محمد محمود الفخرانى - اشكالية الاغتراب، وسحر الإيجاز - دراسة أدبية

قد نتفق على أن انشغال بعض النقاد عندنا بتحول القص من الشكل التقليدي إلى الشكل المعاصر، قبل النظري،و الأسباب الحضارية التي تدعو إلى هذا التغيير هو بمثابة، القفز إلى النتائج قبل الوقوف على الأسباب، ولهذا يجمع الدارسون على جعل الانتكاسات الكبرى، كالثورات أو الهزائم، فاصلا بين مستويين من القص، مستوى القص الذي يحاول التخلص من براثن الإسلوب التقليدي، وما يتبعه من تراتيبية، زمنية إلى مستوى يمكن أن نطلق عليه الميتا واقعية، وأحيانا الرومانسية التحليلية، وفي أحيان كثيرة نطلق عليها قصص الحالة .
التي تخلقت من تجارب أنضج عن تجارب الحب، التي ترقد بين ثنايا الماضي، وتصبغ بلونها الحاضر والماضي والمستقبل، في وعي الكاتب بغض النظر إلى كونها تجربة مثالية قصيرة العمر، مما قد يؤهلها للتحول إلى تجربة، صوفية أو شعور حاد بالاغتراب، والاكتئاب، ورفض، للواقع، بما فيه من قهر وظلم واستبداد، وحلم بجنة ضائعة يحن إليها، ولا يصل إليها أبدا.
وهكذا يستحيل الحلم إلى ألم وحزن وحنين لاهب لاستعادة الماضي بعيدا عن جلبة، التراكمات التي لاحصر لها.
التي جعلت كتاب قصة الحالة، يرتدون إلى الداخل، يحلمون بواقع قصصي مغاير، لما ألفوه، وعايشوه، من حيث البناء التقليدي، واللغة النمطية، والإلحاح على التحرر من ربقة التبعات، القديمة التي كانت تقود المرء(القاص والقاريء معا)
إلى ركام من الكلام، وأبنية من المعاني الميتة، والصور الباهتة، كل هذا يراه القاص سببا كافيا لينزع، نحو الحقائق النفسية، بما تتضمنه من غرائز الذات وأثرها في الشخصية التي تختلف باختلاف الأمزجة والطبائع... فالحب والحزن، والبغض كلها ألوان للحياة النفسية، ولهذا حاول الثائر أو القاص أن يترجم هذه الأحاسيس ليتميز غناؤه، بل إنه من أجل أن يتباين فنه،
ترك روحه، تذهب إلى أقصى نقطة كي يرى ويسعى إلى مجهول ما يكشفه ويقدمه، بوعي وكأنه في حالة من النزوع نحو التخلص من كل ما يثقل النفس... وصار التساؤل الحائر لدى القاص :
هل أعرف ما أريد؟
ما الذي ابتغيه، تحديدا؟
ليس سوى الكتابة قصد لي، أرى في مرآتي أن عيني تبحثان داخلي، عن القص لأنه من خلاله سأفر من الغدر، والهجران، والفراق، والوجع،
ويظل الظهور المتقطع للتساؤلات، هو الدافع للتجاوب مع ثورة الشعور حيال الفقد المحتمل
.

ولكن الكاتب السكندري ...

شريف محيي الدين

يلجأ إلى تداخل الخطوط في مجموعته الشهيرة "أصحاب الملامح الباهتة"
والتي جاءت وكأنها بوح مكتوم تتوزع اكتمالاته بين نصوص المجموعة التي ترد في سياقات مختلفة....
وبين التخفي والاختباء كما تكثر فيها الرموز الجزئية لتعكس العالم الداخلي في نسق يعتمد نكهة مفزعة، يفقد فيها الزمن معناه، ويتجسد الواقع بهزائمه، وأزماته المتتالية...
شخوصه عجزوا عن فعل التغيير، لأنهم التجأوا إلى ذواتهم يرقبون الخارج، ولم يذهبوا مباشرة إلى غرفة الروح، التي بين ضلوعهم ليروا، ويعرفوا، ويشعلوا الحرائق.
ولهذا اعتمد شريف على خطوط الهم الخاص، في نسق يعتمد نكهة مفزعة، ويتوازي مع خطوط الهم العام الداخلي والخارجي، هم الإنسانية كلها بكافة أيدولوجياتها، وأعراقها، واجناسها...
ويفقد الزمن معناه، ويتجسد الواقع بانكساراته، وكوابيسه، وكأنه يعلن أن الحياة بلا معنى كغثاء، عنزة، مما يجعلني أتساءل :
هل حاول شريف اجتياز مرحلة ما فوق الواقع، وهل كان عليه أن يعطي للكتابة مزيدا من البوح..... أم هي تجربة صوفية، يمر بها، جعلته يستعذب الألم الطوعي؟!
ام هي حالة تكفير طوعي عن خطيئة جعلته يبحث عن جسر خلاص، ولا سبيل إلا استنزاف الجسد والحط من ذاته.... _أين يداك؟!
ألا تدرك أنني بلا يدين؟!
تفحصتهم جميعا.... كانوا بلا أيد!!
صرخت في فزع:
أين ذهبت أيديكم؟!
أشباح همجية، باهتة الملامح... حلقات الدهشة، والغموض، لا تكف لحظة عن الدوران في دائرة سرمدية، من لايدرك بدايتها حتما لن يعرف نهايتها... ص ٤٠
الخوف قائم كضباب متكاثف من خلال استخدام المونولوج، الداخلي المشحون بالاغتراب... الحزن... القلق... المسخ... التوجس.
أزمة الأنا التي تصبح وحشا، أخطبوطيا.
فالذات في عصر الانكسار تخلق أوهاما وأشباحا لكي يتعمق الخوف، ويصبح حقيقة واقعة، على، حد قول... رمضان بسطاويسي..
ولهذا اعتمدت مجموعة أصحاب الملامح الباهتة على المونولوج الذي يفيض بوعي الشخصيات من خلال الوعي الحاد، يتخللها، حوارات، ومشاهد، مسرحية، كإضاءات تضيء، جوانب النصوص، بأحد المضامين الأدبية التي تدل على اضطراب العلاقة بين الوسائل والغايات أو بين الفرد وحلمه، وهذا الاضطراب ناشيء من تعقد الحياة، تعقدا أفضى إلى الوحشة، والتوزع بين القيم الروحية والمادية.
ولعلي لا أخفيكم سرا، أن الكاتب قدم هذه المجموعة في ثوب آخر، ربما أعطاه مساحات أخرى من البوح المختلف، تحت قالب الفن المسرحي، فكانت مسرحية الدهليز والتي سمحت فيها تقنيات المسرح، بإعطاء تشكيلات إبداعية أخرى نمت فيها العديد من الشخصيات نموا دراميا في مزيد من الضبابية والضياع الإنساني، مستغلا عناصر الحركة والإضاءة، والصوت، ليكون لنا تشكيلات بصرية ذات نكهة مفزعة،
والحقيقة أن جميع من تناولوا أصحاب الملامح الباهتة من نقاد، مثل الدكتور/ محمد زكريا عناني، اهتموا كثيرا بالمضمون والفكرة، وتتابع الحدث وغرائبيته ،و لم يلتفتوا إلى طبيعته هذه الديناميكية،والمتحركة في دهاء فني محكم والتى تجعلنا نقف أمام النص الأصلي الذي جعله مؤلفه في ثوب رواية، بكل عناصرها من حبكة وحدث وزمن روائي ،إلا أن طبيعة كل فصل منها كانت تتميز بوحدة عضوية متكاملة تكاد تغنيها عما يأتي بعدها من مفردات فتجعلنا نمنحها صفة القصة المستقلة بذاتها والمكتملة الأركان...
يمكن اعتبار رواية أصحاب الملامح الباهتة، تعبير صادق لوعي الكاتب المعذب، بما يسمى بالمأزق الوجودي..
وهي رواية قصيرة، وهذا هو ما يحدد بما يسمى إشكالية التجنيس، في التعامل مع هذا النص.
والرواية القصيرة من أكثر أجناس السرد القصصي إشكالية، ومرواغة، لأن سيولة البنية السردية، لهذا النص، هي وقوعه، في المنطقة السردية، الممتدة من الرواية وحتى القصة القصيرة، لأنها تطرح على قارئها بنية أقرب إلى الحلقات القصصية....
وتساهم في خلق روابط داخلية تبلور عالما أقرب لأدوات القص في صياغة رؤى الكاتب وتحديد ملامح سرده وبلورة إيقاعه.
ومما يحسب للكاتب ويؤكد على حرفيته،،، وامتلاكه لجميع أدواته الإبداعية بشكل لافت

هو أنه في مرواغة مذهلة يجعلنا نقرأ هذا النص الملغز، فيجوز لنا أن نضعها في قالب الرواية كما أطلق عليها هو ذاته، ولا تثريب عليه، أو نتريث قليلا فنكتشف أنها مجموعة قصصية متكاملة.
وهذا ما يطلق عليه التجنيس الذي يجنح إلى لغة القصة (التجنيس القصصي)
أو العكس( التجنيس الروائي)
فهي سلسلة متتابعة من القصص القصيرة التي تتماس وتتكامل في نهايتها فتاخذ شكل الرواية ، بكافة تقنياتها ومفراداتها وآليتها
بل وقد قدمها الكاتب كما أسلفت في قالب فني آخر ولكن مع بناء جديد ولغة درامية أخرى كمسرحية متكاملة، وكان هذا في إصدار آخر...
وتحت عنوان جانبى الدهليز ،،
أذكر،، أنني في لقاء لي مع المخرج الراحل سيد الدمرداش، أخبرني انه أثناء، استغراقه في الإعداد لعرض هذا النص، أصابته حالة نفسية غريبة منعته، من الخروج من البيت، وجعلته يعتزل الناس لأكثر من أسبوعين...
الأمر الذي جعله يستدعي مؤلف النص ويطلب منه، أن يخفف من حدة الأثر النفسي لبعض المشاهد، التي تتملكك وتأخذك إلى مناطق بعيدة من الألم والاغتراب، بل والفزع،،، فهو رغم حرفيته إلا أنه، تماهي مع أبطال النص فكان يشعر بما يشعرون ويفكر كما يفكرون، ويتألم لألمهم الشديد....
فهي إذن قدرات نفسية يتميز بها المؤلف الذي يجعلك تسلم له نفسك طواعية ثم يلقى بك في أتون نفسي مذهل...
ولم يستطع المخرج الراحل أن يعدل أو يغير من تلك الحالة إلا بمساعدة المؤلف المدرك، لسيميترية نصه ودرجات صعوده وهبوطه والتي تؤدي في النهاية إلى توصيل فكرته الرئيسية عن الإنسان، ومدى عذاباته في عالمنا المعاصر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى