د. جليلة الخليع - قراءة في ديوان "العلبة السوداء" للشاعر المغربي عبد اللطيف البطل .

العلبة السوداء ، ديوان جديد للشاعر والفنان المبدع عبد اللطيف البطل احتفي باللغة ، بالشعر ، بالفن في كل توجهاته ، وقد قدم له الشاعر العارف المبدع الكبير أحمد بلحاج أية وارهام ، ليأخذ بأيدينا ويدلنا على المسارات التي يجب أن نتبعها حتى نكتشف أسرار –العلبة السوداء-.
هنا ولوج لعالم الشاعر السري الذي جمعه ووضعه في علبة سوداء ، هو السواد الدال على الغموض ، على الاختفاء ، على التقوقع في عالم تكعيبي يمرر شفراته عبر حروف ورؤوس مستندا على زوايا عديدة .
فالعنوان هو المفتاح الإجرائي الأول الذي يمكن من خلاله الولوج لعالم الديوان وكشف أسراره ، باعتباره مرتكزا قرائيا مهما في قراءة الديوان على نحو عام تليه عتبات نصية أخرى لا يمكن تخطيها بل هي تشكل مع العنوان الأم وحدة متناسقة متكاملة لاستنطاق نصوص الديوان وسبر أغوارها وتأويلها.
ولم يكن اختيار الشاعر للعنوان -العلبة السوداء – اعتباطيا ،فهواختيار محكم قائم على رؤية تشكيلية عميقة ،ودلالاتها في إغراء القارئ واستفزازه.فللعنوان فلسفته الخاصة القائمة على سيموطيقيا التواصل مع النص من جهة ومع مستقبلات التلقي من جهة أخرى ، ما يمنحه جمالية خاصة .إذ أضحى اليوم بنية ضاغطة ومركزية تستكمل معمارية النص ، وتلفت الانتباه ، بوصفها مركزا باثا ، وبؤرة دائمة الإشعاع في شعرية النص الأدبي.
وإن كان العنوان مأخوذا من نص بالديوان ، -النص الثاني –فقد كان أكثراستحقاقا لهذا التكليف وأكثر شمولية ليحمل على كتفه أعمدة النصوص الأخرى
فالعلبة هي ذات الشاعر الخفية التي لا يمكن أن تتجلى لنا إلا باستنطاق حروفه وألوانه ،وجس نبض نصوصه والنبش في ترسباته البنيوية وتسلق هضباته التركيبية.
هي علبة بستة عشرا رأسا أو نصا ، لكل نص مفتاحه الخاص ومدخل واحد هو باب العلبة العلوي .والدخول للديوان أو العلبة كما يقول شاعرنا الكبير أحمد بلحاج آية وارهام في تقديمه للديوان هو دخول إلى الجوانب السرية فينا وفي وجودنا ، وكم سيكون الولوج في طقوسها ولوجا في الشهي الأبهى وفي الألوان المفارقة للعادة ، والعازفة على وتر التجدد المنشود في زمن لا يصهل فيه غير الرماد.
من العتبة النصية الأولى -لن يصل غودو-وهذا التناص بين مسرحية الكاتب -صامويل بيكيت–في انتظار غودو-، نكتنف هذا الطرق على أبواب الوجود المعتمة ، واستنطاق أسئلة الانتظار العصية .
هذه الأشجار اليابسة
لاتمتلك سوى الانتظار
الأوراق ملك الخريف.
هو الانتظار، جلطة دموية ،يصاب على إثرها الزمن بالشلل:
لاأطيق
تدلل عقارب الساعة
يصاب الزمن بالشلل.
هو الانتظار صمت خانق ، يقلقه صراخ الوقت :
كان يكفي
مراقبة هذا الضفدع
لفهم إيماءات
التحرش بالمجهول
يتحرك الزمان
ولازال النقيق يقلق
راحة الصمت
فالصمت لغة العارفين ، هكذا يتجلى لنا في هذا المفهوم الصوفي للصمت:
وأن للصمت شطحات
الصمت بكاء
الصمت نداء
الصمت عراء
كلما انسحب الليل
يُغتصب الصمت
دون سابق إنذار
هو الانتظار، أسئلة الوجود العصية ، الاستفهامات المتدلية من سقف الحياة ، لتبدو الحياة من زاوية رؤيته الشعرية :
هي الحياة حينما لا توقدها
إلا شعلة الهزيمة
ولا يطربها
إلا طنين الذباب.
ويظل الموت السؤال الأكثر نقرا على تفكير الإنسان ،فهو يسيطر على أحاسيس الشاعر ولغته ورؤاه وعوالمه الشعرية حيث نجد في قصيدة بين موت وولادة هذا التضاد الذي يبوح به العنوان بين الحياة والموت
الموت ينسج أكفانا
من وجنتي البرتقال
لكل عبور
نهاية
ولكل موت
رقصة على ألوان
السؤال
هذا التضاد بين الموت والحياة ما هو إلا اكتمال، فلا تُفهم الحياة إلا بالموت:
يتحرك الإنسان
هذا الذكي
كلما أراد أن يحيا
يأخذ جرعة
من الموت .
هو الموت ، المصير الحتمي ، فهو المنتصر في النهاية :
سينتصر الموت الرحيم
وستمضي خرائط القلب
في خط مستقيم
سيصبح الشيطان عاطلا .
ويظل الشاعر ينهل من خصائص الفنون الجميلة النوعية الأخرى ليغذي عناصره الشعرية وبالتالي يثري أنموذجه الشعري.فهو كفنان تشكيلي نجده يرسم بالكلمات كما بالريشة لوحة فنية رائعة للغروب حيث يقول
كلما وقفت متخشبا
أمام عزلة الغروب
أرى البحر يتقدم
نحوي
تاركا وراءه ابتسامة
أنهكها
امتصاص الحناء
ومن التشكيل إلى الموسيقى نجده يمنحنا هذا التعريف العميق للموسيقى حيث يقول :
الموسيقى
تؤجل النهاية
الموسيقى
فاصل بين الولادة والموت.
هي الموسيقى وكيف انعكست ذاتيته فيها ليشبه نفسه ب-الهجهوج- هذه الآلة الوترية التي يستخدمها -الكناوي- لتساعده على فتق جيوبه الروحية :
لا قدرة لي على الانعكاس
ما أنا إلا جنون
هجهوج
استرجع الذاكرة
ومزق الأوتار للثلج كما للخوف
وجوه مختلفة
تمتص من علبة الماكياج
عصارة الوجود
ويظل ماسكا مفاتيحه الموسيقية يطرق تارة باب شوبان وتارة أخرى باب بيتهوفن ليفصل بين الأكثر سيطرة على ذائقته الموسيقية حيث يقول :
ياصاحبي
ضاع مني
شوبان
وحده بيتهوفن
يملك المفتاح السحري
لتفكيك رسائل
الإطراق المشفرة
ليظل حبيس الموسيقى التي لا يعلو على همسها أي صراخ:
أيها البستاني
أطفئ الشمس
احبسني في مكعب
أجوف
ارفع صوت الموسيقى
لتبلغ هزيم الرعد
ويظل شاعرنا في قبضة الموسيقى ، يمتح من ألحانها شرقا وغربا ، يخبئبين أصابعه نوتات بيتهوفن ويحاول أن يمد يده لأوتار العود ليلاحق عرابات سيد مكاوي :
لن يسمعني بيتهوفن
وأنا أعزف على أوتار الصبر
المدوية
كيف أخطر على بال
سيد مكاوي؟
وأنا أضمد لحن
عزلتي
بإيقاع ضرير
غارق في غطرسة
النباح.
لتقوده الموسيقى بمعية الحاجة الحمداوية لمراقبة البحر:
ها هي الحمداوية
تصر على أن تراقب
البحر
لعله يؤجل
الرحيل
ولأنه الشعر فن القول الأول عند كل الشعوب كان على الشاعر أن ينغرس في الكلمة ليعيد تشكيلها حسب رؤاه الشعرية وحالاته الوجدانية ، فهو لن يكون شاعرا إلا بمعايير فرضها عليه وعيه الشعري الإبداعي حيث يقول :
لن أكون شاعرا
حتى ينكسر صنمي
ويسبقني عشقي
مني إلي .
هنا استعمل الشاعر الألوان على المستوى اللغوي بدلالات مغايرة للكشف عن لون جديد :
اقطف الأوراق اليائسة
لتصوغ فوقها
شعرا
من خردة الكلام
المتناثر فوق الحجارة .
فهو الشاعر الذي تغزوه اللغات وتمنحه بركتها :
فأنت لست دون كيشوت
أنت شاعر
يعبر
فوق منحاه الأبدي
تغزوك
رقصات اللغات
كلما فتحت عينيك
يصيبك البكاء
فهو الشاعر الذي جند كل خياله ليقبض على الفكرة القصية :
لن أختبئ
بين السطور
سيحترق مزاجي
ينفذ مدادي
ويفسد العرق
خميرة القصيدة
لا شعر بدون مجاز
ولا خيال بدون
مزاج
ويظل ماسكا بزمام الخيال مخاطبا الريح :
لا تأكليني
ففي أحشائي
حروف متحجرة
عسر ولادة
وغيبوبة ذاكرة .
ويتساءل عن ماهية الشعر بل الأحرى ما يفعله الشعر بالشاعر :
لماذا
يمتص الشعر دم
الشعراء ؟
فالشعر نور يضيء الدروب المعتمة ، فهو السراج لمن ظل السبيل:
لن ير الكفيف
إلا ضوء
أبيات الشعراء
ليكون الشعر خاتمة البوح والقفلة التي أمسك بها –دُم – الديوان
لن أشتري بشعري
ثمنا قليلا
الشعر
سماء
الغناء
فقد اعتمد الديوان علىقاموس لغوي خصب متنوع ، حرص فيه على انتقاء مفرداته وتركيزها وشحنها بالدلالات الكبيرة والاستعارات الجميلة
فقد أكد ذلك شاعرنا الكبير أحمد بلحاج أية وارهام ،عند تقديمه للديوان ليكشف عن أسرار العلبة حيث قال :
فهو ديوان وعود اللغة في اغتسالها وانتشائها ، وديوان التخييل في بكارته وفرادته وديوان الشعرية الآتية من أعالي الشفوف ومن الغرابة الآخذة باللب صورا وبنيات وبلاغة .
هكذا كانت العلبة السوداء تمثيلا لحالات وجدانية خاصة تنمو فنيا باتجاه بنية الإيجاز والتركيز ،فالأنا الشعرية لا تستطيع أن تغادر منطقة الذات وكثيرا ما تتوحد ذات الشاعر الانسانية بذاته الشعرية للبوح بهموم الذات والتأمل في ماهية الوجود.

جليلة الخليع
طنجة 30-05-2021



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى