حسين الشيخ محمد الشبيبي - الفلسفة المادية والتطوّر الاجتماعي (كيف يسير التطور وماذا تحاول النازية)

كيف يسير التطور وماذا تحاول النازية

القاعدة التي لا يشذ عنها أي كائن حي هي ان العالم سائر نحو التطور، مستمرا قدما الى الامام، لا يقف في سبيله سد، ولا يحول دونه حائل . فلو رجع أولئك الرجعيون البطيئو الحركة، الى قليل من البصر بتاريخ الحياة، ويسير من التروي، وصدفوا عن تصلبهم وتزمتهم في مذاهبهم، ولهالهم، وأفزعهم ما لا يدع لهم مجالا للشك في ان الحياة تسير على غير ما يزعمون ، وان ناموسها لا كما يظنون ...

لقد أثبتت الفلسفة المادية ان "الشعور نتيجة البقاء" ولا عكس، أي ان الشعور الاجتماعي نتيجة بقاء المجتمع، ومعنى هذا ان للهيئة البشرية البقاء، وهي لذلك تشعر بضرورتها وحاجاتها، فكان لها ان تطورت وتقدمت، ولو عكسنا هذا القانون لرجعت الحياة متقادمة الى الوراء لا متقدمة الى الأمام كما نرى، ولسخر منا نطق الحياة! ويكفينا دليلا قاطعا على ذلك، لا يقبل الشك ان الفرد منا انما يشعر بالواجب المكلف به من السعي والجهد بعد ان يعرف انه خلق للبقاء، فيشعر بعد ذلك ان بقاءه يحتم عليه العمل ليأكل ويلبس وينام سعيدا مترفها، أي انه "كان فأدرك" و"لم يدرك قبل ان يكون" .

ولنقتبس الآن هذه الفقرة من الجزء الأول من كتاب "رأس المال" فهي كما يقول مثبتها في أحد كتبه "تعطينا نظاما كاملا لأسس المادية الجوهرية كما تنطبق على المجتمع البشري وتاريخه" :

"عند انتاج وسائل الحياة الاجتماعي، تدخل البيئة البشرية في روابط مقررة حتمية، تلك هي روابط الانتاج المنفقة مرحلة معينة لتطور قوى الانتاج، ومجموعة هذه الروابط الانتاجية تشيد أساس بناء المجتمع الاقتصادي، الأساس الحقيقي الذي يرتفع عليه أعلى بناء سياسي مشروع، والذي تتفق معه قوانين الشعور الاجتماعي الثابتة المقررة، فان أسلوب انتاج وسائل الحياة المادية، على الأعم، يحدد مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية، فليس شعور الهيئة البشرية هو الذي يحدد بقاءها، بل بالعكس، ان وجودها الاجتماعي هو الذي يحدد شعورها .." .

هذه النظرة التي استخلصت من نظرية مستمدة من التاريخ الواقعي هي اسمى اتجاه للفلسفة الاجتماعية، فإنها استخرجت من صميم التاريخ، لا من النظريات التاريخية السالفة "التي وضعت في المحل الأول ان تختبر فقط البواعث الفكرية لفعالية الهيئة البشرية، دون تحقيق وبحث عن منشأ هذه البواعث، أو ادراك للتوافق المحسوس مع قانون تطور طراز الروابط الاجتماعية، أو تمييز لجذور هذه الروابط الاجتماعية بالنسبة لتطور الانتاج المادي .." وهي أيضا، أي النظريات التاريخية القديمة، "تجاهلت فعاليات الجماهير" بينما النظريات التاريخية المادية "تمكنت من دراسة شؤون حياة الجماهير الاجتماعية، والتبدلات في هذه الشؤون مع الدقة العلمية" فمن الحق ان يقال ان علم الاجتماع وفن التاريخ لم يعطيا قبل النظرية المادية، الا "جموعا من الحقائق المرصوفة اعتباطا، ولم يصفا الا جوانب مبعثرة من الظواهر التاريخية، ولم يرسما السبيل لاختيار كل الميول المتضاربة، ولم يرداها بإحكام الى شؤون الحياة وأساليب انتاج طبقات المجتمع المختلفة، ولم يطرحا الميول الذاتية في اختيار الأفكار التوجيهية المختلفة أو في تأويلاتها وإظهار ما لجميع تلك الأفكار والميول من تأثيرات في شؤون قوى الانتاج المادي"، فكان من نتائج تلك النظريات العقيمة انها لم تدرك، أو تجاهلت، هذه الحقيقة الناصعة وهي : ان البشر يعمل تاريخه بنفسه .

على هذا الأساس يجب ان يفسر تاريخ الهيئة البشرية، وعلى هذا الضوء يجب ان ننظر الى التطورات الاجتماعية اذن، متمشين مع الحقائق التاريخية الثابتة، فليست هناك من فروض نفرضها على العالم ليسير عليها، انما العالم هو الذي يفرض فروضه فلا نملك ردا ولا اعتراضا ‒ ويجب ان لا يقودنا الالتباس الى الايمان بالقدر، ان العالم يستمد قوانينه من "ظهور وتطور وانحلال انشاءاته الاقتصادية والاجتماعية"، ففي كل ناحية من نواحي التاريخ نرى هذه الظاهرة وهي : "ظاهرة الانشاء والهدم المستمرة، والارتقاء الذي لا ينتهي، من الأدنى الى الأعلى" وهكذا تكون الفلسفة في عرف المادية "علم قوانين التنقل العامة في كلا العالمين الخارجي والفكري" وهي بذلك قد انقذت الفلسفة الحية من "رحل المثالية" الى "تصور الطبيعة المادية" كما قال قطب من اقطابها .

* * *
وهذا هو ملخص التطور الاجتماعي :

ان تاريخ الهيئة البشرية على اختلاف نواحيه وأجزائه وحدة متماسكة لا ينفصل جزء منها عن الآخر، متعلقة كل ناحية منها بالأخرى، فالأفكار التوجيهية، وقوى الانتاج المادي، وفعاليات الجماهير، كلها تسير جنبا الى جنب، متفاعلا بعضها مع بعض، مصيرة الروابط الاجتماعية على نحو يخضع لمبدأ المقدمات والنتائج، لا يحيد عنها ولا يميل، على انه كلما تقدم الزمن تشعبت الروابط الاجتماعية واتسعت، وكلما تشعبت واتسعت ازدادت قوة تفاعلها وأسرعت، وكلما بلغت درجة معينة في شكل من أشكال الروابط والعلاقات حدث انقلاب يخطو بالعالم الى الأمام، والعالم دائما في انتظار هذا النوع من فترات التدرج، ليتم انتقاله "من الكمية الى النوعية"، ولينقا "لولبيا" لا في خط مستقيم، منتهزا الفرص المناسبة "ليقفز وليثب ويثور"، متحملا كلما يترتب عليه من الولايات والمصائب والنكبات والمصاعب .

وان توقف العالم دون تقدمه وتطوره والأساس الفلسفي المتين للتطور هو "تناقض انعكاس القوى المختلفة، والانعطاف المتواتر التأثير على كل جسم وفي كل عرض وضمن كل مجتمع، والارتباط الذي لا ينحل بين جميع جوانب كل جسم أو عرض أو مجتمع (والتاريخ دائم الكشف عن كل جانب جديد)" ؟

لقد برهن التاريخ على ان العالم سائر على هذا النحو من التطور، هذا التطور الذي يأتلف تمام الائتلاف مع النظر العلمي الصحيح، برهن حين بلغ نظام ألرقيق أشده فانهار كيان الحضارة الرومانية، وبرهن حين وصل نظام الاقطاع غايته فانهدم العالم الاقطاعي على يد الثورة الفرنسية، وبرهن حين انهارت امبراطورية روسيا القيصرية على رؤوس القيصر والملاكين والنبلاء، وهو الآن يبرهن حيث يزداد تحسس وتيقظ وتكتل طبقة البروليتاريا في جميع أنحاء العالم، اذ يتوسع مجال الرأسمالية في الشركات الكبيرة والمعامل الضخمة والأسواق الاستثمارية ووسائل الانتاج . فهو الآن ‒ أي العالم ‒ سائر في طريقه حتى يكتمل تضخم وتآزر طبقات العمال، الى ان يقف ليشهد أعظم وأروع صراع هائل بين معسكرين عظيمين، أحدهما يريد البقاء، والثاني يحاول بكل ما اوتي من القوة والحق والإيمان ان يصرع عدوه الجبار المفترس، مدفوعا بحكم الضرورة المنطقية للتطور .

* * *
فأين نجد الفاشية في ايطاليا وألمانيا (النازية) في هذه السلسلة التاريخية ؟ أين مكانها من هذا اللولب التطوري ؟ أين محلها من هذا التسلسل المنطقي ؟

هذا ما يجب ان يلفت نظر أولئك المتقاعسين عن البحث العلمي، الذين قنعوا بالثرثرة دون ما تأمل أو تفكير مستقيمين بلا درس واستقصاء، فراحوا يرسلون للإعجاب بالنازية مستمدين كل معلوماتهم من أبواق الدعايات المهرجة المخادعة الكاذبة تلك الدعايات الغاشمة الاثيمة التي لم تستهدف إلا السواد الأمي من الشعوب لتسمم دماغه المتبلبل بالأضاليل والأباطيل .

ولعمري لو قدر لهذه الجماهير الشعبية ان تعاقب الذين اساءوا في تسييرها وتوجيهها، وتصب سوط عذابها على حرماتها وكراماتها، وتنتقم من مستخدميها ومستغليها ومستثمريها وعلمت ما لـ (انصاف المثقفين) من سوء الاثر عليها والمس بكرامتها، اتراها تقنع بالهزء بهم والسخرية منهم ؟ أم انها ستسكب كل جام غضبها وحقدها عليهم ؟ ان من الخطل ان يتساهل كل مثقف سليم العقل قويم الادراك مع هذه الطبقة من المهرجين ما داموا لا يريدون ان يستنجدوا بالعقل والحكمة في آرائهم لينقذوها من صفتها الثرثارة ..

ليست النازية الا انتكاس رجعي يريد ان يقف في سبيل التقدم الاجتماعي وهي سد يريد ان يثبت في طرق السلم التطوري، ويحاول ان يرد تيار التطور ويسير به الى الوراء، انها تريد ان تصطدم بالواقع لتعكس القانون المنطقي لتقدم الحياة، انها لثورة ولكنها ثورة في وجه التجديد، انها لإشهار السلاح ولكن على الواقع والحق الصراح، فما اشبه سير الحياة صف النازية بتيارين متصادمين ! ولكن شتان بين التيار الجارف وبين تيار حديث العمر قصير المنحدر !! ثم شتان بين مؤمن بالحياة وهي ملء اهابه وبين محتضر ينازع بآخر ما تبقى له من رمق يريد به الحياة !! أو ليست النازية محاولة باعثها الانخذال ودافعها النزاع الفاشل ؟ انها لسلاح تشهره، دائما، الفئة الضئيلة من الرجعيين، فتحيط نفسها بأشباح من الارهاب وافانين من بث الرعب ونشره، ثم انها تلجأ الى القوة لتقف في سبيل التقدم محافظة على كل ما تحتم عليه الظروف الموت والزوال .

فهي الآن قوة تريد ان تعزز فئة الرأسماليين الفاشست، وكأنها سائرة نحو الفناء فستموت النازية لأن سنة الحياة لا تعترف لها بحق البقاء، ولأن ناموس التطور الحق سيسخر من صفاتها وحماقتها !


الشهيد حسين الشيخ محمد الشبيبي (صارم)


* نشر بمجلة "المجلة" العراقية بتاريخ 16/11/1941
أعلى