د. عادل الاسطة - عاطف أبو سيف وعودة اللاجئين والنكبة التي لا تنتهي :

ينهي الروائي عاطف أبو سيف روايته الأخيرة "الحاجة كريستينا" بفصل عنوانه "عودة كريستينا".
صدرت الرواية التي تقع في 312 صفحة في العام 2016 ، وهي تحكي قصة فضة التي ولدت في 1936 وسافرت إلى لندن ، صحبة رجل انجليزي كان صديقا لأبيها ، في العام 1947 لتتعالج هناك ، وفقدت عائلتها في العام 1948 ، إذ قتلت العائلة بالكامل ، فتبنى الانجليزي جورج الفتاة وسماها كربستينا ، وعاشت في كنفه حتى العام 1958 ، ولما توفي فجأة لم يرق لأخواته أن تظل فضة بينهن ، فقررن إعادتها إلى بلدها ، وهكذا عادت إلى غزة لتقيم في مخيم للاجئين الفلسطينيين واحدا وخمسين عاما ، وفجأة في بداية حرب 2014 يحضر لاندروفر فيه بريطانيان ودليل ليقل كريستينا إلى لندن باعتبارها مواطنة تحمل الجنسية الانجليزية والحفاظ على حياتها تحتمه حقوق المواطنة .
قد يسأل سائل :
- ولماذا لم تهتم بريطانيا بمواطنتها في الحروب السابقة من عام 1967 حتى حرب 2012 ؟
لا يغفل الراوي الذي يتدخل ويفسر ويتساءل ويقدم ويؤخر ويشرح ويعلل ، لا يغفل عن الأمر ، ويوضح للقراء ما جرى ويعطي السبب وهو "البحث عن الورثة " ، فقد تبنى جورج الانجليزي فضة ، حين عرف مصير عائلتها في الحرب وسماها كربستينا وبذلك اكتسبت الجنسية البريطانية.
تتكون الرواية من ثلاثة عشر قسما لكل قسم عنوان يمت بصلة لما كتب تحته ، والعناوين هي :
- الشبح ، أيد لا تلوح في الهواء ، الحياة في يافا ، لندن 1947 ، الحياة التي كانت ، مجلس النساء ، مجلس الرجال ، الحنين لا يجف على الطريق ، الركض في ممرات الماضي ، رجعات لم تتحقق ، قديسة في قارب و عودة كريستينا .
وهكذا تقرأ عن الحياة في يافا قبل العام 1948 وتقرأ عن لندن في 1947 حتى 1958 ولندن بعد 2014 ، وتقرأ عن مجالس النساء ومجالس الرجال في مخيم لاجئين في غزة ، وتحت العنوانين ؛ مجلس النساء ومجلس الرجال تعرف حكايات اللاجئين الفلسطينيين وحياتهم وآلامهم وآمالهم ومعاناتهم وضنك عيشهم وحصارهم وجنون واقعهم وحلمهم المستمر بالعودة ، وكانت فضة واحدة من هؤلاء .
ظل اللاجئون الفلسطينيون يحلمون بالعودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا منها ، وكانت عبارة "يوم رجعتنا " أو "برجعتنا للبلاد " هي العبارة التي تجري على ألسنتهم كلما التقوا في مجلس وشربوا قهوتهم أو تناولوا طعامهم معا ، ولكن الرجعة إلى البلاد ، مثل رجعات أخرى ، ظلت صعبة المنال وقد لخصها القسم الذي عنوانه " رجعات لم تتحقق " .
ينهي عاطف أبو سيف روايته بقسم عنوانه " عودة كريستينا " وبذلك تتحقق عودة ما ولو إلى قطاع غزة ، فهل يتحقق حلم العودة ؟ وإن تحقق فكيف يتحقق؟
في القراءة البدئية للعنوان الفرعي ، قبل إتمام قراءة المتن الذي أدرج تحته ، يعتقد القاريء أن الحاجة كريستينا ابنة التاسعة والسبعين عاما ، المولودة في يافا والمقيمة في العام 2015 في لندن ، تعود إلى غزة أو إلى يافا ، ولكنه -أي القاريء يكتشف ، بعد الانتهاء من قراءة القسم ، أن كريستينا التي عادت هي حفيدة كريستينا المولودة في يافا ، وللقصة قصة .
لما عادت كريستينا من لندن في 1958 وأقامت في المخيم تزوجت يافاويا لاجئا استشهد في أثناء مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لغزة بعد عام 1967 ، وخلف الزوج وكريستينا طفلا اسمياه ياسر ، وكبر وذهب ليدرس في القاهرة ، وفي أثناء حرب 1982 في لبنان التحق بالمقاومة ليكمل مسيرة والده ، ثم اختفى وانقطعت أخباره . وسنستنتج ونحن نقرأ "عودة كريستينا " أن كريستينا هذه التي تحمل جواز سفر أجنبي هي ابنة ياسر ابن كريستينا .لقد جاءت تبحث عن جدتها لأبيها فارتاب أهل المخيم فيها ثم عرفوا الحقيقة ، وتجسد كريستينا حلم العودة إلى مسقط رأس أبيها .صحيح أن العودة لم تكن إلى يافا ولكنها عودة ، والعنوان الفرعي يحتوي على هذا الدال الذي لم يشع على ألسنة الفلسطينيين حتى 1967 دال آخر مثله إلا ربما دال الحرب أو دال السلام ومؤخرا دوال أسير وسجين وشهيد .
العنوان الفرعي هذا استثار في شخصيا ظاهرة العودة والحلم بها في أدبياتنا وحياتنا .
في أيار من العام الماضي 2018 شاركت في ندوة عقدها مجمع القاسمي في باقة الغربية لتكريم الروائي الجزائري واسيني الأعرج .
كنا انطلقنا في باص من باصات الداخل -أي نمرته إسرائيلية ، وكان علي أنا وسامح خضر أن نعبر المعبر المخصص لأبناء الضفة الغربية ، خلافا للآخرين الوافدين بجوازات سفر أجنبية وعربية ، فقد ظل هؤلاء في الباص الذي واصل سيره دونما حاجة إلى مساءلة أو إذن . ولما كان اليوم يوم جمعة فقد كان معبر قلندية مكتظا واجتيازه يحتاج إلى ساعتين فأكثر ، ما يعني إعاقة الرحلة .
اقترح سامح خضر أن نعبر المعبر بالباص مع زملائنا العرب وهو ما كان ، فقد سمح الجندي لنا بالدخول على ألا يتكرر هذا .
هكذا دخل الفلسطينيون الذين يحملون جوازات سفر أجنبية إلى فلسطين بسهولة ودخلنا معهم تشفع لنا الجوازت الأجنبية .
حلم العودة حضر في أدبيات 50 القرن 20 في أشعار هارون هاشم رشيد ، وناقشه غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا " 1969 ، ولكن النتيجة التي توصل إليها بطل الرواية هي أن العودة غير الزيارة ، فسعيد. س زار حيفا وبيته فيها ، ولكنه لم يعد ، فالعودة تحتاج إلى حرب ينتصر فيها الفلسطيني ليفاوض من مركز قوي .
في رواية كنفاني نوقشت فكرة العودة وبعد رواية كنفاني بخمس سنوات كتب إميل حبيبي روايته "المتشائل " وأتى فيها على موضوع العودة وهو ما يتضح أصلا في عناوين الكتب الثلاثة المكونة للرواية وهي "يعاد " و" باقية " ويعاد الثانية" وللأسماء دلالات رمزية واضحة غير عصية على الاكتشاف .
الكتابة عن العودة برزت بشكل كبير في نصوص فترة اتفاقات أوسلو ، فلقد تحققت العودة الجزئية المحدودة "إلى الجزء المتاح لنا من الوطن "على حد تعبير المرحوم أحمد دحبور .
عاد فلسطينيون إلى فلسطين بجوازات سفر أجنبية ليزوروها ، وعاد آخرون إلى الضفة الغربية وقطاع غزة من خلال اتفاقات أوسلو ، واجتهد آخرون قبل أن تلتفت السلطات الإسرائيلية إلى الأمر وعادوا من خلال الاقتران بفتيات فلسطينيات يحملن جوازات سفر إسرائيلية ، وعاد قسم رابع في انتفاضة 1987 بسبب تعاونهم مع الإسرائيليين و..و..
وأعود إلى رواية "الحاجة كريستينا " ، فقد عادت الحفيدة بجواز سفر أجنبي .
هل من صلة بين عودة الفلسطينيين بجواز سفر أجنبي والحل الذي اقترحه اسحق موسى الحسيني في روايته " مذكرات دجاجة " ؟
كانت دجاجة الحسيني الحكيمة(؟) اقترحت على الزعيم وأقرانه ممن قرروا المقاومة أن يتركوا المأوى ويسيحوا في العالم ليصلحوه ، حتى إذا ما صلح عادوا إلى مأواهم .
رحم الله ابراهيم أبو لغد وأمد في عمر ربعي المدهون وآخرين كنت برفقتهم في آيار من العام 2018 !
لقد استبد بهم الحنين لرؤية حيفا ويافا وبقية مدن فلسطين ، كما استبد الحنين ببطل روايتي " السيدة من تل أبيب "و"مصائر " الذي زار حيفا والقدس ومدينته غزة بجواز سفر بريطاني .
ماذا أقول؟!
الجمعة والسبت 3 و 4 آيار 2019



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى