د. محمد سعيد شحاتة - جدلية الماضي والحاضر في مرآة الأنا الشاعرة قراءة في قصيدة (البنت الطيبة التى كانت تحب أصابعى) للشاعر البهاء حسين.. (الجزء الأول)

- الجزء الأول

تحتفي شعرية البهاء حسين بالحزن، والأسى المتجذر في النفس الإنسانية احتفاء لا مثيل له، وتؤرخ لأربابه: من يتيم تتجول عيناه في أرجاء دنيا حاصرته بأوجاعها، إلى أرملة نسج الزمن أخاديده العميقة على وجهها، إلى أب غائب سافر يبحث عن قوت أسرته، فإذا عاد وجد امرأته التي انتظرته طويلا في حضن التراب، إلى امرأة ترسل خطابا لزوجها الغائب تخبره عن شوقها إليه، وحنينها إلى حضنه، إلى ماض مشدود على حبال الوجع يترنَّح بين شعابه، ويتخبط في أوديته، إلى قرية تتقاسمها الهموم، وتقدم أبناءها فداء للوطن، وتأمل أن تجد يدًا حانية تمسح أساها، وتغيِّر واقعها البائس الفقير ولكن دون جدوى؛ إذ تقع فريسة الاستغلال من أرباب المصالح، وإلى مدينة فقدت بوصلتها، ووقعت فريسة لاستغلالات متعددة ومتنوعة، وصارت متشظية الرؤى وجامدة المشاعر، ومتحجرة القلب تطحن عاشقيها؛ ليكونوا وقودا لاستمرارها.
وابتعد البهاء حسين إلى حد كبير عما اعتبره النقاد ملامح للشعرية الجديدة من حيث الاهتمام برصد كل ما هو هامشي وعادي لذاته، وعلى الرغم من حديث الشاعر عما قد يبدو أنه عادي ومألوف، من مثل حديثه عن حبال الغسيل والشرفة والملابس المبلولة، مما قد يفهم منه اهتمامه بالعادي، أو دورانه في إطاره إلا أننا ينبغي أن نأخذ ذلك في إطار رؤيته العامة للقصيدة؛ فهي تقدم المأساة الإنسانية من زوايا مختلفة، وليس القصد منه الحديث عن العادي في حد ذاته كما يحدث عند بعض شعراء جيله،كما أنه لم ينظر إلى القصيدة على أنها تهويمات غامضة، أو سبحات سريالية يحتفظ الشاعر وحده بشفرة فك طلاسيمها متهما المتلقي بعدم القدرة على مجاراة الحداثة الشعرية، مع احتفاظ قصيدته بالرؤية الفكرية المتخفية بعناية خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بدقة فائقة، وبذلك يختط البهاء حسين لنفسه طريقا يميزه عن غيره من الشعراء بصفة عامة، وشعراء جيله بصفة خاصة، ولا يستطيع أحد إنكار ذلك؛ لأن قصيدته شاهدة عليه، وناطقة بتميزه، بحيث نستطيع التعرف على قصيدته من بين عشرات، بل مئات القصائد، إننا أمام شاعر حفر لقصيدة النثر مجرى جديدا كان هو علامته المميزة، وأصبح وجها من وجوه قصيدة النثر الذي يضاف إلى وجوه أخرى تمثل فروعا متعددة للنهر المتدفق، وسوف نتوقف هنا أمام قصيدته (البنت الطيبة التي كانت تحب أصابعي) محاولين التعرف على عالمها الإبداعي من خلال شبكة العلاقات اللغوية التي تشكل ملامح القصيدة، والتجول بين تضاريسها المختلفة صعودا وهبوطا في محاولة للقبض على بعض الخيوط الدالة على الطريق، واضعين في الاعتبار أن ما نقوم به مجرد قراءة قد تتفق أو تختلف مع قراءة أو قراءات أخرى، وبخاصة أن قصيدة البهاء حسين حمَّالة أوجه تجعلها متعددة التأويلات، كالقصيدة التي نحاول قراءتها (البنت الطيبة التى كانت تحب أصابعى)؛ إذ من الممكن تناولها من ثلاث زوايا تأويلية مختلفة تماما، وكل زاوية تمتلك مشروعيتها من خلال مجموعة من العلاقات اللغوية التي تمثل علامات دالة، ونتوءات يستطيع الناقد أن يضع قدمه عليها مستقرة أثناء سيره في طريق التأويل، وسوف نختار زاوية واحدة من هذه الزوايا التأويلية الثلاثة، على أننا يمكن إعادة قراءة القصيدة مرة أخرى من خلال الزاويتين الأخريين في وقت لاحق.
العنوان مفتاح تأويلي:
جاء العنوان جملة اسمية خبرية حذف أحد طرفيها، فإما أن يكون التقدير (هذه البنت الطيبة التى كانت تحب أصابعى) وفي هذه الحالة يكون المحذوف المبتدأ، ومن خلال تصور هذا التشكيل للجملة يمكن استنتاج أن الشاعر يقدم في هذا النص قصة البنت الطيبة التي أحبته، ولكنه تركها ذاهبا إلى غيرها رغم علمه بحبها الجارف له، ويشتمل النص على تفاصيل متعددة حول ذلك، سوف نتوقف أمامها لاحقا، وإما أن يكون التقدير (البنت الطيبة ...تعود) وفي هذه الحالة يكون المحذوف الخبر، واستنتاجنا للخبر (تعود) ناشيء من أحداث النص وتطوره الدرامي، فعلى الرغم من أن الشاعر صرَّح في بداية النص أن (عبير) لا تخطر على باله فإن النص بأكمله يتمحور حول (عبير/البنت الطيبة) في تقلبات الأحداث معها، ومن ثم فإنها تعود إلى بؤرة الذاكرة؛ لتحتل كل المرايا بحيث يكون الحديث عن أي خيط من خيوط النص منطلقا من بؤرة النص (عبير/البنت الطيبة) فقد عادت بكل الزخم الذي لا يمكن تصوره، ومن الملاحظ أن حضورها لم يكن على المستوى المعنوي فقط، بل كان على المستوى اللفظي كذلك (البنت – كانت/هي – تحب/هي) أما حضور الشاعر فقد كان ضعيفا بجانب حضور البنت؛ إذ ورد ما يدل على الشاعر مرة واحدة، وهو الضمير الياء في (أصابعي) وهو ما يشي بأن (البنت الطيبة) سوف تستحوذ على النص بكل تضاريسه.
وإذا نظرنا إلى العنوان فإننا نجد في بدايته لفظ البنت عام الدلالة بمعنى أنه لا يحدد سوى الجنس/البنت فقط، فهي بنت بكل ما يحيط بهذا اللفظ من ظلال، ثم تتوالى النعوت لهذه البنت، فيصفها بأنها طيبة، وأنها كانت تحب أصابعه، ورغم أن لفظ (البنت) معرفة فإننا لا نستطيع تحديد ملامحها أو هويتها من خلال العنوان، فإذا ذهبنا إلى المقطع الأول نجد الشاعر يقول (لا تخطر على بالى " عبير" ... كانت تحب أصابعى وترى فيها عدة طرق إلى قلبى) وهذا يعني أن البنت الطيبة الوارد ذكرها في العنوان هي (عبير) وهنا تصبح الدلالة منصرفة إلى (عبير) ووصفها بالصفات الإيجابية (الطيبة – تحب) يدل على أنها تحتل مكانة في نفس الشاعر، رغم محاولته التنصُّل من حبها بطرق شتى، وسوف نتوقف أمام هذه الفكرة لاحقا، وحضور عبير التي أحبت الشاعر، ولكنه تركها ذاهبا إلى غيرها يستدعي حضور الطرف الآخرالذي استحوذ على الشاعر، وهذا الطرف هو جيهان، ومن ثم فإن القصيدة تضعنا مباشرة منذ البداية أمام ثنائية ضدية سوف تتحكم في سير القصيدة وتطورها الدرامي، فقد اعتمدت القصيدة على الثنائيات الضدية في تشكيل شبكة من العلاقات اللغوية، والكشف عن محمولاتها الدلالية، وقد بدا ذلك واضحا منذ بداية القصيدة، وعبر تضاريسها المختلفة، فمنذ البداية يبني الشاعر شبكته اللغوية حول اسمين وردا بصورة بارزة في القصيدة (عبير – جيهان) وبالنسبة لاختيار الاسمين الواردين فإنهما ذوا دلالتين متضادتين؛ فـ(جيهان) اسم علم مؤنث فارسي، ومعناه العالم أو الدنيا والحياة، وأصلُ لفظه بفتح الجيم ومن غير ياء، ويُلفظ كذلك: جِهان بكسر الجيم، وهو من الاسماء القديمة ويستخدم حتى الآن، ومن خلال معناه نستطيع توصيف الشخصية التي يمكن أن تتسمَّى بهذا الاسم بأنها شخصية مفعمة بالحيوية والنشاط والديناميكية، وهو ما تتسم به الحياة في المدينة، أما (عبير) فإن هذا اللفظ يدل على (رائحة طيِّبة زكيَّة، أريج، أخلاط من الطِّيب، شذا ''امتلأ المكانُ بالعبير'')، وهو ما يتناسب مع الماضي/ماضي الشاعر الذي لم يعد موجودا على أرض الواقع فقد مضى وانتهي زمنه، ولم يتبق منه سوى رائحته، وهو ما يرمز إلى الحياة في القرية/قرية الشاعر، ومن ثم فإن الدلالتين متضادتان؛ إحداهما ترمز إلى ماضي الشاعر في القرية، والثانية ترمز إلى حاضر الشاعر في المدينة، وفي إطار هاتين الدائرتين من الدلالة بين الاسمين تتحرك القصيدة، وتأخذ مسارها الدرامي المتصاعد.
ونلاحظ أن العنوان يتمحور حول طرف واحد من طرفيْ الثنائية، وهو البنت الطيبة التي يشار إليها في النص باسم (عبير) ليكون لها الحضور الفعلي في العنوان، وينعكس هذا الحضور في العنوان على الحضور في النص، أما الطرف الثاني من طرفي الثنائية، وهو جيهان فلم يكن له حضور فعلي في العنوان، وإن كان له حضور على مستوى النص، وحتى حضور جيهان في النص لم يكن حضورا فاعلا، بل كان حضورا باهتا؛ إذ لم يكن حضورها إلا لإبراز جوانب في شخصية (عبير) ومن ثم فإن النص بأكمله يعد حديثا عن (عبير) وليس عن جيهان التي جاءت للكشف عن شخصية (عبير) وعلاقة الشاعر بها، وعلاقتها به.
حركة المعنى وإنتاج الدلالة:
لقد كشف العنوان في بساطته اللفظية المخادعة عن رؤية عميقة ومتجذرة في ذهن الشاعر عن الحياة الماضية/تاريخ الشاعر في بداياته الأولى، وطموحه في الخلاص من واقع رآه مؤلما، ورغم حبه له ويقينه بأنه يبادله الحب نفسه وأكثر (تحب أصابعي) إلا أنه يعلن ثورته على هذا الواقع، ويحاول الخلاص منه بطرق شتى، ورغم محاولة هذا الواقع جذبه إليه إلا أن الشاعر يبتكر الطرق والأساليب للفرار منه، وإن خانته اختياراته فإنه لا يندم على اختياراته، وسوف نتوقف أمام حركة المعنى في القصيدة؛ لتتكشف لنا الرؤية الفكرية التي يحاول الشاعر إخفاءها خلف شبكة العلاقات اللغوية المنسوجة بعناية فائقة، ودقة عالية، وإحكام شديد، تميَّزت به نصوص البهاء حسين، وإن طالت.
- 1 -
لا تخطر على بالى " عبير "
مع أنها كانت تحب رائحتى حين أفرح
كانت تحب أصابعى وترى فيها عدة طرق إلى قلبى
وأنا أحببتها مؤقتاً
لأنى لا أستطيع العيش بدون حب
لطالما عاملت صدرها بانتهازية
كنت أقضم قطعة منه فى كل مرة
وأحتفظ بها فى سلة الذكريات
لطالما رأيت الحب على أنه جسد
حين يكون بلا عيب
يكتمل حبى
يبدأ المقطع بجملة منفية (لا تخطر على بالي عبير) ومعنى أنها لا تخطر على باله أنها كانت ماضيا، وأن هذا الماضي مختلف تماما عن الحاضر، وأنه قد فارقه إلى غير رجعة، ولا وجود له في ذاكرته، ولم يعد يخطر على باله، ومن الملاحظ أن أداة النفي في الجملة هي (لا) الداخلة على الفعل المضارع، والدالة على نفي الحاضر والمستقبل، ولكي نعرف الدلالة المرادة فإن علينا أن نتخيل الجملة بصور أخرى للنفي (لم تخطر على بالي عبير – لن تخطر على بالي عبير) فالجملة الأولى تنفي الماضي ولكنها لا تنفي المستقبل، بمعنى أنها نفت أن تكون (عبير) خطرت على باله من خلال استخدام أداة النفي (لم) ولكن من الممكن أن تخطر على باله في المستقبل، وأما الجملة الثانية (لن تخطر على بالي عبير) فهي تنفي المستقبل من خلال استخدام أداة النفي (لن) ولكنها لم تنفِ الماضي، بمعنى أن (عبير) يمكن أن تكون خطرت على باله، ولكنها لن تخطر على باله بعد الآن، وهنا تأتي دلالة الجملة التي استخدمها النص (لا تخطر على بالي عبير) فقد استخدم أداة النفي (لا) وألحق بها الفعل المضارع، وهي في هذه الحالة تدل على نفي الحاضر والمستقبل إلا إذا كانت هناك قرينة دالة على نفي أحدهما دون الآخر، وهذا يعني أن (عبير) لا وجود لها في خاطره حاليا، ولن يكون لها وجود أيضا في المستقبل، ولكننا نلاحظ أن الشاعر يذكرها هنا مع دلالة النفي، وهذا يعني أنها خطرت على باله الآن لحظة صياغة النص، أو خطرت على باله فأدى ذلك إلى صياغة النص، مما ينفي ما أراد الشاعر أن ينفيه، وكما نعلم أن نفي النفي إثبات، ومن ثم فإن الشاعر حين ذكر (عبيرا) في قصيدته فقد أثبت أنها مازالت في ذاكرته وأنها خطرت على باله، فتحدث عنها، وهو ما يعني أيضا أننا لا نطمئن إلى الادعاء بأنها لم تخطر على باله في الفترات الماضية، لقد أثبت الشاعر – بطريق غير مباشرة – احتلال (عبير) مكانة – تبدو مركزية – في ذاكرته من حيث أراد نفي هذه المكانة، ثم يقول (مع أنها كانت تحب رائحتي حين أفرح .. كانت تحب أصابعى وترى فيها عدة طرق إلى قلبى .. وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) وهذا يدل على أن تفاصيل (عبير) النفسية، وملامحها الإنسانية راسخة في ذهن الشاعر، ولم تستطع الأيام أن تمحوها من ذاكرته، ويبدو من الجملة الأولى محاولة الشاعر تسجيل التعجب من هذا الفعل/لا تخطر على بالي عبير، من خلال قوله (مع أنها ...) وكأنه يريد أن يقول: كيف لا تخطر على بالي وهي التي كانت تحب أصابعي؟ ولكننا نكتشف أن الشاعر يسوق مبررا منطقيا لعدم حضور (عبير) في باله، وهو أنه لم يكن صادقا في حبها (وأنا أحببتها مؤقتـًا لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) لقد أحبها؛ لأنه لم يكن يمتلك أن يحب غيرها، ولكنها أحبته بصدق (كانت تحب أصابعى وترى فيها عدة طرق إلى قلبى) وإذا كانت (عبير) تمثل الماضي/القرية فإن تلك الحياة التي كانت تمثلها (عبير) لم تكن هدف الشاعر، ولا الطموح الذي يسعى إلى تحقيقه، ومن ثم فإن رؤيته لحب (عبير) كانت نابعة من أنه لم يكن أمامه إلا أن يتعامل مع الواقع المعاش الذي فرض نفسه عليه بحكم تواجده آنيًّا داخل هذا الواقع الذي لم يكن أمامه غيره، ولكنه كان يطمح إلى حياة المدينة/جيهان بكل ما فيها من صخب وديناميكية، وحيوية بهرته، وهذا يبرر تعامله مع عبير/الواقع/القرية بانتهازية، وفي هذا المقطع تتجلى الثنائية الضدية بين الشاعر والبنت فالشاعر أحبها؛ لأنه لم يكن يمتلك أن يحب غيرها، بمعنى أنه ليس لديه ما يجعله يحب غيرها، أو ما يغري غيرها أن تحبه، كما أنه لا يستطيع أن يعيش بدون حب؛ لذلك كان حبه مؤقتا، إلى حين تأتي من يحبها بصدق، أو يمتلك ما يجعل غيرها تحبه، ونتيجة لذلك تعامل معها بانتهازية، فكان حبه مرتكزا على الجانب المادي، أي المنفعة، فهو حب نفعي بالدرجة الأولى، يقول (لطالما عاملت صدرها بانتهازية كنت أقضم قطعة منه فى كل مرة وأحتفظ بها فى سلة الذكريات لطالما رأيت الحب على أنه جسد ) وتبدو الألفاظ المستخدمة دالة إلى أبعد الحدود (طالما – انتهازية – أقضم – سلة) أما هي فقد أحبته بصدق (كانت تحب رائحتي حين أفرح .. كانت تحب أصابعى وترى فيها عدة طرق إلى قلبى) ونلاحظ استخدام الشاعر ألفاظ ذات دلالة خاصة (رائحتي حين أفرح – تحب أصابعي – عدة طرق إلى قلبي) فهل للإنسان رائحة حين يفرح؟! إن للفرح علامات تبدو على الإنسان تدل على فرحه، كما أن إشارته إلى أن البنت كانت تحب أصابعه وترى فيها عدة طرق إلى قلبه، فما العلاقة بين الأصابع وطرق القلب؟وهنا يبنبغي أن نشير إلى أن علينا أن ننتبه إلى أن الصور الواردة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها، ولكنها تأتي لدلالات أخرى غير مباشرة، وهذه إحدى السمات المميزة لشعر البهاء حسين، فالأصابع هنا قد تشير إلى العمل الدؤوب الذي يتميز به أهل القرية، ولذلك فإن (عبير) كانت تحب أصابعه أي تحب فيه العمل والإنتاج والدأب، أما رؤيته للحب أنه جسد، أي جانب مادي فإنه يشير إلى الفقر الذي يهيمن على القرية وأهلها، ومن ثم فإن هذا الدأب في العمل والجهد الجهيد ليس له مقابل يتساوى معه، ورغم أنه ينظر إلى الحب على أنه جسد فإنه لا يخرج عن منظومة القيم في القرية؛ فهو يرى أن تحقيق الجانب المادي/المتطلبات المادية يجب أن يكون بطرق مشروعة (لطالما رأيت الحب على أنه جسد حين يكون بلا عيب يكتمل الحب) ومن الملاحظ أن الشاعر كلما قضم قطعة من صدر البنت/القرية يحتفظ بها في سلة الذكريات، أي أنه يحتفظ بها؛ لتكون هذه القطعة دالة فيما بعد على تاريخه الذي سيدوِّنه، لقد بدا المقطع الأول مدخلا مؤسِّسا للبنية الفكرية في النص التي ستنداح عبر النص بأكمله ممسكة بتلابيب المحمولات الدلالية، وناسجة خيوط النص طولا وعرضا، ثم تنفتح الدلالة أكثر في المقطع الثاني، فيلجأ الشاعر إلى الحديث إلى (عبير) وجها لوجه.
- 2 –
نعم يا عبير
أنا الوغد الذى أحبك كفاصل بين تجربتين
وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى
أسرّبه من تحت الباب
الآن
وأنا أتذكر مفترق الطرق التى وضعتك فيه
كتمثال مصدوم
أضم كفى ، ربما التقينا فى خطوط يدى
الزمن
العداد الذى يحصى سنواتنا قبل أن ننتهى منها
الحب الذى تربكنا تصرفاته
واليد
التى تقود صاحبها إلى مصيره
المدقات
التى تخترعها أقدام المحبين
كلهم خذلونى
حتى جيهان التى تركتك من أجلها
هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة
الحب أب مختل
يقتل أبناءه بحجة تأديبهم
وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة
يبدأ المقطع الثاني بالحديث إلى (عبير) مباشرة (نعم يا عبير) وسواء أكانت (عبير) حاضرة حضورا ماديا أم كان الحضور معنويا، أي أن الشاعر يعود إلى ذاكرته في حديث يشبه المونولج الداخلي فإن الشاعر – بطريق غير مباشرة – ينقض ما قاله في بداية المقطع الأول (لا تخطر على بالي عبير) وحديثه إلى (عبير) هو حديث اعتراف بأخطائه التي ارتكبها (أنا الوغد الذي أحبك كفاصل بين تجربتين) وهو ما يتطابق مع قوله في المقطع الأول (وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب .. لطالما عاملت صدرها بانتهازية) ولكن اللافت هنا دخول (جيهان) كعنصر مواز لـ(عبير) محدثا بذلك التوازن بين تجربتين/مرحلتين، الأولى تمثلها (عبير) وهي مرحلة حب المضطر، الحب الذي لم يكن أمام الشاعر غيره، ولم يختره، بل كان مفروضا عليه بطريقة أو بأخرى، والثانية تمثلها (جيهان) وهي مرحلة الحب الذي اختاره اختيارا حرا، ويمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاثة أقسام، يبدأ الشاعر في القسم الأول باعتراف يبدو على شكل إجابة على سؤال موجَّه إليه (نعم يا عبير) وكأننا نتخيل (عبير) تلومه عندما وجدت فشل اختياره، وتخلي الجميع عنه، فتكون الإجابة (نعم يا عبير) في شكل إقرار بما فعل، ويستدعي ذلك مجموعة من الأوصاف تعبر عن انكشاف الوجه الحقيقي لحبه الانتهازي لـ(عبير) البنت الطيبة التي صدقت في حبها (أنا الوغد الذى أحبك كفاصل بين تجربتين .. وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب) لقد كان يصرّ على التخلي عنها، وهي تصر على التمسك به؛ فهي تغلق الحجرة على حبه كناية عن التمسك بحبه، ولكنه يسرِّبه من تحت الباب، كناية عن إصراره على التخلي عن هذا الحب، ثم يأتي القسم الثاني من هذا المقطع (الآن وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه كتمثال مصدوم أضم كفى ، ربما التقينا فى خطوط يدى ... الزمن العداد الذى يحصى سنواتنا قبل أن ننتهى منها ... الحب الذى تربكنا تصرفاته ... واليد التى تقود صاحبها إلى مصيره ... المدقات التى تخترعها أقدام المحبين) إن الملاحظة الأولى في هذا القسم تتمثل في قوله (الآن أتذكر) ليعود بنا إلى المقطع الأول الذي نفي أن تكون (عبير) تخطر على باله حاضرا أو مستقبلا (لا تخطر على بالي عبير) ليؤكد أنه مازال يتذكرها، ويتذكر الاختيارات الصعبة التي وضعها فيها (مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) وقد حاولت المعاجم العربية المعاصرة تفسير دلالة (مفترق الطرق) فكان من دلالاتها (مفْترق الطّرق: ساعة الفصل والحسم ''تقف الأمة العربية الآن في مفترق طرق'' – اِنْتَهَتِ الأَزْمَةُ إِلَى مُفْتَرَقِ الطُّرُقِ، أي إِلَى مَوْقِفٍ مُتَشَعِّب – وَجَدَ نَفْسَهُ فِي تَحَيُّرٍ عِنْدَ مُفَتَرَقِ الطُّرُقِ: عَدَمُ تَبَيُّنِ طَرِيقِهِ وَالاِهْتِدَاءِ إِلَيْهِ( وقد اختزلت جملة الشاعر (مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) الدلالات السابقة كلها؛ فقد انتهت العلاقة بينهما (الشاعر – عبير) إلى مفترق طرق حين اختار غيرها (جيهان) حبيبة، وقرر اللجوء إليها، فكان لكل منهما طريق غير الآخر، وكانت النتيجة التي وصل إليها الآن، واكتشف انتهازية حبه الأول (عبير) وتخلي حبه الثاني (جيهان) عنه، فوصلت علاقته بالأطراف كلها أيضا إلى مفترق طرق، ثم يصف الشاعر (عبير) لحظة اكتشافها لحقيقة حبه (كتمثال مصدوم) فالتعبير يدل على حالة التجمد التي وصلت إليها عبير/كتمثال، وحالة الصدمة وعدم التصديق؛ لأنها قدَّمت كل ما تستطيع لإبقائه، ولكنه كان مصرا على الذهاب، ثم يتمنى أن يلتقيها ولكن في خطوط اليد التي قادت صاحبها إلى مصيره؛ ليعبر بذلك عن مسؤولينه عن اختياره (واليد التي تقود صاحبها إلى مصيره) ويتذكر كذلك الطرقات التي سار فيها، وكانت من اختياره أيضا، ثم يأتي القسم الثالث من المقطع ليقر بالنهاية الأليمة لكل اختياراته (كلهم خذلونى .. حتى جيهان التى تركتك من أجلها .. هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة .. الحب أب مختل .. يقتل أبناءه بحجة تأديبهم .. وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة) في بداية هذا القسم يورد الشاعر جملة خبرية (كلهم خذلوني) ولفظ (كل) دال بدقة على الشمول، فكل الذين وضع الشاعر أمله عليهم تخلوا عنه مع قدرتهم على عدم التخلي؛ فقد ورد معنى (خذل) في المعاجم العربية دالا على تخييب الأمل فيمن رجاه (خذَل صديقَه/ خذَل عن صديقِه: تخلَّى عن نصرته وإعانته، المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم لا يَظْلِمُهُ ولا يَخْذُلُهُ – خَذَلتِ الظَّبْيَةُ : تَخَلَّفَتْ عَنِ القَطِيعِ – خذلته آمالُه: خاب رجاؤُه – خذلته قدماه: لم يقدر على المشي – فلان خَذولُ الرِّجل: تخذُله رجلُه من ضعفٍ أو عاهَة أو سُكْرٍ) ثم يشير في مرارة إلى (جيهان) التي ترك (عبيرا) من أجلها (حتى جيهان التى تركتك من أجلها .. هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة) ولكنه يحاول تبرير مرارته دون إخفائها حين يقول (الحب أب مختل .. يقتل أبناءه بحجة تأديبهم .. وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة) فهل عاد الشاعر إلى (عبير) متحدثا عنها نتيجة وصوله إلى قناعته بفشل اختياراته، أو أنه لم يجد أمامه غيرها بعد أن تخلى عنه الجميع، ولم يعد أمامه غيرها؟ وهنا أيضا يقرُّ بطريق غير مباشرة بانتهازيته التي مازال يمارسها مع (عبير) لأنه ما كان ليذكرها لولا تخلي (جيهان) عنه، وهي التي ترك (عبيرا) من أجلها، وهذا يعني أن رجوعه إلى (عبير) متذكرا إياها ومتحدثا عنها ما هو إلا تأكيد لما تحدث عنه في المقطع الأول حين قال (وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) وهذا يعني أيضا أنه لم يتغير، ولن تتغير قناعاته، فعندما تخلت عنه (جيهان) التي ترك (عبيرا) من أجلها لم يجعله ذلك يدرك أن (عبيرا) هي الحب الحقيقي، وأنه أخطأ بتركها، ولكنه يعترف بخطأ اختياره ليس من أجل تصحيحه، وإنما ليكرر ما فعل في الماضي، وكأن (عبيرا) مجرد ركن يأوي إليه حين يتخلى عنه الجميع (كلهم خذلونى حتى جيهان التى تركتك من أجلها هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة) ورغم إقراره بأن المأوى الوحيد له هو (عبير) إلا أنه يقر في الوقت نفسه بأنه يحبها حين لم يجد أمامه سوى ذلك، ثم ينتقل الشاعر إلى المقطع الثالث من القصيدة؛ ليعبر في مرارة عن صفاء الحب الذي كانت تمارسه (عبير) كاشفا عن براءتها والتوائه.
- 3 –
كانت عبير تنظر إلى يدى
كمعجزة
كانت تقارنها بأمها
وحين تجد فيها ملمحاً زائداً تحذفه
كأنه إصبع زائدة
يا ما أخذتْ يدى إلى مناطقها المأهولة
تبّتْ يدى
مرة ظلت تمصّ أصابعى
حتى نسيتها فى فمها
الحب يجعلنا ننسى أنفسنا عامدين
لم يكن ليدى بدّ من الحب
لأنها ولدت يتيمة
لابد من قراءة هذا المقطع تماشيا مع الإطار العام للقصيدة بأن الصور المستخدمة في القصيدة ليست مقصودة لذاتها، ولكنها تستخدم لدلالات إيحائية متعددة، ومن ثم فإننا نتلمس بعض الألفاظ العلامات في هذا المقطع؛ لنحاول فهم الدلالة المتخفية خلف الشكل اللغوي الظاهر في مجموعة من الألفاظ البسيطة، ولكنها عميقة الدلالة والإيحاء، ومن تلك الألفاظ (يدي كمعجزة – حين تجد فيها ملمحاً زائداً تحذفه – يا ما أخذتْ يدى إلى مناطقها المأهولة – لأنها ولدت يتيمة) وهنا نبدأ من الجملة الأخيرة (لأنها ولدت يتيمة) فإنها مفتاح الدلالة في هذا المقطع، وقد يكون مفتاحا للرؤية في القصيدة بأكملها، فاليد اليتيمة تعاني الحرمان ومن ثم فهي مجبرة على التعامل مع الواقع الذي تعاني منه (لم يكن ليدي بد من الحب) ولكنها ترى ضرورة الخلاص والفرار مهما حاول هذا الواقع فرض سيطرته عليها، ومهما كان هذا الواقع يحب تلك اليد اليتيمة، ولكنها ترى ضرورة الخلاص إلى نقيض مغاير، ومن ثم فإن محاولة الواقع إظهار جمالياته لهذه اليد اليتيمة للتمسك بها، وإقناعها بضرورة قبوله محاولة فاشلة، وهو ما عبَّر عنه الشاعر بقوله (يا ما أخذتْ يدى إلى مناطقها المأهولة) وإذا قلنا فيما سبق إن (عبيرا) تمثل الماضي/القرية بكل ما فيها فإنها عندما تأخذ يده إلى مناطقها المأهولة فهذا يعني أنها تحاول أن تقدم له ما يجعله يتمسك بها/عبير/القرية، ولكن نلاحظ إصرار الشاعر على الرفض من خلال قوله (تبت يدي) وإذا تخيلنا أن الشاعر كان يعيش في بيئة فقيرة فإننا نستطيع أن نفهم قوله (كانت عبير تنظر إلى يدى كمعجزة) فهي تراه المخلص لها باعتباره المتعلم والقارئ والشاعر – وقد أورد الشاعر ذلك في قصيدته (كاتب الخطابات) – وهو ما يفسر إصرارها عليه، وكذلك يفسر إصراره على الخلاص؛ فهي لا تستطيع تحقيق طموحه، وإن كان يقع أحيانا في خداع الاستسلام، وهو ما يفسر قوله (مرة ظلت تمصّ أصابعى حتى نسيتها فى فمها الحب يجعلنا ننسى أنفسنا عامدين) ولكنه يسرع بتبرير ذلك بقوله (لم يكن ليدي بد من الحب لأنها ولدت يتيمة) إن البحث خلف المرآة اللغوية الظاهرة يكشف ملمحا من ملامح الصراع الخفي الذي كان دائرا بين الشاعر ونفسه من ناحية وبين الشاعر وعبير/القرية/البيئة من ناحية أخرى، كما يكشف عن الفكرة التي كان يلحُّ عليها باستمرار منذ المطلع النص، ولا يفتأ يكررها كلما سنحت الفرصة، وسمحت الدلالة، وهي قوله في المقطع الأول (وأنا أحببتها مؤقتاً لأنى لا أستطيع العيش بدون حب) وقوله هنا (لم يكن ليدي بد من الحب لأنها ولدت يتيمة) وعبَّر عنه في المقطع الخامس بقوله (والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) وهو ما يعدُّ مفتاحا للدلالة في النص إذا أردنا تتبع خيوط الرؤية المنسوجة بعناية فائقة.
ثم يأتي المقطع الرابع من القصيدة؛ ليكون تطورا طبيعيا للنص، واستكمالا لحركة المعنى المتموجة صعودا وهبوطا مع تضاريس مختلفة، ونتوءات متعددة، معبرة عن مأساة إنسانية لإنسان يحاول الخلاص من واقعه متمردا عليه، ورافضا لكل الإغراءات التي يقدمها هذا الواقع، ومتخليا عن البراءة والحب الصافي الذي يمثله هذا الواقع؛ فالشاعر كان يطلب شيئا آخر لا يقدمه هذا الواقع، ومن ثم كان الفراق ضروريا، والفرار حتميا.
- 4 -
كان لا بد لى من جيهان؛ لأنها أجمل
كان لا بد للطرق أن تتقاطع
الأقدام تختار الطريق
لكن الطريق لا يخبرها بآخره
للطرق حيل هى الأخرى
تعرف النهاية ، لكنها تفضل أن تصل الأقدام إلى هناك
النهاية بداية تبحث لنفسها عن مسمّى
لكننى يا عبير اخترت جيهان بقلبى كله
يبدأ المقطع بإقرار حتمية اختياره (كان لابد من جيهان) ثم يبرر هذا الاختيار (لأنها أجمل) وهذا الاختيار لجيهان كان لابد أن يجعل الطرق تتقاطع، وقد عبَّر عن الفكرة نفسها في المقطع الثاني (وأنا أتذكر مفترق الطرق الذي وضعتك فيه) وإذا كان الشاعر قد أقر بفشل اختياره في المقطع الثاني (كلهم خذلونى حتى جيهان التى تركتك من أجلها هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة) فإنه لم يقر بفشل الرؤية التي انطلق منها، وأنه لن يتخلى عن هذه الرؤية؛ لأنها نابعة من اختياره الحر، وليست مفروضة عليه، حين قال في نهاية المقطع (لكننى يا عبير اخترت جيهان بقلبى كله) وإذا كانت جيهان قد خذلته مثل الجميع فإن هذا لا يعني أنه سوف يختار العودة إلى (عبير) فهو لم يكن يعرف أن جيهان ستخذله؛ فالطرق لا تخبر عن نهايتها (الأقدام تختار الطريق لكن الطريق لا يخبرها بآخره) فهو قد اختار عن قناعة (لكننى يا عبير اخترت جيهان بقلبى كله) فهذا المقطع يقر بحتمية الاختيار/الخروج من القرية والفرار من (عبير) ويبرر كذلك بأن خذلان جيهان لا يعني العودة إلى (عبير) ولكنه يعني أن اختياره سيستمر بعيدا عنها؛ لأنه منذ البداية قرر الابتعاد عن (عبير) وهو ما عبَّر عنه في المقطع الأول (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب) ثم يأتي المقطع الخامس؛ لينفتح على زاوية أخرى من الرؤية وإن كانت تتكامل مع بقية الزوايا التي عبّر عنها النص في مقاطعه السابقة.
- 5 -
وحين كنت تتصلين بى لأسمع آية تلعن الخائنين
كنت آخذ لعنتى وأدفنها فى صدرها
آسف يا حبيبتى
لكن ما الذى يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل
لقلب من غير نبض
الزمن يا عبير
الزمن
تذكرين حين أردتُ أن أعريك تحت المطر
فى محطة الرمل
حين دونت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين
اليوم وأنا أتصفحه
بعد خمسة وعشرين عاماً
وجدت اسمك فى الصفحة الأخيرة
كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر
ما أغرب المصادفات
ما أطول الطريق الذى نمشى فيه
ثم يكون على أحدنا أن يكمله وحده
يا إلهى
كان طريقى صعباً
وكنت أمشى حافى القدمين وراء اختياراتى
الحياة
طريق من حصى
والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين
يستمر المقطع الخامس في تقديم تطور آخر للقصيدة من زاوية مختلفة، ويمكن تقسيم هذا المقطع إلى ثلاثة أقسام، أما القسم الأول فإنه يبدأ بالكشف عن استمرار عبير في الحب، فلم تنقطع عن مشاعرها يوما، وأما (آية) فمن الممكن تأويلها بأكثر من دلالة، ومنها أنها ترمز إلى الحب من حيث اللفظ والدلالة، فمن حيث اللفظ هي آية، والآية علامة دالة، ومن حيث الدلالة فهي آية على الحب المستمر من (عبير) والهروب المستمر من الشاعر، وهو ما يمكن أن يفسر جملة (تلعن الخائنين) أي أن هذه الآية دالة على خيانة الشاعر لــ(عبير)/الماضي/ القرية/الحياة الأولى، ولكنه يمتصّ اللعنة ويدفنها في الصدر، ثم يعتذر الشاعر مرة أخرى رغم أن الاعتذار لن يفيد (لكن ما الذى يصنعه الأسف ليد بلا مستقبل ... لقلب من غير نبض) فالاعتذار هنا ليس من أجل العودة ولكنه اعتذار تبرير للأفعال، فمن المعروف أن الاعتذار يكون عن خطأ، وإذا كان الشاعر يقر بالخطأ فلماذا لا يعود إلى الصواب؟ الحقيقة أن الاعتذار هنا اعتذار عن التماهي مع (عبير) فيما تريد؛ لأن الاتجاهين – هي والشاعر – مختلفان، ومن ثم فإنه ليس اعتذارا عن خطأ ارتكبه الشاعر، وهو ما عبَّر عنه أكثر من مرة منذ بداية النص، فرغم إقراره بأن الجميع خذلوه بما فيهم جيهان (كلهم خذلونى حتى جيهان التى تركتك من أجلها هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة) يعود ليقول (كان لا بد لى من جيهان؛ لأنها أجمل .. كان لا بد للطرق أن تتقاطع .. الأقدام تختار الطريق) ومن هذه الزاوية يمكن فهم اعتذار الشاعر لــ(عبير) أما القسم الثاني من المقطع فيقول (تذكرين حين أردتُ أن أعريك تحت المطر فى محطة الرمل .. حين دونت تاريخ اللقاء بأحد الدواوين .. اليوم وأنا أتصفحه بعد خمسة وعشرين عاماً وجدت اسمك فى الصفحة الأخيرة كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر) والتعرية التي يتحدث عنها النص هنا قد يكون المقصود منها الحديث عن عدم رغبة الشاعر في (عبير) رغم حبها الجارف له، واستخدام (محطة الرمل) إشارة إلى التعرية أما الجميع، أي الحديث الصريح عن عدم رغبته في (عبير) وهو يتذكر هذا الأمر اليوم كأنه العلامة الوحيدة الدالة عليه (كأنه رقم إيداع لذنب ليس مقدراً له أن يُغفر) وكأنه لم يفعل شيئا سوى أنه أهان (عبيرا) أمام الجميع (في محطة الرمل) وتحدث عن كونه لا تصلح له، وأنه مهما حدث من جيهان وخذلانها له فما زالت رغبته فيها لم تتغير، وكأن هذا الحديث هو الذنب الذي ارتكبه من وجهة نظر البعض ومنهم (عبير) بالتأكيد، ويأبى هذا الذنب أن يغتفر، ثم يأتي القسم الثالث ليقول الشاعر (ما أغرب المصادفات .. ما أطول الطريق الذى نمشى فيه .. ثم يكون على أحدنا أن يكمله وحده .. يا إلهى .. كان طريقى صعباً .. وكنت أمشى حافى القدمين وراء اختياراتى .. الحياة طريق من حصى .. والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) من الواضح أن الشاعر لم يتراجع عن اختياراته، ولكنه يؤكد على هذه الاختيارات التي كلفته كثيرا (وكنت أمشى حافى القدمين وراء اختياراتى) وكأن النص يريد أن يؤكد أن بيئة الشاعر لا تقبل أن تكون له اختيارات، وأن طريقه مرسوم بعناية، وينبغي أن يمشي فيه، وأنه إذا حاول الاختيار فإنه سوف يعاني (كان طريقي صعبا وكنت أمشي حافي القدمين وراء اختياراتي) والربط بين المشي حافي القدمين والاختيارات دليل على أن الاختيار في بيئته كان مرفوضا، وهذا ما يفسر ما قاله في بداية النص (وكنتُ حين تغلقين الحجرة على حبى أسرّبه من تحت الباب ) وهنا تنفتح الدلالة أكثر؛ إذ يكشف النص عن المغزي الحقيقي لمعاناة الشاعر، وهو الاختيار، كما يكشف عن ملاحقة (عبير) المستمرة له، وعدم نسيانه؛ فهي تمثل الطريق المرسوم، وهو يهرب دائما من الطرق المرسومة، ويريد أن تكون له اختياراته الخاصة، وأن يتحمل نتائج هذه الاختيارات، وهو ما عبَّر عنه بقوله (الحياة طريق من حصى .. والاختيار حجر ثقيل نحمله مرغمين) ولماذا نتحمل نتائج الاختيار كأنه حجر ثقيل نحمله مرغمين؟ لأننا في بيئة ترفض فكرة الاختيار، ولا تتقبل إلا أن يعيش الإنسان وفق اختيارات بيئته، ومن ثم فإن هذا المقطع الخامس كاشف بصورة من الصور عن إصرار الشاعر على ممارسة الاختيار وتحمل نتائجه، ثم يأتي المقطع السادس والأخير لتتكشف الدلالة أكثر، ويبدأ النص في إسدال الستار على التطور الدرامي الذي بدأ منذ المقطع الأول.
- 6 –
غدارة جيهان يا عبير
كالمطبات ، كحفرة مفاجئة
كانت تريد ان تعطى لأهلها نصف بيتى
نصفى
يدى اقتصتْ لك منى
تمثالك تناسل فىّ
أظن لو أننا تزوجنا
كنت ستحرسين قبلاتنا
المصحف الصغير، البرواز الذى أضع فيه الآن صورة ابنتى
غير أننى مشيتُ معك وراء جسدى
ومشيتُ معها عارياً
من جسدى وقلبى .
في هذا المقطع الأخير من القصيدة تحضر الشخصيتان اللتان تنازعتا الدلالة منذ بداية النص، فيورد الشاعر المقارنة بين الشخصيتين: عبير وجيهان/القرية والمدينة، وفي حضور القرية تحضر مكونات محددة (المصحف الصغير – البرواز) ويحضر كذلك الضغط المادي/الفقر، وقد يكون السبب الرئيسي في مغادرة المحبوبة الأولى/عبير/ القرية (مشيتُ معك وراء جسدى) والجسد هنا إشارة إلى كل ما هو مادي من متطلبات ضاغطة على الحياة، وأما المدينة فيحضر معها أهم ملمح يركز عليه الشاعر دائما (ومشيتُ معها عارياً من جسدى وقلبي) فالمدينة قد جعلته عاريا من الجسد/الجانب المادي، ومن القلب/الشعور والإحساس، ومن ثم فإنه ينحاز إلى القرية، ولكنه لا يستطيع أن يعيش إلا في المدينة التي أصبحت واقعا ملموسا، وأما القرية فأصبحت مجرد عبير يذكره بصفاء حياته الأولى، وبدائية الحلم، ويتجلى ارتباطه بالقرية من خلال قوله (أظن لو أننا تزوجنا كنت ستحرسين قبلاتنا) كما أن النسل سيستمر اعتزازا به (البرواز الذى أضع فيه الآن صورة ابنتى) فالبنت رمز للعطاء والحياة، وتعليقها في برواز وحراسته بمثابة حفاظ على الحياة، فالقرية/عبير تحفظ الحياة وتحافظ عليها في عطائها الراقي والنقي، وتجعله في برواز حفاظا عليه، وإن كانت الحياة المادية ضعيفة، ولكنها مليئة بالحياة والحب والعطاء (أظن لو أننا تزوجنا كنت ستحرسين قبلاتنا .. المصحف الصغير، البرواز الذى أضع فيه الآن صورة ابنتى .. غير أننى مشيتُ معك وراء جسدى .. ومشيتُ معها عارياً من جسدى وقلبى) وهنا لابد لنا أن نستدعي الصورة الأخرى/جيهان/المدينة، وما فيها، فإذا كان الحب صافيا في القرية، وعبير حريصة على المصحف/الدين وصورة البنت في البرواز/احترام النسل والمحافظة عليه من أجل الامتداد فإن المدينة تختلف تماما؛ إذ يقول (جيهان التى تركتك من أجلها هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة .. الحب أب مختل يقتل أبناءه بحجة تأديبهم .. وخطوط الكف قضبان قطار يمضى من غير وجهة) ففي المدينة الحب كالأب المختل الذي فقد عقله وصوابه، فلا مقياس لتصرفاته، كما أن المحبوبة لا عهد لها ولا أمان (هجرتنى وبقيتُ بيد واحدة) أما الكارثة الكبرى فهي أن يقتل الأب أبناءه إشارة إلى التفسخ والترهل الذي يصيب حياة المدينة، وهو مقابل تماما لما هو موجود في القرية (كنت ستحرسين قبلاتنا/ المصحف الصغير، البرواز الذى أضع فيه الآن صورة ابنتى) أي أن القرية تحافظ على الحب والمودة، كما تحافظ على الدين، وتحافظ كذلك على النسل، لقد حاولنا في تتبعنا لحركة المعنى أن نرصد التوافق الدلالي بين مكونات القصيدة من هذه الزاوية التأويلية؛ لكي تجد الرؤية المطروحة مشروعيتها من خلال هذا التوافق الدلالي، وإن كانت هناك زوايا تأويلية أخرى تجد لها مشروعية من خلال تأويل آخر للعلاقات اللغوية في القصيدة.

د. محمد سعيد شحاتة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى