إلى حد التطرف في سرد ما ينتاب الشخصية من ضياع وغربة، وحالة الانفصال عن أقرب الأشخاص والشعور الداهم بالرعب والخواء. (قال ليوتار:" ليس هناك، هنا، سوى الرعب، الرعب المتعلق بالفقدان، فقدان الضوء ورعب الظلام، فقدان الآخرين ورعب الوحدة، فقدان اللغة ورعب الصمت، فقدان الموضوعات ورعب الخواء، فقدان الحياة ورعب الموت، ما هو مخيف هنا، هو أن ما يحدث لا يحدث، بل إنه يتوقف عن الحدوث أيضا".) (4)
إن تعميق هذا الشعور والوصول به إلى ذروة التوتر، ليأتي الحلّ في نهاية القصة بمنتهى البساطة والبرود من خلال الحوار. احتفاظ الكاتبة للحظة الكشف حتى نهاية القصص، لتمتزج متعة الدهشة بالصدمة، يرسّخ في ذهن القارئ انطباعاً لا يتبدّد تأثيره بسهولة. أحاول عدم الاسترسال كثيراً في استعراض القصة بتفاصيلها، حفظاً لحق المؤلفة وجهدها. وهذا موقف محرج حقاً ، فكيف يمكن الحديث باستفاضة عما لا نريد تفصيل الحديث فيه؟! أليس هذا أيضاً شكلاً من أشكال الغرابة؟!

اللعب على اللعب!
في قصة (على المرقص) مقابلة ذكية وخادعة. سحر وعذوبة الحياة الذي يتجلّى في رقصة فاتنة يتخلّلها الحوار الحميم الأخّاذ. والرقص هو أبلغ تعبير عن الحياة والفرح، لكنه هنا، بين شخصيتين في لعبة محكومة بشحنة خارجية، وكأن قدراً خارجياً هو الذي يحكم ويتحكّم بهما. (لكننا لا نرقص دائما!؟ لِمَ نبقى كل تلك الفترة حبيسيْ ذلك الجمود والانتظار البطيء المميت؟ لِمَ نبقى رهيني رغبة أخرى غيرِ رغبتنا في الرقص؟؟) (ص14). بالمقابل نلمح الأحياء الحقيقيين هناك على الهامش كأنهم في حالة تشيّئ يتهامسون بشكل خافت حد التلاشي والغياب. حضور حميم للأشياء، مقابل غياب شبه كامل للأحياء. هي المفارقة التي تعتمدها الكاتبة للتعبير عما في الحياة من نضوب وشحوب.
بتأخيرها للحظة الكشف حتى نهاية قصصها تنجح الكاتبة في تحقيق هدفين بضربة واحدة، الدهشة والصدمة. وتستحوذ على انتباهنا بأسلوبها الذي يعتمد التشويق لكي تفاجئنا في النهاية بكسر سياق المألوف ورتابته وبيان ما فيه من اللامألوف والغرابة. فلا يكفي أن يكون الشيء مألوفاً ومعتاداً لكي نقول أننا نعرفه (ما هو مألوف ليس معروفاً لمجرد أنه مألوف. ذلك خداع للذات وخداع للآخرين أن يُفترض مسبقاً في المعرفة شيء ما بوصفه مألوفاً وأن يُقبل لهذا السبب.) (5)

آلة التحكّم
يصل التعبير عن الاغتراب إلى مداه الأقصى في قصة (التمدّد المُشتهى) حين تتمّ مصادرة إرادة الإنسان وشلّ حركته بشكلٍ يُفقده كل تحكّم بأفعاله ويغيّب حريته. (لكن عندما أخذت في إبداء رأيي في الموضوع، أخذ آلة التحكم من أمامه، وجهها صوبي، وضغط على زرٍّ فتوقف كلامي عن غير إرادة مني. حاولت التفوه بشيء، لكن من غير جدوى..) ( ص70 ). إن كل من ينخرط في مجال العمل، يدرك جيداً هذا الاستلاب لإرادته والتغييب لحريته. حيث يكون مجرد جزءٍ في آلة رهيبة. ولن تعوّض الإنسان عن استلابه هذا، تلك الأويقات القصيرة التي يتحرّر فيها من وطأة العمل، فهو يكون حينها مستنزف القوى. وتلك الفسحة من الحرية والفراغ بعد العمل لن تمنحه سوى فرصة استرجاع قواه المنهكة استعداداً لنزيف يومي جديد. (فإذا بي أجدني متمددة على الكنبة، وكتاب مفتوح على وجهي.. مستسلمة لتمددي المشتهى ولغفوة..) (ص73). (وحيث إن الغرابة إنما ترجع في جوهرها إلى أن "الغريب قد أصبح يسكن داخل المألوف"، وأنه لم يعد هناك يقين لدى المرء بخصوص كل ما يحدث له أو حوله، فإن هذا الغريب عندما يظهر داخل المجال الأليف والبيئي، وبالقدر الذي يهز عنده حالة الاستقرار واليقين، فإنه يكون مثيرا لمشاعر الخوف، وممثلا أيضا لعنصر مهدد منذر بالخطر.) (6)

الاستعارة
قصة (في انتظار حَبّ الرْشاد) التي جعلت منها عنواناً لمجموعتها، تقوم الكاتبة بمراوغة ماكرة ومزدوجة، وتمارس لعبةً سردية عن الغياب في الحضور والحضور في الغياب.. (يجب الانتباه جيداً للاقتباسات التي تستهل بها قصصها، وهنا علينا أن ندرك مغزى وضعها اقتباساً لدريدا عن الاستعارة!) ففي نصها المراوغ هذا يبدو الموضوع المباشر أليفاً وحاضراً، لكننا في ثنايا القصة نجد إشارات كثيرة إلى الغياب. (ما زالت فْتاتْ الشَّطْبَة تنتظر حَبّ الرشادْ... بحثت عنه في كل الأسواق... لكنها لم تجد سوى حديث مستفيض عنه...) (ص21) (لهيبُ نار أخرى وظنون مرعبة كانت تلتهمها من الداخل، بسبب غياب رفيق عمرها الذي لا يغيب عنها أبدا..) (ص22) إن هذا الاستذكار الشاعري لفتات الشطبة عن حَبّ الرشاد يتجاوز أن يكون مجرد حديث عن مكونات غذائية.. فهذه الشاعرية لا تفيض بهذا الشكل إلاّ إذا كان الحديث حديثاً عن عاشقين.. إنه سرد يتحدث في جوهره عن عاشقين منهمكين في الحب والفن وإن كان في ظاهره يبدو وكأنه سرد تفصيلي عن مكونات غذائية..
ويدور حوار عن التمثيل، التمثيل بكل أشكاله، وليس، حصراً، كما قد ينصرف الذهن عادة إلى مسألة (التمثيل السياسي). القصة طبعاً تعالج القضية بمستواها الظاهري عن المكونات الغذائية ومدى امكانية أن يعوّض حضور بعضها عن غياب الآخر.. (.. يرون أنه ليس من الضروري تمثيل أنفسهم شخصياً في كل لقاء، وانه من الممكن جداً أن ينتخبوا من يقوم مقامهم أو يمثلهم..) (ص.ص25،26). لابد من التنبيه هنا إلى أن الكاتبة كما أعطت المجموعة عنوان هذه القصة، فإنها تُثبت في الغلاف الخلفي هذا المقتطف منها (أنت تدركين يا صديقتي أننا متفردون كأصناف. لكل منا عالمه الخاص. مكوناته وحيثياته وكل دقائق جزئياته..... ثم كيلا نكون مجرد مظهر بلا روح.) (ص26). وما ذلك إلا لأنها تعوّل على ما في هذه القصة من قيمة أدبية وجمالية ومعنى ملغّز. وخاصة أن العنوان يستدعي بشكل صريح عنوان مسرحية بيكيت (في انتظار غودو)؟!.. تارة نفاجئ بحضور السيد حَبّ الرشاد، وتارة يتأكّد غيابه.. أو (لعله في المرسم... كان حب الرشاد يحاول الاتحاد بلوحته... شغلته لوحة تُجسّد الوعي الكامل بكل ما يعتمل في دواخله من أفكار وأحاسيس...) (ص29). وما تكاد الكاتبة تشير إلى حضور السيد حَبّ الرشادْ (اغتبط الجميع برؤيته...) (ص31) حتى تفاجئنا بعد بضعة سطور (..صوت صديقتها الشَّرْشْمَه، وهي تناديها بأعلى صوتها سائلة إياها إن كانت قد سمعت أي خبر عن اختفاء حَبّ الرشادْ..) (ص31)..ليس صعباً أن نحزر في أية حالة يمكن أن يحدث هذا الخلط؟! فحيرة من هذا الغياب.. ثم غفوة.. فحلم.. والسرد يجري فيه!.. ثم ظهور حَبّ الرشادْ في لحظة الصحو.. وتأكيده أنه (أنا هنا بجانبك ولم أذهب إلى أي مكان... ربما هي أضغاث أحلام ليس غير... نحن كل لا يقبل التجزئ..) (ص32). وحين يسألها عن حكاية الحلم تؤجل ذلك (لأنها لا تحب أن تتذكر أن رفيق عمرها ضاع منها أثناء كابوس عابر.) (ص33). (ذلك أنّ هذه الأشكال والأصوات المحسوسة لا تمثُل في الفنّ لأجل ذاتها وشكلها وحسب، بل تهدف إلى أن تلبّي في هذا الشكل شواغل روحية أرفع لأنّ بمقدورها أن تبعث صدى للروح في أعمق أعماق الوعي. على هذا النحو يُرَوْحَنُ الحسّيُ في الفن بما أنّ الروحي يظّهر فيه على أنّه صار محسوساً.) (7)
حين وصفت هذه القصة بالمراوغة فذلك لأنها (قصة مركبة)، وجدت فيها تداخلاً في مستويات السرد وزمن القصة، ظاهرها حديث عن المكونات الغذائية والمطبخ ومسابقة عن الطبخ، وجوهرها عن التمثيل والحضور والغياب.. ولكن أليس الأدب في ذاته، شكلاً من أشكال التمثيل عن الأشياء، لتجاوز لعبة الحضور والغياب؟! واللغة نفسها أليست في جوهرها تمثيلاً بالكلمات عن الأشياء والأفكار والمعاني؟! إن إضفاء الصفات الروحية على الإشياء وبهذا الأسلوب الشاعري والرقيق ستجعلنا نتساءل ولكن أين الإنسان؟ أليس غيابه وتمتّع الأشياء بهذه الأحاسيس والمشاعر الحميمة والأفكار يوحي بغرابة ما؟ وإلاّ فما معنى كل هذا الجيشان العاطفي والإنسان غائب؟ أسئلة يمكن أن تُثار وما من جواب قاطع، طبعاً..! أم أنّ هذه المكونات ما هي إلاّ أقنعة لتمثيل عالم البشر؟!.. وما من جواب قاطع، أيضاً.. لذلك فهذه القصة تنفتح على أكثر من أفق.. وككل عمل أدبي يثير من التساؤلات أكثر مما يقدّم من إجابات فيحفّز الخيال ويغري العقل بالمغامرة التأويلية..

فتنتصر المأساة بطريقتها على الظلم
قصة عازف الليل غرائبيتها أكثر وضوحاً، يتداخل فيها الواقعي والمتذكَّر والمتخيَّل، نص متعدد المستويات، نص زئبقي، وليس نصاً أفقياً. الشخصية الواقعية في القصة هي القارئة (كنت مأخوذة بقصة الحب والحرب.. حيث كل الأحداث تتواتر على إيقاع حزين..) (ص93). تختلط القراءة في ذهن القارئة بالتذكّر والتخيّل. والغرابة والغرائبية قد لازمت الحب والحرب على امتداد التاريخ البشري. وقد تمّ التعبير عن تلازمهما المتناقض اسطورياً منذ فجر التاريخ، أو على الأقل منذ بروز الحروب على مسرح التاريخ (ومن الصفات المهمة الاخرى التي اشتهرت بها عشتار كونها إلهة الحرب عند سكان وادي الرافدين حتى أنهم لقبوها بسيدة الحرب وسيدة المعركة. ومن الغريب حقا أن تجمع إلهة الحب في شخصها مثل هذه الصفة التي تتناقض كليا مع صفتها الاولى والرئيسة أي كونها إلهة الحب والجنس.)(8) أليس هذا التناقض فعلاً هو أحد منابع الغرابة؟! فما معنى هذا التلازم بين الحب والحرب، بحيث جعل القدماء يخصّون إلهة واحدة لتُمثلّهما معاً؟! لكن الأكثر غرابة في قصة (عازف الليل) هو هذا الموسيقيّ المهووس! الذي يستحوذ على ذهن القارئة بهذا الشكل التسلطي والقدري. أهو ذكرى أم حلم أم سيمفونية تُعزف على خلفية أحداث الرواية؟! (ماذا لو أغلقت الكتاب قليلا؟ قد أريح العازف والصفحات والخصلات..) (ص96). إن حضوره الطاغي وتدخله في النص منصبٌّ على القارئة فقط، فحين تناشده أن يتدخل لتضليل الطغاة الذين جرى تمثيلهم بالصورة النمطية عن الغزاة -(هولاكو) وجنوده - يتجاهل رجاءها ويترك شاعرة الرواية لمصيرها (أطلب من العازف أن يضللهم بإشارة من قوسه إلى مكان لا تكون فيه، وأن يكف عن ملاحقة عنقي بقوسه الذابح...... لا طائل من ذلك. هو مخلص لمضمون النص ولن يخرج عنه.) (ص98). وتتداعى في ذهن القارئة شاعرة أخرى تستذكرها. فيحدث شكل من أشكال الخلط بين عمل فني إنساني كوني مع أدب وحدث محلي (تتملكني هذه الأجواء كلما تماديت في القراءة. ربما لأن بطلة الرواية شاعرة ثائرة تصارع الظلم بالكلمات، فتُذكِّرني بالشيخة حْويدة الغيَّاثية العَبْدية المعروفة ب "خَرْبوشَة" التي كانت تتمتع بشخصية قوية.) (ص95) وما دامت المضامين الإنسانية عن الحب والحرب نفسها في كل مكان وزمان، ولأن الواقع صار غرائبياً وملتبساً ومعقداً ومتداخلاً.. تتسرّب هذه الغرائبية إلى النص الأدبي. وكأن عازف الليل هذا شخصية شبه واقعية شبه متخيَّلة، موسيقاه ترافق ايقاع الحب والحرب. (فتنتصر المأساة بطريقتها على الظلم، وتتطاير الخصلات من جديد، في مشهد أخير يتكلف عازف الليل بترميمه.. وبشدِّه بكل النوتات اللازمة. تنقبض الأنفاس تشتد ثم ترتخي..) (ص99). لن نجد أجوبة في هذه القصة.. إنها تلقي بنا في متاهة الأسئلة ودوامة المأساة.. وكأنها تحاكي ذلك اللامعقول الذي يطبع الحب والحرب على مرّ التاريخ.. فلا فهم كامل ولا اقتناع بأي تفسير عقلي فيما يتعلق بالحب والحرب!. (وكأن الجدوى، أنت حزين إذن أنت طافٍ على الوجود.) (ص93) إذا كان الحزن هو ما يطفو على سطح الوجود، فما الذي يستعر بأعماقه إذن؟! وهذا الموسيقيّ هو الحزين تارةً والسادي حيناً. ففي تلك النهاية (الرمزية) يذبح عنق القارئة بقوسه، بعدما ذبحها بموسيقاه قبلا! (نعود إلى الجَلد الذي لن ينتهي.. ماذا يفعل هذا الموسيقيُّ بي وبآلته، هل يذبحها ويذبحني في كل جرَّة قوس؟) (ص97).. من هو هذا العازف الليلي؟ هل هو طيف من أطياف الحب أو هو شبح من أشباح الحرب؟ أهو روح الفن الهائم وخلاصته المتقطرة، الموسيقى.. التجريد الأسمى لكل ابداع.. أهو مجرد لاعب في خضمّ هذا الطوفان؟ أم هو كل هذا وذاك.. إن عنوان القصة هو (عازف الليل).. فهو كائن ينتمي إلى اللاوضوح.. الغموض.. الظلمة.. الليل! وماذا في الليل غير الأحلام أو الكوابيس؟ هل هو قدر غاشم (تجرأ على ذبحها).. أو هي خطيئة أصلية سحيقة (قدمت له عنقها باستسلام وخضوع). حسْبَ القصة أن تثير كل هذه التساؤلات، وتلاحق كل هذه الظلال وما في الوجود من غربة وغرابة واغتراب بأسلوب غرائبي، لكي تكون قصة ناجحة وراسخة في النفس.

ملهاة الدم!
حديث الحرب يأخذنا إلى قصة (بحر الدماء)، هذه القصة التي قد لا يستسيغها البعض، لما فيها من فضحٍ تهكمي ونقدٍ لاذع، لركوننا واستسلامنا إلى العنف والحروب وعدّها أمراً طبيعياً ومألوفاً. وهي كذلك شجب واستنكار لصناعة العصر الرائجة، الاتجار بمشاهد المجازر والدم في وسائل الإعلام وكافة أشكال الإشهار الأخرى! (وفيما كانت صور المنتوجات تتوالى تباعا على الشاشة، ظهرت صورة لبحر أحمر ماؤه.. ظننت في البداية أنه البحر الأحمر..... لكنه لم يكن سوى إعلان وإشهار لبحر يدعى "بحر الدماء".) (ص.ص77،78)
إنها صرخة ضد فضيحتنا الكبرى! فضيحة تحوّلنا إلى كائنات تستلذّ بمشاهد القتل والتعذيب والدمار (يقول المراسل: وأخيرا تم إنجاز إنساني عظيم، ... إنشاء بحر من الدماء ..... أخذت بعين الاعتبار في مخططاتها التنموية المستقبلية هذه الرغبة الإنسانية المتعطشة للدم..) (ص78). ومن يحاجج أن مجال الفن والأدب هو الجميل، فيمكن مواجهته بكلمات الشاعر العراقي مظفر النواب هجّاء أنظمة البذاءة العربية مع بعض التحوير (أروني موقفاً أكثر بشاعة - بدلا عن بذاءة- مما نحن فيه.)! التهكم بأسلوب سوريالي واضح في هذه القصة، وتاريخياً فإن المزاج السوريالي- رغم أنه نزوع قديم في الوجدان البشري ضد اللامعقول في الوجود- قد شاع عقب كوارث وفظائع الحرب العظمى في أوربا. والقصة مكتوبة قبل التفاقم الدامي لمأساة الشعوب التي تحولت، إما إلى جماعات متطاحنة ومتقاتلة، أو حشود مهاجرة عبر المخاطر صوب المجهول. لقد كان البعض من الفنانين يتوسلون بعقاقير الهلوسة لاقتناص الصور الحلمية والغريبة من مناطق اللاوعي. ولكن هلوسة واقعنا قد فاقت خيالات أكثر المهلوسين افراطاً! ولو أُتيح لي لاقترحت على الكاتبة أن تضيف مقطعاً لقصتها تدعو فيه المنظمات الإنسانية لانتشال بقايا عظام الغرقى في أعماق البحار لإضافتها إلى (بحر الدماء) هذا! لكي تكتمل الصورة الكاملة للمشهد بكل هلاوسه الدموية، فتتضاعف بذلك متعة المتفرجين! أليس اللامألوف في صميم مألوفنا وأعماقنا، أليس التعطش للغزو والدم في صميم ثقافتنا وتكويننا الذهني؟!
هناك لذة خفية تختلج في الألم! حين تهزّنا قشعريرة رؤية المفارقة المؤلمة في االدراما الإنسانية. إنه المضحك المبكي، وقهقهة الروح وهي تذرف دموعها أمام الهول واللامعقول الدامي. وإلاّ فما معنى هذا الهول الذي يلعنه الجميع، ولكنهم مع ذلك ينزلقون إليه بهذه القدرية العجيبة؟! (هل أنا في علم أم في حلم؟؟ هل فعلا تجاوز الإنسان علة دماره وقبض على أسباب فشله؟؟ هل كان يجب أن يمر على الأرض كل ما مرَّ وما يمرّ، وهل كان يجب أن تراق كل تلك الدماء، ليمتلئ هذا البحر الكبير من الدم؟؟ وهل من المنطقي جدا أن يبني الإنسان راحته وسعادته على دماره الكوني؟) (ص81). (...حيث الغرابة ميدان الموت، والموت ميدان الغرابة، والموت مادي ومعنوي؛ الغرابة ميدان الموت الذي في الحياة، مكان شبحي، أو " لامكان" يعبر الجمالي والأخلاقي، من خلاله، أو عبره، الحدود الخاصة بالآخر، فيحطمان هذه الحدود، يثيران القلق والاضطراب بينهما، ويخلطانهما معاً..) (9) والكاتبة إذ تتحدث في نهاية قصتها عن (بقايا الزمن الجميل) وهي تستذكر أغنية لفيروز، فكأنها تشير إلى الجمال كخلاص من كوابيس الدم وبشاعة الحاضر..

لستَ الحمار الذهبي!
لا يجترّ الإنسان أحزانه ويبتلع مآسيه باستسلامٍ مستكين بشكل مستمر ودائم، فلابد لصوته أن يعلو بالاحتجاج. في قصة (عايشة) التي تنفتح على المشهد الاجتماعي، وترصد صور البؤس والتعاسة في الحياة، تبدو نبرة الاحتجاج والتمرد واضحة منذ بداية القصة. إنّ التهكم الساخر يطبع أسلوب الكاتبة بشكل جلي. (ثم أنت تعبر عن رأيك دائما، ولم أذكر يوما أني فرضت عليك شيئا أو أكرهتك على ما لا تستطيع له حولا ولا قوة. اُنظر، أحمِرة كثيرة أصبحت تعبر عن رأيها وتحتل المراكز القيادية.. من يدري، قد تقود بدورك قطيعا أو تتبوأ منصبا عاليا في يوم من الأيام؛ لست الحمار الذهبي على كل حال، لكنك حماري المميز..) (ص56). ليس غريباً أن يرتفع صوت الاحتجاج ضد التعاسة والبؤس من شخصيات نسائية، فهو ليس انحيازاً من الكاتبة لجنسها بقدر ما هو تعبير عن واقع مجتمعاتنا التي يكون فيها الظلم والاستغلال الواقع على المرأة مضاعفاً. (تصغي النسوة إليها وهي تشكو همها وهمهن المشترك.. فكُلُّهُنَّ عايْشة..) (ص58). الاحتجاج والتمرد الحقيقي عادة ما ينطلق من القاع المبتلى بأقصى حالات التهميش والتعاسة. إن الكاتبة تلجأ إلى الدارجة والأمثال الشعبية والشعر الشعبي بشكل لافت، كلما تناولت صور الحياة الشعبية وموضوعاتها.

الأثر والزمن..
بين الكلمات الأولى (تتبلّد عيناي آلان، كما تتلبّد سماء نفسي..) (ص61) وحتى الكلمات الأخيرة (.. والغيم يلهب وجهي بقطرات قاسية.) (ص66). ثمة ما ينهمر باستمرار في قصة (جدار المقبرة). رذاذ المطر ورائحة التاريخ الرطبة المنبعثة من شقوق وثقوب جدارٍ متهرئ.. إنه الزمن ينهمر من بداية القصة وحتى نهايتها يسيل من المكان والأشياء. ينتزع الفن والأدب بعض ما يهوي في النسيان وينقذه من العدم.. (إذ الفنّ يرسّخ في الديمومة ما يفوت سريعاً، فالضحكة التي سرعان ما تزول والكِشرةُ العابرة والمتراخية على الفم والنظرة وشعاع الضوء الخاطف وكذلك ملامح الرّوح التي تؤثّث حياة البشر والحوادث والأحداث التي تحصل وتنقضي، تمثُل ثمّ تُنسى من جديد، كلّ هذه إنّما ينتزعها الفنّ من ساعة وجود، وهو في هذا المضمار إنّما يتجاوز أيضاً الطبيعة.) (10) وإن كانت هناك شخصية إنسانية واقعية في القصة، فالشخصية الحقيقية هي هذا الجدار الفاصل بين عالمي الموت والحياة. والجدار هنا بدلالته المكانية، ينفتح على دلالة زمانية فهو مثقّل به، هذا الزمان الجاثم على صدره، الزمان الجامد وكأنه كتلة هائلة من الوجود الذي لا يتغير، لذا كانت رائحة الموت والسكون هي الطاغية على روح النص. فهو يتكلّم كـ(ممثّل) عن الزمان أكثر منه كمعبّر عن المكان، ، من هنا كانت هذه النبرة الحزينة الشبيهة بطقوس الموت..
السرد مفعم بالشعرية كما ذهب إليه الأستاذ نقوس المهدي في تقديمه (ذلك أن المبدعة المغربية سعيدة عفيف أتت إلى السرد القصير متخمة بعذوبة الشعر، متسلحة برحابة الخيال، أكثر احتفاء بمسرات اللغة..) (ص5). هذا الجدار الذي يفترض به أن يكون حاجزاً بين موت متواري خلفه وحياة مفعمة خارجه، يبدو كشاهد اندثار ومرثية موت. والمتسوّلون بالتصاقهم بهذا الجدار هم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة! إن هي إلاّ خطوة تفصلهم بين الخارج الذي يمثّل عالم الحياة والداخل (المقبرة) الذي يمثّل عالم الموت..
إن اللافت في هذه القصة هو هذه المقابلة بين الأحياء الموتى ومدينتهم.. وقد تحوّلوا إلى مجرد آثار للفرجة وجذب المزيد من السياح.. (...أن أصنف كمعلمة أثرية تاريخية؟ ألم يكفهم أن هذا البلد الأمين الآمن اختُزل إلى كارت بوستالات، لإمتاع السياح...) (ص.ص.63،64)، والموتى الأحياء، الذين لا يحيون عرسهم الحقيقي إلاّ حين يُزفّون إلى الموت والمقبرة التي تحتضنهم كالعشاق بحضنها الدافئ! (آه.. ها هو ذا كرنفال آخر آتٍ من بعيد بعاشق آخر، تحمله لوعة الاشتياق، بعدما أضناه البعد عن معشوقته التي تتأهب في كامل حلتها وغنجها الآن، فاتحة ذراعيها لحضن دافئ جديد..) (ص65). وبذلك تضعنا هذه القصة في قلب الغرابة بهذه المفارقة الحزينة.. بين أحياء بلا ملامح حياة. وموتى يمضون إلى الموت مبتهجين وكأنهم ماضون إلى عرسهم بشوقٍ ولهفة..! أليس الموت هو الغرابة الكبرى التي واجهت وتواجه الإنسان في وجوده؟

كأن الشيء وضده ما يحكمنا..
الحياة والموت والزمان.. إلخ، هي ثيمات أولية انطلقت منها التساؤلات الكبرى. والاستعصاء الفيزيقي إنّما هو انفتاح على الميتافيزيقي.. فحين تستعصي الحلول الواقعية، ينفتح الباب الوهمي على عالم الميتافيزيقا كمحاولة للقبض على تلك القوى غير المفهومة، عساها تجد بالوهم إجابة على الوهم! في قصة (مسخ) نلاحظ هذا الاهتمام الميتافيزيقي. لطالما وجد الإنسان نفسه ضحية قوى خفية وتحت رحمة عبثيتها، وأصواتها الهادرة في أعماقه. (لكن عزازيل لا يلبث أن يجيبه، هذا ليس صوتي يا هِيبَا، إنه صدى روحك...) (ص38). فها هي السيدة غالية تتداخل أصواتها الداخلية مع أصوات الرواية التي تقرأها، وتتأمل في تلك الأسئلة الأزلية، التي تحكمت بالنفس والوعي الإنساني. (عزازيل منّا وفينا وإلينا.. عزازيل في أعماقنا كما الإله.. إنه صوتنا الآخر..) (ص38)، تلك الثنائية الحقيقية أو الزائفة! التي تؤرّق الإنسان. إن لجوء الذهن إلى الثنائيات، كأنه صدى لذلك الانقسام الذي قسّم وشظّى الكلية الإنسانية، والذي يتجلّى قي ظاهرة الاغتراب. ثنائيات النور والظلام، الخير والشر، الجسد والروح... إلخ. وهنا في القصة معبّر عنها بثنائية الشخصيتين (أرْ) و (نُو).. (لا عمل. هل رأيتِ بأمِّ عينيك يوما جسدا حيّاً بلا روح؟ أو روحا تحيى خارج الجسد؟) (ص39). فالسيدة غالية هنا ليست في حيرة من الاختيار بينهما، فهي تبحث عن تلك الكلية المفقودة التي جعلت الإنسان يعاني من محنة الازدواج الوجودي. فهي تدرك أن المشكلة كامنة في التناقضات التي تحكم الحياة ذاتها، وليست في ماذا ومن نختار أو ماذا ومن نترك.. فهي ترى وتدرك المشكلة (غير أن هِيبَا وأمثاله جسد وروح لا يتجزآن، أما هذان، فروح غائبة عن الجسد، وجسد غائب عن الروح.. وكلاهما في عذاب لا يدركانه، جراء النصف الآخر الممعن في الغياب..) (ص40). وهي إذْ تقرأ رواية عن فترة موغلة في القدم ، تجيب بكل ثقة ودراية على ذلك الصوت في أعماقها - والذي يبدو صوتاً يعبر عن الفكر التقليدي السائد المتحكم بأغلبية العقول- إن الأمر محسوم بالنسبة لها!.. فالانشطار قديم للذات الإنسانية ولن يقنعها أو يُسكت عقلها أي اختيار بين حدين يشكلان كلاهما جوهر الذات.. (... ما نفكر فيه وننكره من جوهر وجودنا، وفي الصراع المرير العقيم بينهما.. كأن الشيء وضده ما يحكمنا، فنسقط في مهاوٍ تجهض كينونتنا ونصير كائنات ممسوخة.. لهذا ترينني أغوص عميقا في ذاتي لأنجو بها من كل هذا المسخ..!) (ص40). أليس المسخ هو الاسم الآخر للاغتراب؟! الذي تحاول السيدة غالية الإفلات منه!
إن الكاتبة بتقديمها السيدة غالية جالسة في (الظل).. كأنها تقول- إن قصدت هذا أو لا!- إن المساحة الرمادية في دواخل الإنسان أكثر من مجرد الأبيض والأسود.. وأن تدرجات الألوان هي الأكثر حضوراً من مجرّد هيمنة لونٍ واحدٍ صافٍ.. فالإنسان هو غالباً في منطقة (المابين)، ودواخله وأفكاره وعواطفه بتنوعها اللامتناهي، عصية على التحديد المانوي المبسّط والساذج..
يشير الأستاذ نقوس المهدي في تقديمه إلى البعد الفلسفي في كتابات المبدعة سعيدة عفيف (ولا غرابة في أن تزاوج كتابتها بين النظرة الفلسفية للحياة، والتأمل الصوفي، واللغة الشاعرية الباذخة.) (ص5). وأضيف إنها تقوم بهذا التعبير عن البعد الفلسفي بالصور الأدبية، بعيداً عن اللغة المفهومية والاصطلاحية للفلسفة، مما يُكسب أسلوبها هذه السلاسة والطلاوة والشاعرية حتى وهي تتناول أكثر الأفكار تجريداً.. (ليست الفلسفة ضرورية بالنسبة إلى الفنّان، وإذا فكّر على منوال فلسفي فإنّه يزاول من ثمّ شيئاً يتعارض مباشرة مع الفنّ ... ذلك أنّ مهمّة الفنطاسيا إنّما تقوم على أن تقدّم وعيا بتلك المعقولية الداخلية لا في صورة قضايا وتصوّرات كلّية، بل في شكل عينيٍّ وتحقُّقيّةٍ فردية.) (11)
من قال أن المرأة لا تجيد التفكير ولا تحسن مقاربة الأفكار والقضايا الكبرى العويصة؟ فحسْبها شؤون البيت والقلب.. إن هذا الرأي لا يصدر إلاّ عمن كانت همومه الكبرى منصبّة على معدته وما تحتها..!!!
أليس هذا الرأي صدى لذلك الانقسام القديم وظهور المجتمعات البطريركية؟ فمنذ أن صارت السلطة ذكوريةً، وترسّخت، وسيفها مسلّط على رقبة (شهرزاد) وعقلها؟!

الغرابة التجريدية
من يُحسن طرح السؤال الصحيح يقترب ألف خطوة من الجواب الصحيح!.. في قصة (قصص لم تُقرأ بعد..) نحن أمام ما يمكن أن أدعوه بالغرابة المفرطة.. أو الغرابة التجريدية.. مهما كانت شخصية وصفة هذا الكائن الغريب، الحزين، المسكون بالقلق، الذي عاد للتو من جولته، وها هو يجلس في باحة مكتبته الكبيرة يتأمل حيناً ويقرأ أو يضحك.. والمكتبة مزينة بكواكب ومجرات.. نحن هنا في قلب الميتافيزيقيا. وثمة نزوعٌ جديدٌ يتبلور، ورغبة جديدة تلوح لتخيّل عوالم أخرى مختلفة وتطلعاً لرؤية بشر مختلفين (يقرأ قصص الأطفال بولع كبير، ويكتب أخرى من وحي خياله لأطفال لم يأتوا بعد..) (ص86)، بعد الإحباط والشعور بالخيبة من عالم انفلت من عقاله، ومضى في دروب العبث واللامعقول (أحوال أمم كانت تصارع الطواحين لقرون،... فأحالت الحياة جحيماً لا يطاق... عسى أن يكون الآتي من الأزمنة بأفضل حال مما هو عليه الآن..) (ص86). وتتواتر الصور والخواطر والأفكار لكي تزيد من حيرة القارئ وتمضي به مع نفسه إلى تلك المناطق المعتمة، حيث تقبع الكثير من التساؤلات التي لابد وأن خطرت على كل ذي عقل في وقت ما. لكنها أُقصيت وطُمست وجرى كبتها وخنقها ودفنها عميقاً في الأغوار المظلمة للنفس.. وقد تلوح أشباحها وتطوف في النفس، كلما طرأ على هذا العالم حدثٌ من الأحداث الكارثية التي تستغلق على الفهم، لغرابتها ولامعقوليتها وعبثها ولاجدواها.. (توجد المكتبة منذ الأزل..... لابد من وجود كتاب معيّن هو خلاصة نموذجية وإيجاز لبقية الكتب: مكتبيّ ما قرأها وهو شبيه بالرب..... ومن المحتمل أن الشيخوخة والمخاوف تخدعني ولكنني أشك بأن الجنس البشري، وهو الوحيد هنا، على وشك الإنقراض وان المكتبة ستبقى : مضاءة غير منتهية ثابتة بشكل نموذجي ومسلحة بكتب ثمينة وغير قابلة للتدمير وملؤها الأسرار.) (خورخي لويس بورخيس، مكتبة بابل، ترجمة: عدنان المبارك.) (12). ما يلفت الانتباه في هذه القصة هو هذا الانزياح الخافت والتدريجي للشخصية الرئيسة فيها، حيث تقترب أكثر من شخصية فنان منهمك في انجاز عمله الفني (يوشك الآن على إنهاء قصة بدأ كتابتها من فترة وجيزة. حاول ما أمكنه ألا يستعمل عبارات سلبية. قد تبعث الأسى في قلوب الأطفال الصغيرة فيما بعد..... لأنه يدرك جيدا أن الكاتب الجيد كما الصانع الجيد، حمّال لقيم الخير والحق والجمال، وأن من مهامه الكبيرة أن يزرع كل ذلك في النفوس، بكل ما أوتي من موهبة وحنكة كي ينجح ويتفوق في رسالته.) (ص89). وكأن الخلاص من شقاء العالم وشروره، وإعادة صنعه من جديد، قد باتت مهمة ملقاة على عاتق منتجي وصانعي الجمال. نقرأ معنى كبيراً في هذه القصة، حيث الرغبة في رؤية عالم أفضل، لا يمكن الوصول إليه إلاّ باقتران الأخلاقي والجمالي. وهذا ما يؤكده النص في نهايته بالإشارة إلى تلك المكتبة المتخيلة التي سيسعد بالوصول إليها والتمتع بها أولئك الأطفال الجدد، الذين سيخْلفون سلالات الشقاء والمأساة! (لن أتوانى في صنع ما أريد كما أشتهي، ولن يهدأ فكري إلا وأنا أكتب ما يلزم أن يبقى ويخلد، لأدحض كل الكتابات السلبية المضمرة للسوء. حتى ما إذا وصل أطفالي يوما إلى هذا الجناح من المكتبة، سعدوا بقراءة ما دونته بمحبة كبيرة لهم.. لأخلُد معنى إيجابيا في أرواحهم... ) (ص90).

كلمة أخيرة:
لم أركز في هذه القراءة، كثيراً، على تلك (العتبات) - الغلاف، اللوحة، التجنيس، العنوان، الاستهلالات..إلخ - التي يراها البعض مدخلاً للقراءة، إلاّ حيث كانت مفيدة لإضاءة النصوص. فالتركيز على ما قام به المؤلف، لاحقاً، كشكلٍ لإخراج العمل الأدبي، يبعدنا عن الفضاءات الداخلية للنصوص، واتصالها بالفضاءات الخارجية الرحبة للعالم والآخرين. فنوافذ! النصوص وانفتاحها على الخارج واتصالها بالعالم الشاسع والآخرين أكثر أهمية وإثراءً لمقاربة العمل الإبداعي، من عتبات تدخلنا إلى النص كبنية وفضاء مغلق.
كما أنني لم التزم بقراءة القصص بالتسلسل الذي وردت به في المجموعة. وما ذلك إلاّ بحكم منطق القراءة الذي ارتأيته. فقد بدأت من الفردي والملموس، بالمجال النفسي للفرد، ثم مروراً باليومي والاجتماعي، وانتهاءً بالكلّي والمجرد. وهو منهج أراه أكثر خصباً لتزويدنا بتلك المعرفة! إن كان هناك ثمة مجال للحديث عن المعرفة، إلى جانب المتعة، على صعيد الفن والأدب. (أفلا توجد معرفة في الفن؟ ألا تنطوي تجربة الفن على ادعاء الحقيقة التي تختلف بالتأكيد عن حقيقة العلم، ولكنها ليست دونها بالتأكيد؟ ألا تؤسس مهمة علم الجمال بدقة حقيقة أن تجربة الفن إنما هي نمط فريد من المعرفة، يختلف بالتأكيد عن تلك المعرفة الحسية التي تزوّد العلم بالمعطيات الأساسية التي يبني منها معرفة الطبيعة، ويختلف بالتأكيد عن المعرفة العقلانية الاخلاقية برمتها، وعن المعرفة التصورية كلها؟ ويبقى مع ذلك معرفة، أي حقيقة ذات طابع توصيلي؟) (13) بهذه الاستفهامات لغادامير يتضح ما المقصود بالحديث عن المعرفة والحقيقة في الفن والأدب.

الأشياء تتكلم وترقص، والزمان يتجمّد، والمكان يسيل، فيما البشر شاحبون أو غائبون. إنه ليس كسراً أو تشويهاً للمألوف، بقدر ما هو كشف للامألوفية المألوف في حياتنا، وغرابة مكاننا، ووحشة زماننا. نحن وقد تشوّهت نفوسنا وتردّت مصائرنا. إنها سوريالية مدننا التي استيقظنا في بداية القرن 21 لنجد الحشود تفرّ هاربةً، من لامعقوليتها ووحشيتها، إلى المجهول حتى لو تطلّب منها ذلك أن ترمي بنفسها في البحر!.

لا أجد أفضل من كلمات الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا التي اقتبستها الكاتبة كاستهلال لقصتها (جدار المقبرة)، ما أختتم به، للتعبير عن قيمة هذا المنجز السردي (في انتظار حّبّ الرْشاد) للمبدعة سعيدة عفيف.
(أمُرُّ وأبقى هنا. تماماً مثل الكون.).....

نبيل محمود
بغداد- خريف 2015


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كل الأرقام دون هوامش تشير إلى صفحات المجموعة القصصية (في انتظار حَبّ الرشاد).
(1) (أميرة حلمي مطر، مدخل إلى علم الجمال وفلسفة الفن، دار التنوير2013 ، ص98.)
(2) (هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، ص83)
(3) (د.شاكر عبد الحميد، الغرابة، سلسلة عالم المعرفة 384، الكويت، يناير 2012، ص61)
(4) (د.شاكر عبد الحميد، الغرابة، سلسلة عالم المعرفة 384، الكويت، يناير 2012، ص35)
(5) (هيغل، مختارات1، ترجمة ألياس مرقص، دار الطليعة، بيروت- 1978، ص61)
(6) (د.شاكر عبد الحميد، الغرابة، سلسلة عالم المعرفة 384، الكويت، يناير 2012، ص39)
(7) (هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، ص67)
(8) (د. فاضل عبد الواحد علي، عشتار ومأساة تموز، منشورات وزارة الاعلام- الجمهورية العراقية 1973، ص.ص. 49،48)
(9) (د.شاكر عبد الحميد، الغرابة، سلسلة عالم المعرفة 384، الكويت، يناير 2012، ص50).
(10) (هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، ص200)
(11) (هيغل، دروس في الاستطيقا، المجلّد الأوّل، ترجمة وتقديم ناجي العونلي، منشورات الجمل 2014، ص328)
(12) ملف - خورخي لويس بورخيس - Jorge Luis Borges
(13) (غادامير، الحقيقة والمنهج، ترجمة د.حسن ناظم و علي حاكم، دار أويا 2007 ، ص165)



1619730092341.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى