شريف محيي الدين إبراهيم - ستائر صباح فاضحة للأديبة صباح عبد النبي.. دراسة أدبية

ستائر شفافة " رواية عدد صفحاتها ١٤٦ صفحة من القطع المتوسط، صدرت عام ٢٠٢٠ عن دار مينا بوك للنشر والتوزيع
للأديبة : صباح عبد النبي.

التي تناقش و تعري في جرأة مشاكل مجتمعية و نفسية معقدة،
وقد دلفت الكاتبة مباشرة في صلب الأحداث من خلال بطلة القصة ( طاهرة ابنة الحاج شاكر )التي لم يعبأ والدها بتعليمها وجعلها كما الخادمة في البيت والحقل، بينما على النقيض نجد اخوانها الذكور، قد اتموا كل مراحل تعليمهم ، ومنهم طاهر الطبيب الذي سافر للخارج وحصل على أعلى الدرجات العلمية.
***
القضية المحورية للرواية تتمثل في مفهوم الشرف
و دلالاته بين المجتمع، وهل يتوقف مفهوم الشرف فقط على مجرد الحفاظ على غشاء البكارة؟!
فطاهرة ،قد فاجأت أسرتها بحملها سفاحا، مما أثار غضبهم وحيرتهم، وبعد أن تشتعل نفوسهم يحاولون عبثا، أن يعرفوا هوية ذلك المغتصب....
وهي صامتة لا تنبس ببنت شفة، حتى توالت عليها الركلات والضربات من كل جانب.
وفي مشهد مؤثر، لم يستطع الأب قتل طاهرة بيديه فينتظر قدوم ابنه طاهر ليتولى هو بنفسه مسألة محو عارها ،
و تقتحم الكاتبة بحرفية، تلك المنطقة من الصراع النفسي للأشخاص الذين تتنازع داخلهم مشاعر متضاربة من الشفقة، والاحساس بالعار.
ومما يزيد الأمر غرابة ، هو اكتشاف أن طاهرة لازالت عذراء وأن حملها نتج عن انتقال الحيوانات المنوية الخاصة بأخيها من ملابس عروسه ، إليها، حين ارتدتها وهي تلهو في واقعة نادرة الحدوث.

"طاهرة فعلا طاهر"
هكذا ، تصرح النوبية السودانية (شهدان إدريس) ،تلك الطبيبة التي قامت بعملية الإجهاض لطاهرة في سرية تامة، مع ذكرها، بأن لديها غشاء غربالي.
و تتصاعد الأحداث، حين يظل الدكتور طاهر رغم علمه ببراءة أخته ، على موقفه، معللا لشهدان بأنه يواجه، مجتمع شديد القسوة والجهل!!
ولولا إصرار شهدان على موقفها وتهديدها بإبلاغ الشرطة،لقام بالقاء أخته تحت عجلات القطار.

وطاهرة ، خائفة مذعورة، لا حول لها ولا قوة، مجرد طفلة في طور المراهقة، مستسلمة تماما لمصيرها، حتى أنها تطلب من أخيها ، فقط شربة ماء، قبل أن يتم فعلته.
وكأن الكاتبة تصرخ بنا قائلة:
أي قسوة، وأي تخلف، وعار يطوق رؤوسنا جميعا أمام تلك الممارسات والعادات والتقاليد التي تتعارض مع أي فطرة سوية؟!
أين معايير الرحمة، والعدل في أدنى مستوياته،أمام هذا القهر والتخلف البشري؟!
***

قدمت الكاتبة العديد من الشخصيات المركبة في مجتمع قرية صغيرة في صعيد مصر

و تتميز هذه الرواية بتعدد الأصوات
حيث تتحرك الكاتبة بحرفية كبيرة في فضاء واسع ، من خلال مجموعة من الشخصيات المؤثرة، والمتفاعلة في ديناميكية تنمي وتدفع بالحدث للذروة، مثل
شهدان، الطبيبة النوبية السودانية المحبة لمصر والتي تزوجت مؤخرا، بحبيبها القديم الدكتور طاهر، الذي كانت قد حرمت لسنوات طويلة منه، بسبب العادات والتقاليد النوبية.
كما
قدمت صباح عبدالنبي شخصية
الشيخ شامخ منذ بداياته كطالب ملتزم وحتى صار نموذجا مثاليا لرجل الدين، الذي يحلم بصعود منبر سلالمه سليمة. وما يعكس ذلك من دلالة رمزية
واطلت بسرعة على
العمة عفاف التي اعتبرت خاطية لمجرد زواجها من شقيق زوجها بعد موته.
و طرحت بوعي شخصية
الحاج نبيل كمستودع لأسرار القرية.
وقد أجادت الكاتبة في رسم شخصية
الحاج شاكر والد طاهرة، وما تحمله نفسه من تناقضات إنسانية بين عاطفة الأبوة، و إكليل العار الذي يطوق المجتمع به جبينه.
وفي خط موازي للأحداث فإننا نتابع في شغف، شخصية
سعيد جابر، ذلك الفتى الذي، هو ثمرة علاقة محرمة بين عابدة الفقيرة المعدمة، و غالب المحلاوي، وهو أحد رجال الأعمال، وقد ظهر في ثوب الذئب المفترس الذي يتربص بكل فتاة فقيرة تعمل لديه في المصنع، مستغلا عوزها وحاجتها الشديدة،مهددا اياها بلقمة العيش التي يظن أنه هو المتحكم بها، ناسيا ربه موزع الأرزاق، فلا يدع فريسته المسكينة حتى ينهش لحمها ، ثم تفاجئنا الكاتبة بذلك التحول الذي حدث له وقد طالت لحيته وتغير مظهره، وافتتح العديد من المساجد والأعمال الخيرية،
غالب الشيخ عندما يحاول في صحوة ضمير، أن يستعيد ابنه إليه، تقوم عابدة بخداعه ، و تخبره تشفيا وانتقاما، أن حملها قد سقط في الشهر الخامس،، و تذكر الكاتبة أن عابدة أحست في تلك اللحظة بأنها قد شفت غليلها منه، وكأنها هي التي اغتصبته، خاصة وهو لديه ذرية من البنات فقط ويتوق شوقا لانجاب الذكر،
ولم يكن أمام الفتى سعيد، الذي يعمل كمرشد خفي لمأمور القسم، الا أن يسخر نفسه للانتقام من أبيه ، فاوقع به في العديد من المشاكل والقضايا التي كادت تقضي عليه تماما
نحن إذن في أتون حالة مكثفة من حالات القهر الإنساني للمرأة، مع كاتبة تعري وتكشف العديد من عورات المجتمع وتظهر مدى قسوته على الأنثى.
وخاصة في أقاصى صعيد مصر
***
قامت الكاتبة بتصوير بعض ما دار من أحداث الماضي في تلك المدرسة المختلطة، التي جمعت شهدان بطاهر كزملاء دراسة، ومن خلال تقنية الفلاش باك، بينت حالات من القصور والتخلف والفساد المستشرية، داخل أروقة الفصول الدراسية
إلى حد أن يتهم أحد الطلبة بأنه يدعو للتبشير للدين المسيحي، من خلال الإذاعة المدرسية لتنقلب الوزارة رأسا على عقب، وحتى عندما يقدم الطالب نفسه موضوعا عن الأضرحة الإسلامية، يلام بشدة، في إشارة منها إلى كبت الحريات.
كما ذكرت الكاتبة،واقعة مهمة لتهرب المدرسين وتخليهم عن دورهم في شرح درس التكاثر للجنسين.
و أثارت المؤلفة العديد من الموضوعات المرتبطة بالمعلمين ووضعتهم في مناطق شديدة الوعورة، وأظهرتهم في صورة هزلية بين منافق أو جبان أوجاهل....
وبينت أن المجتمعات العربية في الخليج تستحوذ على، النابغين منهم، فيتبقى المتخلفين منهم فقط في مصر.
كما ادعت أن تلك الدول بفضل مهارات المصريين قد تقدمت بسرعة الصاروخ حتى تجاوزت مصر حضاريا وفكريا.
ثمة بعض الارتباك في رسم شخصية طاهرة حين وصفها أبيها بأنها بكماء، ثم ظهرت وهي تتحدث بعد ذلك في مواقع كثيرة من النص.
***

الحوار الذي كتب بالعامية جاء معبرا بدرجة كبيرة ومتسقا مع الشخصيات و مستوى وعيها وثقافتها، بيد أنه ثمة اسهابا في بعض المناطق الحوارية، وخاصة المتعلقة بذكريات طاهر مع شهدان الدراسية.، وقد كان يمكن طرح العديد من الأفكار والمشاكل التي اثارتها الكاتبة، من خلال استخدام المنولوج الداخلي، إلا أنها اعتمدت ضميري الغائب والمخاطب كعاملين رئيسين لطرح موضوعاتها وقضاياها المرتبطة بسيطرة العادات والتقاليد البالية،وعمقت بحدة لظاهرة قهر الأنثى.

الأجزاء الأولى من النص، وحتى ما قبل نهاياته، كتبت ببراعة تحسد عليها، في درجات من النبوغ الإبداعي الذي يذكرنا بيوسف إدريس كما في رائعته الحرام، و خيري شلبى في روايته الأوباش، وخاصة في اعتمادها بصورة كبيرة، على الحوار المتنامي، وكنت أود ألا تتعجل الكاتبة في ختامها للأحداث ، وأن تتوغل أكثر مع بعض الشخصيات التي احسب انها ظلمتها إبداعيا.
نحن أمام رواية اجتماعية واقعية تحليلية، استطاعت كاتبتها أن تطرح أحداثها بأسلوب متدفق، وبطريقة عفوية .
***
الكاتبة اعتمدت بدرجة كبيرة على تقنية التّركيز: أي التّمركز حول فكرة النّص الرئيسة (الجهل، وفساد التعليم حتى في المنظومة الرسمية التي تمثله، بمدرسيها، وعملاها ، واداريها وحتى طلاب العلم ) وقدمت عدة نماذج قد تبدو خارجة عن إطار تقنية التركيز التي بني عليها النص ولكنها في الحقيقة تعمق بشدة للفكرة الأساسية.
اما المَجاز فقد تحقق في عدة مواضع ، باستخدام الإشارة والتّلميح....
وإن كانت زاعقة الصوت مباشرة في بعض المناطق فربما لقسوة القضية وحساسيتها!!

و الكاتبة قد استطاعت بث الحكي بطريقة شيقة، الا أنني كنت أفضل في بعض المناطق السردية استخدامها لتقنية الحلم والتّخييل الإبداعي، مما كان سيكسب النَّص أبعاداً أخرى أكثر عمقا ، و ثراء.
كما اعتمدت الكاتبة بوعي كبير على المفارقة النفسية في أعماق أبطالها، بين العادات والتقاليد والسلوكيات الإنسانية المتصارعة والمتضاربة، بين العلم والجهل، بين الثقافة والرضوخ لعادات بآلية، كوقود حيوي للصراع الدرامي.
، وقد جمعت الكاتبة العديد من المتنافرات، والأضداد،في النفس الانسانية الواحدة، كالعطف والكره و الفخر والعار ، محدثة التئاما عجيبا بين النقائض في صور نفسية، ومجتمعية مركبة،
وَمما يؤخذ على الكاتبة،أنها تحولت في الفصول الأخيرة إلى سرد أفقي للاحداثٍ!!
سرد ، خالٍ من الدّهشة أو المفاجأة. وهذا أفقدالنص شيئاً هامّاً في حيويته، التي خفتت كثيرا مع فصوله الختامية.

لابد من الإشادة بعنوان الرواية ،الذي يحمل مفارقة إبداعية في إشارة منها إلى ستائر هذا النص التي تفضح ولا تخفي ، رغم كون الستائر في الأصل وظيفتها هي الستر والاخفاء.

في النهاية نحن أمام عمل جاد، يؤكد على أهمية
الإبداع ،وأثره على المجتمعات بين التخلف والرقي، فعادة ما ترتبط النفس البشرية دوما بالفن إما رقيا أو انحطاطا في علاقة وثيقة الصلة.
والكاتبة صباح عبد النبي في كثير مما كتبت، كانت واقعة تحت أثر اللا وعي ، المعنى بذلك الجزء الخفي من النفس البشرية.
فإذا كانت منطقة الوعي، كما الماء الظاهر في مجرى النهر، فإن اللا وعي هو ذلك الكم الهائل من المياه المستترة بين الصخور وطبقات الأرض السفلية، و للوصول إلى تلك المنطقة الوعرة من اللا شعور فإن الكاتبة قد سخرت الكثير من طاقتها النفسية والابداعية لمحاولة الولوج إلى تلك المناطق شديدة الحساسية من شخصيات ابطالها ، وقد فعلت ذلك
بحرفية عالية، تحمد عليها ،لتقدم لنا في النهاية عملا قيما يحمل وعيا وفكرا راقيا، ويمثل صرخة أنثى في إدانة جادة للمجتمع كله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى