محمود عبد الصمد زكريا - قراءة لرواية «مريم» لشريف محي الدين

حينما يختار الشاعر أو الأديب اسماً ما؛ ليوظفه في منجزه الابداعي؛ فإنما يختاره بعناية فائقة ليستفيد منه كدال له دلالته التي ينشدها لخدمة منجزه؛ حيث يفتح هذا الاسم ويمد فضاءاً دلالياً مرتبطاً به؛ ويقصده المبدع – مع سبق الإصرار والترصد – وهناك بلا شك أسماء لا يقف

توظيفها عند حد الاستفادة من معناها (كوسيم وجميلة وما شابه..)؛ لكنها اسماء تستدعي من الذاكرة وتستحضر من الذهن أحداثاً وتواريخ وقيماً ومعاني – سواء بالسلب أو بالإيجاب – حيث تتباهى هذه الأسماء بخصوصيات تحفظها لها الذاكرة الإنسانية؛ ولا تستطيع أن تغفلها لها بمجرد ذكرها..
وقد أجاد الشعراء كثيرا في استخدام هذه الخصيصة الفنية من خلال توظيف الاسماء التراثية والاسطورية مستفيدين من المثيولوجيا لخدمة منجزهم الشعري في كل زمان ومكان من العالم.
وبالنظر إلى المطروح الابداعي بشكل عام في معظم أجناسه الأدبية والفنية؛ سنجد أنه بالرغم من قلة أو ندرة الأعمال التي تتخذ من اسم بطلها المركزي أو الأساسي عنواناً للعمل الابداعي؛ إلاَّ أنها تبدو دائماً كأهم وأميز الأعمال الإبداعية التي أنجزت شهرة لأصحابها في حركة وتاريخ الفنون والآداب؛ بل لعلها تعد محطات تطويرية أو مفصلية في تغيير وتطوير المفاهيم المرتبطة بالجنس الفني أو الأدبي الذي انجزت من خلاله..
فإذا ذكرنا الملاحم مثلاً كجنس أدبي فلا شك سوف تتباهى (جلجامش) التي اتخذت من اسم بطلها عنوانا لها؛ و(الأوديسة) نسبة إلى أودسيوس بطلها.. والملحمة – كما هو معروف – رواية شعرية؛ أي انها تجمع بين جنسين أدبيين؛ وتتمحور حول بطل أساسي لتنجز أحداثَ حقبةٍ تاريخية ما مليئة بالأحداث؛ وغالباً ما تقص حكاية شعب من الشعوب في بداية تاريخه؛ وتحكي عن تحرك جماعات بأكملها وبنائها للأمة والمجتمع؛ وقد تدخل الأسطورة في نسيج الملحمة ولكن لا تتداخل الملحمة مع الأسطورة؛ فالملحمة شئ والأسطورة شئ آخر والفرق الجوهري بينهما أن أبطال الأسطورة من الآلهة أما أبطال الملحمة فمن البشر.. لذا فإن الملحمة عادة ما تكون غنية بالفانتازيا والسحر والقوى الخارقة إلى غير ذلك.
وكم من عمل ابداعي فني تم انجازه من خلال احداث الإلياذة؛ وغيرها؛ متخذاً من اسم أحد ابطالها عنواناً له.. وحتى إذا اتخذ العمل الفني من اسم المكان عنوانه فسوف تتباهي اسماء الابطال الشخوص أكثر مما يتباهى اسم المكان؛ فإذا ذكرنا (طروادة) على سبيل المثال قفز إلى السطح مباشرة اسماء (أخيل وأجامنون وباريس وهيلانة و هيكتور) وإذا ذكرنا (اسبرطة) فسوف تتباهى اسماء أخرى.. وحتى الملاحم التي لم تتخذ من اسماء ابطالها عناوين لها فقد رسخت لاسماء أبطالها خصوصيات حفظتها لهم الذاكرة الانسانية؛ وراح المبدعون يستخدمونها كرموز في أعمالهم بعد ذلك؛ فما زالت وستظل اسماء أبطال (الرميانا؛ والمهابهارتا) تعمل بخصوصياتها في أعمال مبدعي الهند واليابان..
وإذا انتقلنا إلى الأوبرات العالمية؛ فلاشك ستزهو (عايدة) و(وسالومي) على باقي الأوبرات، فإذا التفتنا إلى المسرح الشعري اختال شكسبير ب (روميو وجوليت – هاملت – عطيل الملك – ماكبث – انطونيو وكليوباترا – سيمبلين -.. الخ)، وشمخ سوفوكليس ب (أوديب ملكاً – انتيجون.. الخ).. وأسرع أحمد شوقي ب (مجنون ليلى – وقمبيز – مصرع كليوباترا)، وتقدم صلاح عبد الصبور ب (بمأساة الحلاج) وغيرها الكثير.
وهل خلَّد اسم سيرفانتس سوى روايته الوحيدة (دون كيشوت) التي تتخذ من اسم بطلها عنواناً لها؛ وهي الرواية التي غيرت مفاهيم الرواية في العالم؟! حيث تعد رواية “دون كيشوت” من أكثر أعمال الأدب العالمي رواجًا والأكثر شعبية في التاريخ، كما نالت هذه الرواية الزاخرة بأعمال البطولة مرتبة أفضل رواية من بين روايات أفضل “مئة كتاب في العالم”.
وكم من رواية ما هي في حقيقة الأمر إلا سيرة حياة بطلها مثل (عنترة بن شداد) لمحمد فريد ابو حديد؛ أو (فارس بني حمدان) أو (فارس بني شيبان) وغيرها.
أمَّا عن السير الشعبية؛ فتبدو هذه الخصيصة كتقنية لازمة لها لأنها تحكي سيرة حياة بطل بالفعل تتمحور حوله احداثها فسوف نجد: سيرة الأميرة ذات الهمة – والزير سالم – وسيف بن ذي يزن – وسيرة بني هلال).
ومن السيرة الهلالية تتفرع قصص كثيرة مثل قصة الأمير أبو زيد الهلالي وقصص أخته شيحة المشهورة بالدهاء والاحتيال، وسيرة الأمير دياب بن غانم الهلالي، وقصة زهرة ومرعي. وغيرها من السير المتراصة التي تشكل في مجموعها ما يعرف بسيرة بني هلال. والسير الشعبية هي من أهم مصادر الثقافة في أرياف البلاد العربية، وخصوصًا إذا ما أخذنا في الاعتبار نسب الأمية المرتفعة. ويسمى المهتم بالسيرة الهلالية بالمضروب بالسيرة. ومنهم الشاعر الشعبي عبد الرحمن الأبنودي. هذه القصة الغنية بالشخصيات والأحداث والمواقف، تضفي على الأدب الشعبي لونًا خاصًا يمثل الحياة الاجتماعية والفكرية التي كان يعيشها الإنسان العربي في تلك الفترة من الزمن.
وكلها – كما أسلفت – أعمال إبداعية تعد مراحل مفصلية في تطوير حركة الفنون والآداب.
ترى هل كان/ شريف محي الدين مدركاً لسحرية هذه الخصيصة الفنية حين عمد هو الآخر مع سبق الاصرار والترصد إلى اختيار اسم بطلة روايته (مريم) عنواناً لها؟!
الاجابة بالتأكيد: نعم.. وهو اختيار به ما به من الذكاء والخبث في آنٍ معاً يتآزران في الظاهر والمخفي لبلورة رؤية ورأي هذا الروائي للواقع العربي المعاصر؛ خاصةً بعد ثورتي مصر الأخيرتين.. فكيف كان ذلك؟
من البديهي أولاً أن الشخصية في الرواية هي التي تجذب القارئ أو المستمع لها، وللوصول إلى الاختيار الصحيح لا بد وأن تكون الشخصيات ذات أبعاد ثلاثية مثل باقي شخصيات الحياة: أي أشخاص لها مخاوف وآمال، ونقاط ضعف ونقاط قوة، ولها هدف أو أكثر في الحياة..وقد تجلت كل هذه الصفات واضحة في شخوص هذه الرواية الأساسيين مثل مريم وأدهم وعمر وجاسر..
أما البطل: وهي الشخصية المحورية في العمل الأدبي، فشخصيته دائماً ما تكون مرنة قادرة على التغير.. وهو ما وفرة المؤلف بجدارة لشخصية مريم…
أمَّا عن الحبكة وهي سير أحداث.......




محمود عبد الصمد زكريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى