إبراهيم كولان - من أَوراق دجاجة

(1)
هل تكفي كلمة جهالة لوصف رجل بليد وزوجة عجفاء ، أم ليست هنالك مفردة في اللغة تفي لوصف أمثال هؤلاء ! إنهم خارج مفردات الوصف ، خارج حدود اللغة والتاريخ ، يعيشان هذه الحياة بتفاهاتهم بلا مبالاة ، بلا إحساس ، بلا شعور ، بلا أي مبرر للحياة ، يثرثران طوال الوقت بحماقات يسمو عليها إنسان العصر الحجري ، لا نهاية لغدوهما ورواحهما في عجن وعلك نفس القذارات ، يتخاصمان لوضاعة حياتهما بالكلام المقيت المكرر ...
ــ اليوم سقيت الدجاجات ماء !
ــ اليوم وضعت لهم بقية من فتات الخبز !
ــ أمس رميت لهم حفنة من كسرات الشعير ! ...
تصوروا تفاهة هذين الخبيثين ! تكرموا لنا ببضع حبات من الدخن أو العدس العفن ! ... ناكري الجميل ! ... نقضي عمرنا في تغذية أجسادهم المترهلة بالخواء ، المتخمة بالأنانية ، إنهم لا يرون أنفسهم ، يتفاخرون حتى بأحط الخصال التي يمتلكونها ، ويتباهون بأقذر الأفعال التي يقترفوها ، وبعظام الأمور التي يتخيلون أنهم أبطالها وهي لا تشرف نملة صغيرة إن قامت بها ...
هي خربة تفوح منها رائحة الروث الكريهة ، مقيدين وضعونا فيها إلا بعض فسحة في الباحة الخارجية ، ويا ويل من يكسر أعرافهم وقوانينهم ! ويا ويل الويل من يتخطى هذهِ الزريبة الجحيم ! .....

(2)
في بعض الأحيان يشذ تفكيري بدروب شتى ، متى تستمر أيامنا تمضغ هذهِ المعاناة ؟! ترى ذنب من كان في كل الذي يجري ؟! مدى التاريخ وعبر الأجيال والفصائل والأنواع التي توالت ، تناوب علينا الطرد والضرب ونتف الريش والجوع والعطش والحرمان واللا مبالاة والعبودية ، وفي النهاية الذبح والقتل ... هل القوة هي الفصل في كل أمر ، أم هو قانون الحياة ؟!! أيتها الطيور اللاطائرة تلوذين بالكسل والبلادة والاعتماد على الغير ، مفضلة إياها على العيش بكرامة والموت بشرف ، هذا الخوف من المجهول الذي يأتينا يجعلنا نرضخ للوضيعين ، ننصاع لعسف الجاهلين ، هذا الخيال الجامح بعبرات الخوف من الموت يجعلنا نجترح الهوان والمذلة ...
هناك قصة ما زال يتذكرها الكبار منا ... قيل أن صقراً كان يسكن قمة تلة وعلى مساحة السفح انتشرت الغربان ، كانت الغربان قد ابتليت بهذا الصقر فكلما أراد غراب أن يتخلص من هذا الجحيم وطار التهمه الصقر في اللحظة بشراسة ، وهكذا ظلت الغربان رهينة السفح فمن يجرأ الطيران ، وظلت أعين الصقر ترصدهم ، كلما قفز أحدهم كان طعاماً للصقر ، التهم منهم عشرات بل مئات من الغربان واحد إثر آخر ، فخنع الجميع صاغرين مهانين ، لكن أحد الغربان النبيهين همس للبقية الباقية من الغربان ... ماذا لو نطير كلنا سرباً واحداً وقفزة واحدة في الفضاء ، نطير سوية جمعاً مجمعاً واحداً ، فجُلّ ما يستطيع الصقر التهامه واحداً منا أو اثنين وينجو الباقي ، لكن الخوف كان قد حفر جذوره عميقاً في رؤوس عفنة لا تقبل الجديد ....
عجبي أنا أيضاً على قومي ! لقد الفت البؤس والذل والعبودية هي أيضاً ، ولم تعد تعي أبعد من ما بين قدميها ...
لم أعد أهتم لشيء ، لكن ما يقززني هذهِ الكلمة المقيتة ، التدجين !! في البداية لا يبرره أحد ، لكنه في نهاية الأمر يألفه ويعتاش معه ، يلعب وينام ويصحو معه ، ليأتلفان متوحدان كحقيقة أبدية ....
مرض يأتي هادئاً ، ليناً ، لعيناً كسرطان ينخر جسدك ولا تشعر به في بادئ الأمر إلى أن يرميك جثة متفسخة ... حتى لتشعر بالتقزز من كل خطوة تخطوها ، بتسمم الهواء الذي تتنفسه ، وكل ذرة تراب حولك ، كل همسة ، كل شهقة أو زفير تصبح جريمة ، لقد هشم هذا المخلوق حتى قانون الخلق في الطبيعة ، القتل جريمة بالمفرد ، لكن التدجين تجارة الجملة ... يجعل الدجاج يكره الليل والنهار ، الضوء والظلام ، يجعله يكره حتى نفسه ! ...
كم أقدسك أيتها الذئاب !! ... إنك الوحيدة التي مرغت أنف هذا الرجل في الوحل ! لقد دجن الدجاج والغنم والكلاب والحمير ، لكنه لم يجرؤ على تدجين الذئاب ... لكن المأساة ليست مأساة الجميع إنها مأساة البعض بل مأساتي أنا ! لم يعدم أجدادنا الحكمة حين قالوها ! ــ من يفهم أكثر يتألم أكثر ــ * وعذراً على هذا الغرور ، ولكن من يمتلكها لا يمتلك شجاعة القول .....

(3)
بسرية بالغة تحدثت مع إحدى صديقاتي النبيهات التي أثق في رجاحة عقلها ، قالت :
ــ أنصحك بالتحدث مع الذئاب ! ...
ــ الذئاب ؟! إنهم أعداؤنا !
ــ أليس الجميع أعداءنا ؟! أليست الخليقة كلها ضدنا ؟! فما بالك تخشين من الذئاب وحدهم ؟! ....
ترى هل في جعبتهم ما يعينني على ذلك ؟! ..... هل يفكرون مثلنا ؟ ألا أجد جديداً في التحدث معهم ؟ ألا ننتفع منهم بنصيحة ما ؟ .... فكرت طويلاً ! ... يجب تبني طريقة ما للاتصال بذئب ولكن بطريقة لا تسمح له بالانقضاض علي، على أية حال يجب أن تكون الخطة محكمة في تفادي التقرب من ذئب ، عليّ أن أكلم شيخاً أو عجوزاً أو فرخاً صغيراً لأكون في منأى عن شره ....
صادف أن مرّ في يوم من الأيام ذئب عجوز من خلف الحائط ، كان لا يقوى المسير ، كلمته من فوق الحائط وأنا أردد بسرعة الكلمات التي انتقيتها كي لا تضيع مني هذهِ الفرصة ... هل تعرفون بماذا أجاب ؟ أخذ يقهقه بصوت عالٍ وهو يقول ....
ــ وهل تظنين نفسك نسراً ؟
حينها بكيتُ طويلاً .... فكم من الوقت يمضي إلى أن أتحول إلى نسر ... لكنني لستُ من النوع الذي يرضخ بسهولة لمثل هذا الكلام ، عقلي بات كداينمو يدور ويدور ، لم لا نؤلب الدجاج كله ؟! ربما يكون طريق الخلاص ؟ .... من يومها جرت محاولات لتعبئة التمرد ، حاولنا مراراً إثارته هنا وهناك ، لكن الإحباط كان نصيبنا في كل مرة ... فالدجاج قد تعود هذهِ الحياة ولا يقبل التغيير ... والغريب في الأمر إنه حتى حين يحاول الرجل إصلاح بعضاً من شأننا لغاية في نفس يعقوب ، لا يتقبلها معشر القوم ... وأذكر في صغري بأنه في إحدى المرات استخدم الرجل طريقة جديدة في تقوية قشرة البيوض التي تتكسر حين تقع على الأرض بحيث وضع الملح في الدخن الذي نتناوله بدل الكلس الذي نحاول انتزاعه من الحائط ، رفض جميع الدجاج هذا الأمر ، واضرب عن الطعام ! لقد تعود مذاق الكلس ولا يرغب في إبداله بمذاق الملح اللذيذ ! ....

(4)
كثيرة هي القصص التي دونتها في مذكراتي علني أنفس ما في داخلي من مآسي لا يشعر بها غيري ، هل كُتِبَ عليّ أن أنوب بالتفكير عن الجميع ؟! الكل غافلون عما يجري لكن الأبله الذي في رأسي يظل يدور بلا توقف ...
استيقظت في ليلة من ليالي الشتاء الباردة بسبب البرد القارص الذي كان يلسع جسدي ويجمد قدماي ! فإذا بي غارقة في رطوبة عفنة وتبن رطب ، من روث ، وبراز ، وذرق الدجاج ، زحفت بهدوء إلى مكان جاف لأقضي بقية الليل ساهدة لا أنام ، وكل دقيقة وأنا ألعن طريقة نوم الدجاج هذهِ ، في الصباح الباكر نهضتُ بسرعة لأصارح صديقة لي بالمشكلة ، حتى اتفقنا على أن نجمع البقية ونتكلم معهن بحل هذهِ المعضلة ، فمن الأفضل التعاون جميعاً في سحب التبن الجاف لصق الحائط وننام سوية اتقاء البرد طوال الشتاء ....
بعد لقاء الجميع ودون مقدمات قلت لهن بصراحة بالغة ، لنتعاون في حل المشكلة وأسهبتُ في شرح الطريقة الصحيحة ، بعض الدجاجات انسحبن بهدوء وكأن الشيء لا يعنيهن ، وقالت أخرى إن مكاني فوق الرف مريح لا أريد تغييره ، وأخرى قالت كل منا عليها أن تدبر نفسها ... صدمت للأمر وصرخت :
ــ لكن الأمر يعني الجميع ، ربما تمرض إحدانا ألا يجب درء هذا الأمر ومساعدتها ؟!
كان ذلك درساً بليغاً علمني أشياء لم أكن افقهها ... ألا تباً لك أيتها المخلوقات الأنانية الوضيعة ! ....

(5)
كنتُ مطرقة صامتة وإذا بإحدى صديقاتي واقفة على رأسي ، لا تريد إِيقَاظي عن أحلامي ، لقد اكتشفتُ أن لا أحد يستطيع أن يحل مشكلتك إن كنت أنت عاجزاً عن حلها ، لكنها ألحت بأن أفضفض عما بداخلي علني أرفه عن نفسي ، وسرى الحديث مذاهب شتى ، في النهاية قالت كصديقة نصوح :
ــ هل تظنين بأنه لم يجر التفكير بهذا الأمر من قبل جداتنا الحكيمات ؟ أما سمعت قصة تلك الجدة الذكية التي أرادت أن تتعلم الطيران لتقلد الحمام ؟ المسكينة اخترعت طريقة حرية بالتفكير ، طريقة نبيهة للتمرين ، في كل يوم تقفز من حائط ، ثم في اليوم التالي تنتقل إلى حائط أكثر ارتفاعاً ، وهكذا أخذ طيرانها يرتفع ويطول مرة بعد مرة ، ولمسافات أطول ! استمرت على هذا الحال لعدة أسابيع ، وفي آخر المرات حين قفزت من سطح البيت العالي في ليلة ظلماء كانت قفزتها أطول مما يجب ، لقد مرقت أبعد مما كان مخططاً ، فتلقفها فم ثعلب كان يشم رائحتها خارج الزريبة ، فلا تعيدي هذهِ القصة أرجوكِ أنتِ أيضاً ...
فصمت طويلاً لكلامها ... أيكون الهروب حلاً ؟! ولكن ما زالت أوراق إحداهن عالقة في الأذهان إلى الآن ! ...
ــ هجرنا أمس الزريبة البشعة كنا ثلاث دجاجات ، لكننا مع الأسف نمنا ليلة مخيفة في العراء جعلتنا نعود إلى جحيمنا في الصباح التالي ...
آه من الأحلام اللذيذة المفجعة ! وآه من قولة الآه ... كم تمنيتُ أن أكون نسراً ! .....
في صغري كنتُ أرى النسور تحلق ، لم أكن بادئ الأمر أحلم بالتحدث معها ، لكن قبل ما يقرب من شهر ، صادفني نسراً حط على سطح المنزل ، استدرجته للكلام ، تشعب الحديث بيننا ، كان حديثاً غريباً وشيقاً ، حقاً إن الحديث شيق مع النسور ، فمغامرتها عجيبة غريبة ملذة ، في نهاية الحديث قال لي :
ــ حتى وإن كان في مقدوركن الطيران ، لكنه سيكون على ارتفاع منخفض ، ولمسافة قصيرة جداً ، فلا تعقدي أمالاً كبيرة بالمساواة بالنسور ! فعبر التاريخ كانت النسور أكثر حكمة وأرقى الطيور جميعاً ....
سُدَّت كل المنافذ أمامي ، وكيف لي أن أهرب وأصغر كلب سيمزقني ! هل أتذمر فأكون أولى القرابين عقاباً على إشهاري بحقي ؟! .....
(6)
توالت الأيام ثقيلة كئيبة ، أفاقتني من كآبتي نظراتُ هذا الديك كان يسترق النظر ويتعمق في فضح نظراتي ! اعتقد إنه مزيج من الإعجاب أو الحب ، لكن لحد الآن لم أعرف نواياه ربما هو إحساس بالحب ، فالأنثى تحس بأية عاطفة يكنها الجنس الآخر ، ما كان يعجبني في هذا الديك إنه كان زاهداً في علاقاته مع الآخرين ولهذا دفعتُ نفسي إليه لأعرف ما يدور بخلده ، وما أدهشني أن مصارحته لي أتت بسهولة ، إنه ببسيط العبارة يريد الزواج مني إن أنا قبلت به ...
في هكذا موقف يستدعي التأني في التفكير ! إنها قضية تطال العمر كله ! ولكثرة ما أترصد مفاجآت من هذا النوع فقد أعددتُ لها حلولها وبدون تردد قلتُ له دون أية مقدمات :
ــ الزواج يعني الشراكة !!
ــ ماذا تعنين ؟!
فقذفتُ بوجهه كلماتي دون توقف ...
ــ المعنى في أشد وضوحه ، سنتناوب النوم على البيض حتى يفقس عن أفراخ ، فليس من الإنصاف أن أحرم نفسي واحد وعشرون يوماً من الخروج والأكل بوجبات سريعة مقلقة والنوم على البيض في مختلف الظروف ثلاث وعشرون ساعة في اليوم ومع ذلك الريش المنفوش الذي يعيقني من اللعب والقفز والحركة والمرح والتمتع بأوقاتي ....
كان يستمع إليّ فاغراً فاهه ، وما أن انتهيتُ من كلامي حتى صرخ مصعوقاً :
ــ هل سمعتم يا معشر الدجاج بأن ديكاً نام على بيض ؟ هذهِ منتهى الإهانة بل هدر لكرامة كل الديكة !!
ــ لا تصرخ ! لا تفضحنا ! نحن نتحدث بهدوء وسرية فلا تجعلنا هزءاً للآخرين ، ليكن ، وماذا في ذلك !
وأردفتُ :
ــ إنها مساعدة شريك لشريك حياته ... فقط أردتُ أن أصارحك بهذا ...
ظل فاغراً فاهه ، لا يستوعب ما الذي سأقوله ، فانتهزتُ فرصة اندهاشه البليد حتى أردفتُ وبنفس النبرة وبلغة التحدي :
ــ ليس هذا فقط بل أن نتقاسم تربية الأفراخ أيضاً !! ..
ــ تربية الأفراخ ؟!!
ــ نعم يجب أن نطعمهم كلانا سوية وبالدور !! ...
فعلا صراخه :
ــ ايا مجنونة ! هل تريدين كسر كل القوانين والأعراف والتقاليد ؟ أنا أسير أمام الأفراخ ؟ أنا أتوسل إليك أن تنوبين الدور بعدي ؟ أنا أسير خلفك ؟! أنا ...
فتركني غاضباً لا يعرف موقع أقدامه وهو يدمدم !! ..
ــ دجاجة مجنونة مجنونة !! ...

(7)
أحلامي أصبحت أكبر من حجمي ، تحول التفكير إلى قلق واكتئاب ، لم يعد بمقدوري حتى النوم فقد أصبح رأسي مطحنة صاخبة ... باتت الهموم تلاحقني من كل جانب ، والأرق يعذبني ليالٍ طوال ، أحلامي أضحت كوابيس خانقة ... رحمك الله يا جدي العزيز حين كنت تقول ... ** :
ــ الوعي جرثومة ما أن تدخل رأسك حتى تظل تنخر وتنخر إلى أن يحيلك جثة هامدة ــ
اللعنة على الوعي بالحال والأحوال ، اللعنة على الأحياء والأموات ! وعلى كل ذي جناح من الطيور والمدجنات .. أخيراً قررتُ أن أحفر أخدوداً في جمجمتي ! وليكتب على شاهد قبري بعد أن أموت ...
أيتها الدجاجة ! كوني بليدة لتعيشي سعيدة ! ...

* كونفوشيوس
** دستويفسكي
أعلى