محمد بودويك - تركْتُ قلبي عندهم، أو: تغريبة عمّي حَمّادْ

إنه أحد الذين طبعوني بشخصيتهم، ووسَموني بصلابة عزيمتهم وصبرهم، وأغنوا مخيالي بحكاياتهم الواقعية الأغرب من الخيال. تلك الحكايات التي كان مسرحها: مرسيليا وتولون بفرنسا، وجوبه بإيطاليا، وبلجيكا، وهولندا، وبلاد الهند الصينية (لانْدوشينْ)، لما حُشِرَ عمي مع من حشر ضمن وحدات المشاة الكومْ لمقاومة ومنازلة دول المحور: إسبانيا، وإيطاليا، وألمانيا، ومحاربة ثوار الفيتكونغ، وهوشيمِنْ ورفاقه.
ألتذُّ بالحكي، وألوكُه وأعْلُكُه عِلْكاً كقطعة لُبانٍ أو حلوى، وأسبح في مائه وسمائه وبراريه الخرافية الزمردية، وأنا وسط الغابة الزاهية المهيبة، غابة غيّاثةَ الغربية، أو على بعد شبر من موقد يؤججه الفحم الحجري المستعر عندما ينزل عمي حماد ضيفا أثيراً علينا بجرادةَ. وكان مكوثه بيننا يستغرق زمنا معتبراً ننعم فيه ونستمتع بدفء الحكايا، وغرابة الوقائع، وعجائب الأسفار في شتى الأصقاع والأمصار. لكن الغابة التي يتلامح منها جبل تزّكّا المكلل بالثلوج على مدار العام، كانت تستهويني، وتُطَيِّرُ لبي، وتحملني على أجنحة رُخٍّ أسطوري بلا نظير. حيث السمفونيات، والسوناتات، والكونسرتوات، والأهازيج، تنداح وتتدفق كينابيع الأنهار السحرية، آتية تتسرسب من كل ناحية وصوب في ما يشبه جوقا سمفونيا متآلفا، متناسقا ومتناغما غاية في الروعة والسمو. والطيور والعصافير، والحفيف، والجفجفة والثغاء، والعواء، والقأقأة، والنعيب والخرير، ومعازف الريح القادمة المنبجسة من كهوف الجبال، وأغوار المغارات، ومن الدوح الشجير، والأيك الكثيف، والسرو الشاهق، وشجر الرمان، والزيتون، والإجاص، والسفرجل، والأحراش المدومة التي تهدهدها ظلال تستطيل وتتقلص في كل ساعات النهار المشمسة، ساعات الصحو الذي يترقرق فتونا وبهاءً في عيون الوقت السائل الذي يتشبث بالأباطح كأنه لا يريد أن يبرح المكان أبدا، ويُخليه لشبيهه الداكن المتجهم.
تسابيح لا تنتهي ترفعني إلى شاهق، وتؤرجحني فوق أسرة الغيوم البيضاء المتناثرة في قبة السماء، كالعهن المنفوش، والقطن المندوف. وحمرة الآصائل البرتقالية المسفوحة على هامِّ الشجر والحجر والإنسان والحيوان، وهي تعانق كالموَلَّهة اللهفى، بقايا الظلال الرّوّاغةِ التي طفقت تختفي فاسحة الطريق والفضاء لقدوم الظلام.. قدوم الملك الليلي المتوج الذي يتوجس خيفة من عقارب النهار.
ياهْ.. كم يحلو ويلذ الحكي والقص والرواية بينما رائحة الشاي تفغم وتدغدغ أنوفنا، ولونه الزعروري يخضب حكي عمي حماد الطويل العماد الذي حارب إلى جانب الحلفاء، في فرنسا، وإيطاليا وبلجيكا وصقلية، والفيتنام. عمي الذي أحب فيتنامية وتزوجها، ولكنه تركها مرغما تنتظر عودته بعد أن وعدها بذلك، واستقدامها إلى البلاد.. إلى المغرب. لكنه لم يفعل أبدا، إذْ لم يكن له حول ولا قوة، ولا نفوذ، ولا وسيط يتدخل ليداوي جرحه، وينعش قلبه، ويرد له أيامه المورقات التي سرقها في غفلة من الموت المتربص، وهو في خضَمِّ النار والغبار والقذائف، والقتل، والعدوان على سكان البلاد. لا أحد أمكن أن يعيد له فتوته، وحبه الأول. فقد ظل يحبها، فيما أسرَّ لي، بل سكنت فؤاده، وسويداء قلبه، وعذبتْ ذكراهُ وإن حاول إخفاء ذلك حتى لا يُرْمَى بالحب والضعف، والندم، وهو الرجل القوي، الجندي الكومي الذي لا يجد اللين ولا الضعف، سبيلا إلى قلبه وجأشه. ولعله كان نادما على فعلته. أدركت ذلك من آهاته، وتأوهاته، وتبكيت ضميره له بشكل موارب تَوْرَويٍّ، وإنِ جاهد على كبت حر الفراق، وقمع دمع قلبه ندما وحسرة على « جريرته» التي لم يكن له يد فيها بكل تأكيد. فهو مكره ومرغم في كل الأحوال: مرغم على الانخراط في جيش الحلفاء إلى جانب فرنسا. ومرغم على مغادرة مسقط رأسه، وأبيه، وأمه، وإخوته. ومرغم على مقاتلة أغيار لم يقترفوا ما يوجب مقاتلتهم، ولا دفعهم إلى الترمل، واليتم، والجوع والبرد، وترك البلاد. ومرغم على مطاوعة قلبه، ونداء دمه وشبابه في أن يحب ويقترن بامرأة يقاتل أهلها مجّاناً، والتي رضيت به حبيباً أجنبيا رغم ما كانت تستشعره ربما من خيانة لوطنها، وخيانة لأهلها، مطاوعة لأنانيتها لإطفاء نار جسدها، وتلبية لنداء قلبها. وربما تزوجته هربا من البطش والضياع، والجوع، وسوء العاقبة. وربما لوسامة عمي، وطوله، ويفاعته. وكان الافتراض الأخير، يريحه، ويثلج صدره، ويرضي كبرياءه، ويحسسه بفتوته ورجولته. مع أنني، عندما عرفت قصة الأمبريالية الأمريكية والفرنسية، وأخبرته بكونه كان ضحية أميته واندفاعه، وحاجته إلى المال في وقت كانت بلادنا مستعمرة، تئن تحت وطأة الجوع والفقر، والكوليرا، مما جعل شباب الفترة، ورجالها ينخرطون أفواجا.. أفواجاً في أتون الحرب الاستعمارية، ويزجون بأنفسهم في التهلكة، في ما لا ناقة لهم فيه ولا جمل، بل، كانوا حطبا يوقد من أجل الأسياد المتحكمين في رقاب البلاد، وبعدها يصيرون رمادا، وقد صاروا. موتى بلا قبور. عَجَزَةٌ في ريعان شبابهم، وأنصاف نفوس وأبدان. لَمّا أخبرته بالحقيقة، سُقِطَ في يده، ولعن َالفقرَ والأمية َالظالمةَ.
كان حبه للفيتنامية جارفا. وكان يحفظ اسمها الصعب المعقد عن ظهر غيب، بينما نسيته أنا. وفي ذلك ما يؤكد تعلقه به، وعدم نسيانها لها، واستذكارها كلما بكت أو غنت حمامة، وكلما هبط الظلام وأرخى سدوله على أولاد حجاج بغياثة الغربية، وكلما أشرقت الشمس، وانحدر مع أشعتها الصباحية الأولى، إلى واد ذي زرع وماء دافق عذب نمير، وذي خُضَرٍ وفواكه، وأشجار بهجة للناظرين. ليشرع في التشذيب، وتصفيف حجارة الأحواض، وإعادة الماء إلى مجراه في السواقي.
وقد تزوج حماد بأكثر من امرأة، بغيةَ نسيان عهدها وأيامها، وطمعا في الإنجاب بعد أن كفت زوجته الأولى عن الإنجاب غِبَّ وضع أنثى. كان يُمَنّي النفس بأن يرزق بطفل ذكر يخلد ذكره واسمه، يشد من عضده، ويرعاه في شيخوخته، ويضمن استمرار ذريته. فلما يئس، وكان اليأس خطوطا بنية ورمادية ترتسم على جبهته ومحياه، وخطوه، وكلامه الذي قلَّ، وشروده الذي طال، تعاطى للزراعة والبستنة وتشذيب شجيرات الأزهار التي كانت تسيج داره الهنيّة المرفوعة على هضبة شماءَ معشبة. وتعاطى للصيد والقنص. وكيف لا؟ وهو الكومي المحنك الماهر الذي كان يقنص «الأعداء»، ويصيد الأرانب البرية، والحجل، وأنواع الطيور غذاء له وقوتا عندما ينضب العتاد، وتَخْوَى علب السردين، وهو في الخلاء، وخلف المتاريس. وكيف لا؟ وهو الساكن في قلب غابة وحشية طبيعية، وغابة أنبتها وسوّاها الإنسان قوامها: أشجار التين والزيتون، والمشمس، والرّمان، والبرقوق، والسفرجل، والكروم، والتين الشوكي، وغيرها. ويأهلها الوحيش، وتعمرها الطرائد التي تغلي بها الغابة الشَّجيرَةُ، ويتدفق الماء منسابا سلسبيلا في عروقها وأمعائها، وشرايينها، ووُتْنِها، فيملؤها صخبا وحياة، واخضراراً، ورونقا، وبهاء يتجاوز الوصف. أما الخنزير البري، فكان كلما صاده، وكان من الوفرة والكثرة، ينزل إلى تازةَ راكبا بغلته الضامرةَ الصبورَ، ليبيعه إلى الأجانب هناك. فبين تازة ودوار اولادْ حجّاج، مسافة ساعتين أو ثلاث على ظهر الدواب والمطايا، في أكبر تقدير.
لم أسافر قط مع أبي إلى مسقط رأسه. ولست أدري لِمَ كان عزوفا عن زيارة بلدته، ومرتع صباه، وزاهدا في صلة الرحم بأفراد قبيلته، وذوي قرباه في شيخوخته؟. فعمي الآخر» عبد السلام» رحمه لله، هو من كان يأخذني معه إلى «لَبْلادْ» كل صيف إبان العطلة القصيرة التي يرخص له بها. فيده البيضاء تلك لا تنسى. وهديته الكريمة كانت مدعاةً لي للتفسح، وتنشق العِرار، وعطر الأشجار، والجَوْس خلال أدغال الغابة، بين ممراتها وفُسْحاتها، والخوض في أمواه واديها، وعيونها، والْعَبِّ من هوائها، وأريج زهورها، وضوع زعترها، وفليوها، وخزاماها، وأعشابها العطرة الأخرى.
ويده البيضاء هي ما قادني إلى زيارات عمي حماد، وإلى الاستماع اليقظ إلى حكاياته اللذيذة والأليمة التي لم أكن أشبع منها حيث كنت أستزيده حتى يهده التعب، ويغالبه النوم.
ثم كانت تلك الزيارات البهية المثمرة، سوانحَ وفرصاً ذهبية لي للقراءة والمطالعة، وتحبير بعض قصائدي. ففي أحضان الغابة العظيمة، غابة «هيدجر» الصغير، الخضراء الزاهية، لا السوداء القاتمة التي توحي بالعزلة التامة، والغنوصية، والفلسفة الوجودية العميقة إلى حد بعيد. وبحِذاء الينابيع الفضية، ومساقط المياه المُكَوْثرة، وتحت ظلال أشجار البُطْم، والسَّرْو والصفصاف، قرأت أجمل الروايات، وأجود القصص، وأمتع الشعر. وفيها، في الغابة: تعلمت أن أصرخ عاليا بكل أملك وأدخر من هواء في رئتي، وحنجرتي، وأحبال صوتي، وبلعومي حتى أتنفس قليلا، وأُخْرِجُ «الكاربونْ»، والضجر الجاثمين على صدري. وفي الغابة إياها، كنت أردد بصوت عالٍ، ما أحفظ من أغانٍ بديعة لفريد الأطرش، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وفيروز، وعبد الهادي بلخياط، وعبد الوهاب الدكالي، وأحمد البيضاوي، حتى وَقَرَ في وهمي أنني مطرب ذو صوت رخيم، وفنان من طراز عال لا يشق له غبار.
وفيها، في أثناء حكي عمي حماد رحمه لله، عرفت ما لم يعرفه إخوانه كأبي وباقي أعمامي يرحمهم لله.
عرفت لوعته وأساه، ووجعه، ودمعته الخفية العصية، على ضياع حبه الأول وندمه بعد أن فرط في امرأة تنتسب إلى شعب عظيم أريد له الركوع والخضوعَ، وإلاّ الإبادَةَ. ولكنه خرج وجراحاته تنزف، قوي الشكيمة، عظيما هائلا، بطلا مُمَجداً، ومعلما كبيراً قدَّمَ دروسا للإنسانية، وللشعوب المغلوبة والمقهورة، دروسا لا تنسى في البطولة والإباء، ملهمةً لهم في أن يكونوا هم أنفسهم، أحراراً لا أرِقّاءَ. أسياداً لا أقْناناً، ينعمون بهواء بلادهم، وثرواتها، وخيراتها، ويختارون نظام الحكم الذي يَبْغونَه ويرتضونه. ولقد سمعت امتداحَ عمي لعظمة الشعب الفيتنامي، وبطولاته، وذكائه، وحيله البسيطة كالمباغتة، وحرب العصابات التي استلهمها قادتُه من البطل المغربي محمد عبد الكريم الخطابي في ما نُقِلَ عن هوشي مِنْه، ورفاقِه. تلك الخطط والتاكتيكات التي دوَّخَتْ أعتى الأمبرياليات، وكسرت شوكتها، ومرَّغَتْ كبرياءَها في التراب.
ولقد رأيته مرَّةً يبكي، أو يغالب دمعه على الأصح، وهو يصف لي واقعة مريرة وفظيعة ولا إنسانية، حين أطلق الرصاص على فيتنامي أعزل، وكان قد واجهه وهو يخرج من أجمة بها شجر، وقصب، وأَسَلٌ، وبامبو، وبوصٌ. استبد به الجزع، وخَضَّتْه المباغتة، فجَنْدَلَه وأَرْداهُ.كما ظلت تلك المرأة المعشوقةُ تصاحبه كظله في غدوه ورواحه، وفي نومه ويقظته.
تُرَى، هل تكون قد نسيت مغربيا اسمه حماد؟ أم ظلت، بدورها، مسكونة ًبه، تبكيه كلما غرّد طائرٌ، وسَقْسَقَ عصفورٌ، ودوّمتْ ريحٌ، وصًوّتَتْ قَصَبَةٌ، وانحنتْ تزرع الأرز أو تحصده في تلك الأرض البعيدة التي باركها رب المياه، والرياح، والاخضرار؟


محمد بودويك





أعلى