خيري عبدالعزيز - القرفصاء الأخير

شيء ما يجثم فوق صدره, يمسك بتلابيب الهواء أو تلابيب روحه, ثقل في الهواء يرهقه, ويجعله يلهث طلباً لذراته العاصية. يلملم أطرافه الطويلة النحيلة, يشعر بكل خلية في جسده تئن بصوت يكاد يسمعه, ويغادر الفراش.

يفتح النافذة, ينساب ضوء القمر الفضي ملقياً بظلال باهتة على الأشياء, لا تسعفه قدماه للعودة, يتهالك أسفلها, ويجلس جلسته التي اشتهر بها: "القرفصاء".

تجوس عيناه ذات اللمعة المعبرة بين الفراغات, تتملى أشياءه العتيقة طويلاً في ألفة الرفقاء: دولاب عرسه المتهالك, السرير"العمدان" متداعي الأركان, المنضدة التي نخرها السوس, "وابور الجاز"... يخيّل إليه أنَّ الأشياء تنظره, بريق عيونهم يلتمع في الظلام, يراه, يمعن النظر, نعم يراه, لم يتملكه الجنون بعد! ويرى أشياء أُخر: زوجة فتية تشعل "الوابور", وتبتسم له, قميصها الشّفيف يحتك بوجهه, نعم يحتك, بينما تضع إناء الماء على الموقد. الحجرة تضج من حوله بالأشخاص: جده, أبوه, أمه, أعمامه, أصدقائه. يرتفع حديثهم الصاخب في هذا التوقيت الحرج من لحظات المغادرة.

جده يربت على خده كما عادته, ويقبله, يشعر بدفء القبلة علي جبهته. أبوه يحمل طفلاً ذو وجه مألوف على كتفيه, ويغمز له. أمه الحنون تهدهد نفس الطفل وفي عينيه وعينيها بوادر نعاس. يأنس بوجودهم, وينسى الهواء وذراته العاصية, وحرج لحظات المغادرة.

الطفل ذو الوجه المألوف يبحث في شغف وخوف عن قرش صاغ ضائع بين أكوام التراب, لا يجده, تنساب دموعه, تمس شغاف قلبه, تمتد يده تبحث عن قرش صاغ ليعطيه له, يكتشف أنَّ زمن القروش ولى بلا رجعة تُرتجى, يشيح بوجهه متألماً؛ ذلك لأنَّه يعلم, أنَّ المسكين كان شغوفاً بشراء حصان حلوى من المولد الذي لا يأتي في العام سوى مرة.

وفجأة أضواءٌ تتلألأ, تخطف بصره, يضع يديه على عينيه في محاولة لخفض حدتها, ضجيجٌ مرتفعٌ يصمُّ أذنيه, وأنفه يشتمُّ روائح الطبخ الذكية. شاب ذو وجه مألوف برفقة عروسه الحسناء في ليلة الزفاف, تغلف وجودهما الرهيف حمى الزغاريد. تتساقط الزغاريد صرعى أمام صراخٍ حادٍ يفزعه, يعقبه بكاءً ضعيفاً تهتز له أرجاء الشاب المنتظر على باب الحجرة طرباً. يتكرر الوقوف والبكاء في تعاقب تظهر به يد الزمن التي لا تستكين. ينفتح الباب على مصراعيه عن الرجل وزوجته, يتحلق حولهما بناتٌ وصبيانٌ كُثر. يصل إلى مشهده طريح الفراش, بلا رفيقة فقدها منذ زمن, ومن حوله نساء ينهنهون في ضجيج يزعجه, ورجالٌ وشبابٌ يشبهونه, تدمع مآقيهم في صمت مهيب!

حياته! ينقصها فقط أن تتمدد الأيام في جوفها بالتفاصيل, لينتفض الماضي حياً نابضا ً! الماضي, ذلك الوحش الوديع الذي استطعنا ترويضه وصار مأمون الجانب, وإن نال منا في وقت ما, وتحول بكامل إرادته أو إرادتنا إلى مجموعة من الأحاجي والحكايات.

يتململ في جلسته, ساقاه لم تعدا تقويان على القرفصاء طويلاً, يصرُ عليها في عناد بات من طبعه! يفتقد ضجيج مؤنسيه, يلتفت بحثاً عنهم, يرهف أذنيه, لا شيء سوى صفير طويل متصل لمذياع فقد الإشارة. كادت الفكرة أن تضحكه. إحساسه بأنَّه لا وقت لشيء وأد الضحكة في مهدها, وطفحت عيناه بالدموع فجأة, ربما لتأكده من إحساسه مثلما لم يتأكد من شيء من قبل.

أذناه تتسمعان وقع خطوات قادم ينتظره, يعلم أنَّه قادم, قد يكون في الطريق إليه, أو أقرب من ذلك, ربما هو الآن على رأسه, يستعد للمهمة الأزلية, الأبدية. يرتعد للخاطر بشدة, وتتسع عيناه لفضح العتمة, يتكاثف الظلام في تحدي يرهقه, تسقط نظراته صريعة العجز أمام الظلمة البهيمية, يشعر بضبابية مقيتة تمتد بطول خط الحياة الموغل في الأبدية, تشمل ما بعد الحياة, يتملكه شعور جارف بالخوف, رائحة الخوف تزكم أنفاسه, تملأ رئتيه, يشهق خوف, يزفر خوف, رغبة عنيفة في التقهقر تجتاحه, سخرية من الخاطر تهاجمه, وعلى البعد السحيق نور باهت يومض, يقترب, يبدد فلول الظلام, ينساب بداخله, يملأ قلبه ورئتيه, راحة تهدهده, يشهق نور, يزفر نور, خلاياه تتوهج, وقع خطوات القادم الغامض تصك أذنيه, يدقق النظر, يجده أمامه, يحتويه, يخترقه, يؤدي عمله في صمت مهيب, يغادره, سكون!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى