شريف محيي الدين إبراهيم - الزمكان في شارع العزب

أنشودة الزمكان، بين حميمية الصراع، و التواصل بين الأجيال، في شارع العزب للأديب : شريف محيي الدين،
دراسة نقدية إعداد : جابر بسيوني

نحن بصدد منجز إبداعي، يشغل مساحة دقيقة بين ثلاثة أجناس أدبية :الرواية، والسيرة، والمتخيل الروائي،فرواية شارع العزب ،بعنوانها الرئيس، وكذلك الفرعي "لا أنا يوسف ولا أنتم نساء"
تتميز بصفات متنوعة، وثرية ، تصب لصالح المتلقي، وتعد إضافة لفن الرواية العربية.
صدر هذا العمل الذي يقدم نسيجا فريدا بين النثر والشعر ، عن سلسلة دار إضافة عام ٢٠٢٠،فيما يقارب ٤٠٠ صفحة من القطع المتوسط وقد ذيلت الرواية بدارستين نقديتين.

المؤلف هو أحد كتاب الإسكندرية الفاعلين في الحياة الثقافية، فهو يشغل (عضوية اتحاد كتاب مصر، هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، نادي القصة المصري، نادي القصة السعودي،، رئيس سابق لنادي أدب مصطفى كامل، رئيس تحرير ألوان إبداعية،كما شغل لفترات شديدة الحساسية منصب سكرتير عام اتحاد كتاب مصر، فرع الإسكندرية.)
وهو مبدع متعدد المواهب حيث أصدر عددا من المجموعات القصصية والروائية، والمسرحية، والدراسات النقدية.
وقد نشرت أعماله في العديد من الدوريات العربية.
وقد كان له نصيب حسن في عدد من الجوائز والتكريمات المرموقة
شريف محي الدين من جيل الوسط (جيل: متير عتيبة، محمد عطية، محمد عباس على، سمير حكيم، يحي فضل ،عصام حمودة ،الراحل خالد السروجي... الخ)
ذلك الجيل من السكندريين الذين بات لهم منجزهم الإبداعي، الذي يستحق أن يلقي عليه الباحثين والنقاد مزيدا من الضوء.

غلاف الرواية يحمل صورة لشارع في منطقة محطة الرمل بمدينة الإسكندرية، بما يشي بالموقع الجغرافي لأحداث العمل.

أبطال العمل بسيطة ومركبة في الآن ذاته، وقد شملت الرواية العديد من الشخصيات الحقيقية ، بالإضافة إلى الشخصيات الفنية التي صنعها الروائي لاستكمال الحبكة الفنية، ليقدم لنا حالة من الامتزاج الإبداعي.. الناقد
عبدالله هاشم، الكاتب عبد الفتاح مرسي، الجدة ملك هانم ، الجد أحمد العزب ، الأب محي ، الأم سامية العزب، الأخوة طارق، أحمد، دينا، ، الخالات، الأصدقاء، زملاء العمل، الشاعر ضياء طمان، الكاتب محمد محمود الفخرانى، الشاعر حابر بسيوني ،الشاعر أحمد مبارك، د/ زكريا عناني، الشاعر أشرف دسوقي .... الخ)
استطاع الكاتب أن يجعل من عمل الشخصية المحورية للرواية هو البطل الحقيقي لهذا النص بكل صراعات الوظيفة ، بين التصاعد، والهبوط، والتوحد مع البطل في مواجهته لتلك الأمواج العاتية.
كما
سخر المؤلف قدراته في تقديم وصف دقيق للشخصيات بعبارات بلاغية موجزة، ولكنها معبرة، وكأنه يستخدم مبضع جراح ماهر، فجعل يستخرج العيوب والمزايا، ويجسد لنا شخصيات حقيقة من لحم ودم بكل أبعادها السيكولوجية والفسيولوجية، فهو غواص متمكن في اقتحام النفس البشرية.
الأمر الذي جعلني أعيد قراءة النص مرات عدة، لا تخلو أحدها من متعة،والأمر العجيب، أن الرواية في كل مرة كانت تمنحني رؤية أخرى، مع استخراجات فنية جديدة كأنني اقرأها لأول مرة.!!

، الرواية تعد من أنضج، الروايات التي صدرت مؤخرا، يكاد يصل فيها الكاتب إلى الذروة الابداعية فهو يدفعنا دفعا إلى التماس مع روايات الأديب العالمي نجيب محفوظ، بما فيها من صدق فني وحميمية من التواصل والمعايشة الفلسفية والاجتماعية،.

الأحداث دائما تتصاعد وتشكل عنصر جذب للقارئ وتربطه بحميمية المكان والزمان الذين امتزجا معا عبر لقطات تبث روح العائلة ودفء المكان المرتبط بشخصيات النص الفريدة.
مما يدفع القارئ إلى مرحلة من التماهي مع الأبطال حيث يسعي في لهاث دائم خلفهم..فينتظر
في شغف ظهورهم ويترقب في قلق ردود أفعالهم

التداخل الذي صنعه الكاتب بين المكان والزمان، بمستوياته المتعددة في أطروحات تبدو غاية في البساطة، وهي في الحقيقة غاية في التعقيد، إلى حد التفرد اللافت، وكأنه يلاعبنا ، لعبة السلم والثعبان بين الصعود والهبوط المفاجئ. والمدهش في الآن ذاته
، فالكاتب تميز كما اعتدناه في معظم
أعماله السابقة بإجادته لنظرية السهل الممتنع.

في أحد فصول الرواية، والمعنون ب (الإسكندر الأكبر )
جعل المؤلف مجموعة من الشخصيات التاريخية المرتبطة بأزمان وأماكن مختلفة، تتقابل مع أبطال العمل في ترابط فني محكم واسع الدلالة في حالة تماهي وامتزاج للمكان والزمان، وكأنه يحقق مفهوم
الزمكان.
يشير الزمكان إلى دمج الزمان والمكان معا ، فهو الفضاء بأبعاده الأربعة،.
الأبعاد المكانية الثلاثة ؛ الطول والعرض والارتفاع، مضافا إليها الزمن كبعد رابع.
هذه الفضاء الرباعي يشكل نسيج أو شبكة تحمل كل شيء في هذا الكون،
المؤلف يقول أنه لا وجود للأشياء ولا للأحداث خارج
نطاق ترابطي لكل الاماكن و الأزمان .
و هذا المصطلح حديث نسبيا في الفيزياء، ويمكن استخدامه في المخططات الزمكانية لتصوّر التأثيرات النسبية وراء التباين والاختلاف الذي نراه، في زمن ومكان واحد لوقوع حدث ما.

، وقد بنى أينشتاين عمله المؤثر في النسبية في نموذجه الخاص.
ليحدد مكان شيء ما بالاعتماد على عنصر الزمان بدلا من الاعتماد على الثلاثة محاور للمكان فقط.

و النظرية النسبية التي جاء بها أينشتاين في القرن الماضي ليست كلّها معادلات رياضية، وإنّما تحمل أبعادا فلسفية عميقة.
، وقد كان السؤال الأول الذي بدأ به أينشتاين نظريته هو هل يمكن الإثبات بشكلٍ مطلق وقاطع بأنّ جسماً من الأجسام يتحرّك وجسماً ثابتاً لا يتحرك؟
فتبين أن هناك حركةٌ نسبيّة، أمّا الحركةُ الحقيقية فلا وجود لها. لأنّ الكون كلّه في حركةٍ دائمةٍ ولا شيء ثابتْ.
ويعمد شريف محي الدين على هذه الفرضية في بناء النسيج الدرامي للأحداث وتفاعل الشخصيات مع المكان والزمان والتداخل بين الماضي والحاضر، والمستقبل.
النظرية النسبية والزمن :
الزمنُ يرتبط بمعاملاتنا اليومية، والمحدّد بالساعة ،وزمن الرواية يبدأ منذ لحظات ميلاد البطل في السبعينات ويمتد حتى ثورة يناير وما أعقبها من تبعات، أما الزمنُ الداخليّ فهو لا يَقبَلُ القياس، فلا مرجع فيه إلا صاحبهُ المبدع والمتجسد في تلك الشخصيات الروائية،و اللحظات هنا لا تتساوى، فهنالك لحظاتٌ قصيرة مشرقة أفضل من سنواتٍ طويلة من العدم، وهناك وقتٌ يمضي سريعاً وآخر ببطء لا يشعرُ به إلا صاحبُهُ، ويُطلَق على هذا الزمن اسم (الزمن الوجودي) وفقا للفلاسفةِ الوجوديين أمثال: برجسون، وسارتر، وغيرهما.
هذا الزمن لم يكن هو المقصودُ في نظرية أينشتاين النسبيّة.
ولكنه عين قصد المؤلف المولع بتحولات الوقت ونسبية، الزمن والمكان.
الزمن الذي يَقصدِه أينشتاين هو الزمنُ الخارجيُّ الموضوعيُّ، الزمنُ الذي تتحرّك النجومُ والكواكبُ بداخِله، وبما أنّ المَكان المُطلَق لا وجُود له في نظريّة أينشتاين النسبيّة - فكذلك الزمن .
إنّ الزمنَ المعروفَ بالساعةِ واليوم والشهر والسنة مجرّدَ مصطلح يرمز إلى دَوران الأرضِ حولَ نفسِها وحولَ الشمس أو بشكلٍ أكثرَ وضوحاً " مصطلحاتٌ لأوضاعٍ مختلفة ٍفي المكان ".
كما أن السّاعات التي نحملها حولَ معصمنا مضبوطة على النظامِ الشمسي، لكنّ النظام الشمسيّ ليس النظام الوحيد في الكون، فلا يُمكن أن نَفرضَ التقويمَ الزمنيّ للنظامِ الشمسيّ على الكون كلّه ، ولا أن نعتبَر أنّ الكمياتِ التي نقيُس بها هي كمياتٌ مُطلَقة، فمثلاً لا يمكنِنا الافتراضُ أنَ الوقتَ (الآن ) هو الوقت نفسُه (الآن) في المجرّة كلّها!
فلا يوجد زمنٌ واحدٌ للكون كلّه، والمكانُ مقدارٌ متغير، كما أنّ الكون لا يَقومُ على الفوضى؛ بل على الانسجامِ
والوحدةِ الواحدة، ويرفُضُ الصّدفةَ والعشوائيّة، وبذلك فإنّ الكونَ يُمكنُ تعقّله.
من خلال إطار دقيق ومحكم، من الزمان والمكان وهذا ما يمنح المؤلف شريف محي الدين أبعادا فلسفية ويكسب روايته بعدا خفيا أحدثه بطريقة غير مباشرة وفقا لقواعد الفن الأساسية.
التي تبتعد عن المباشرة وتعمد إلى الرمز والايحاء في
معظم حالاتها.

في هذا النص تطغي روح العائلة ويتضح حالة من الارتباط الحميمي بين جميع الأجيال، فتظهر جلية بين الجد والأب ، والخال والحفيد،الجدة، و
الأم، والخالات، والعمات وأبناء الخالات، وأبناء العمات، حيث تتبادل الخبرات المتباينة بفعل الزمن، وتتغير المواقف لتغيره.
ظهرت حرفية الكاتب في التعامل مع الزمن في فضاء النص ومتابعة تكوينات الشخصيات الفسيولوجية والنفسية، والرسم البياني المتقن للأحداث الدرامية، مع لغة شاعرية موجزة، و مكثفة بدرجة تصل كثيرا إلى مستوى الشعر في كثير من مقاطعها، مما يلفت النظر إلى حرفية الكاتب وقدرته علي التعامل مع حبكة معقدة ومتشعبة ولكنها محكمة.

دعم الكاتب نصه بفصول قصيرة نسبيا هي أشبه بقصائد الشعر، وفيها تصل المشاعر إلى أعلى مستويات الوجدان، حيث تعبر عن حالات متنوعة من الشجن، والتى قد تأخذ منحى صوفي عذب في بعض الأحيان.

يحسب للكاتب استخدام الحوار الذي جاء
قويا حيث اختزل مساحات كثيرة من السرد لإيصال فكر الشخصيات بقوة وسرعة
كما أكسب العمل حيوية،
وهذا تأكيد على مهارة الكاتب في صناعة الحوار الفني، تلك المهارة التي عرف بها في مسرحياته السابقة، أنا الملك،، الدهليز، رجل الخوف، الحب والوهم.

المؤلف يعرف جيدا الخطوط الفاصلة لطبيعة أجناس العمل الإبداعي
وتعد تلك الرواية هي المنجز الروائي السادس له فقد صدر له من قبل :
طائر على صدر امرأة،، ،أصحاب الملامح الباهتة،، ،، الملك،،، خارج الحدود،،، ، مريم
بخلاف مجموعاته القصصية :
أحذية وكلمات ،،،طريق النخيل،،، امرأة عارية
كما قدم كتابه النقدي :
نجوم الإبداع السكندرى، والذي تناول فيه عددا من رموز كتاب الثغر

.
.

للمؤلف ثقافة واسعة وإمكانيات حرفية تجلت بصورة لافتة في هذا العمل.
فهو قد استطاع أن يجمع حوله معظم مستويات القراء بدرجاتهم الفكرية المختلفة، البسيط منهم والمعقد، فاستطاع أن يخاطب كل منهم على قدر وعيه وثقافته.

من الجدير بالذكر أن الاثر الطيب
لهذه الرواية، قد امتد خارج حدود جمهورية مصر إلى عدد من البقاع العربية حين نشرت فصولها مسلسلة، في أحد المواقع العربية العريقة، فحققت نجاحا وتواصلا إنسانيا مبهرا، يحسب للمؤلف الذي بات مطالبا بإنتاج جزء ثان لهذا العمل، أوحتى تقديم عمل جديد على نفس المستوى الفريد وبنفس الشكل والحبكة المتقنة.

ختاما....
فإن المؤلف يضعنا في حالة حيرة شديدة حين نكتشف أننا أمام عمل يجمع بين شتى المدارس الإبداعية، اجتماعية، نفسية، رومانسية، رمزية، واقعية، سياسية، تجريدية ، تقليدية، بل وحداثية أيضا في الوقت ذاته
نحن أمام رواية فريدة تستحق أن تحتل مكانة عظيمة في عالم الإبداع الروائي ولا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يتغافل عنها أي باحث للدراسات العليا في الرواية العربية، بما تحمله من قيمة فنية عالية
كنموذج إبداعي مدهش، ومحكم، يضع قدما بين الحداثة وأخرى في الأصالة ليقدم أمواجا متتابعة من الإحالات، والدلالات، والقضايا شديدة، الحساسية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى