إبراهيم أحمد الإعيسر - دراسة نقدية لرواية (سيمفونية الجنوب) للروائي والكاتب الصحفي التشادي (طاهر النور):

السودان - ألتي

السيمفونية هي (مؤلف موسيقي يُكتب في العادة لأجل الأوركسترا، وترجمتها في العربية هي الإنشاد الجماعي) وبمضمون محتوى الرواية هي الفرح، النشوة، الجمال، الحب، الرقص، السعادة، أو ((السلام)) محور رسالة العمل.. الجنوب المقصود به (جنوب تشاد). وهنا منذ البداية لم أتصالح كقارئ مع العنوان إن كان العنوان غير متصالح مع طبيعة رسالة العمل (السلام بين الشمال العربي (المستعرب) المسلم والجنوب الأفريقي المسيحي/ المتعدد الديانات التقليدية الأفريقية) خصوصاً أن الرواية بها تصوير دقيق طرح رسالته برمزيات ومجازيات أكثر من كونها رائعة من خلال صوت بطلة الرواية (مريم/مريام): وهي أن (مريام) تتعايش بسلام مع الطبيعة! مع الإنسان ((الآخر)) ، الحيوان ، الطيور ، السحالي ، الحشرات ، الأشجار.. أي في مفصل من السرد حينما شاهدت (مريام) جزع شجرة المانجو (مكسور) - والذي قالت عنه "لطالما احتضنني" صفحة رقم 86 - قامت بجلب حبل مفتول من السعف وبعض عيدان الجريد اللينة للملمته أو ترميمه.. أيضاً حين تشجارت (مريام) مع صديقتها (شينزون) وطلبت الأخيرة منها (السماح) سامحتها (مريام) على فعلها ببساطة أو دون تردد:
توقفت شينزون وقالت:
- حسناً أنا أعترف. هل تسامحيني؟
- أجل أسامحك
صفحة رقم 197

هنا الرسالة الواضحة المراد توصيلها من الكاتب (أن الإنسان المجرد عن الشر بفطرته (طفولته) لا يلحق من خلال ضغينته أو مشاكله مع الآخر خسائر في الأرواح، الدم.. بل هو متسامح بفطرته أم بعد ذلك يمكن أن يتحول في مرحلة بلوغ الوعي والرشد لشيء آخر..) وهذا ما تأكد في مقتل لاك تانيكه أو صاحب الأتان (الكبير العاقل) للطفلة (شينزون) نفسها..! أو ما يتأكد عموماً في فعل الحرب (الحرب لا يوقد نارها جاهل/طفل).

لكل ذلك تمنيت أن يكون العنوان ((محايداً)) وهو (سيمفونية الجنوب والشمال) أو (ذاكرة الأشياء الجميلة الحزينة).. لكن ربما أجد المبرر للكاتب من خلال ايضحات السرد الذي ورد فيها أن الجنوب هو السعادة والجمال والرقي.. (الجنوب ليس منفى ولا سجناً، إنه سيمفونيات سعيدة) صفحة رقم 321 والشمال هو الفقر والبؤس والقبح.. (عندما أعود إلى الجنوب، سأحكي لابنتي مريم، كيف أن الحياة صعبة في الشمال) صفحة رقم 320 وهذا ما يظهر نوعاً من ((إنحياز)) الكاتب المبرر.

أم بمختصر الحديث تحدثنا (سيمفونية الجنوب) برمزيات ومجازيات مدهشة: أن الإنسان يولد مجرداً من الأيديولوجيات والتميِزات العنصرية ثم يصبح بالتكوينات الإجتماعية شيئاً آخر: قاتل، مجرم، سارق، مغتصب، كاذب، منافق.. أو صالح التي تشمل كل ما هو صالح أو (خيري/خير). أو مثلما يقول الشاعر الجميل جبران خليل جبران (لَيتني طِفل لا يكبر أبداً ؛ فلا أُنَافق ولا أُُراهنْ ؛ ولا أكره أحداً ..!)

من منطلقات أو بدايات السرد يلحظ القارئ الحركة السريعة للسرد أو التنقل السريع ما بين مشهد وآخر ما بين بداية ونهاية أخرى مثل (رسم لقصة داخل قصة) ذلك دون أن يسهب الكاتب في تناوله لبعض التفاصيل المنسية من الرواية التي رغم أنها أتت بعدد 394 صفحة من القطع المتوسط، وأي ما أقصده بالتفاصيل المنسية هو الأحداث السياسية المتعلقة بالحرب الأهلية تحديداً أو ما يمكن أن نسميها ذاكرة الحروب - وهو ما كان يمكن أن تأتي أكثر من ذلك بكثير بحسب المحاور الأساسية للفكرة العامة للعمل - وعلى كل حال ليس ذلك بالأمر العيب الذي يخل بالعمل أو ينقص من قيمته الفنية إذ نجح الكاتب في الإحكام الجيد بعمليات السرد وفي التصوير الدقيق للزمكان والشخوص أبطال العمل الذين عكس عبرهم بعضاً من الخلفيات السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والاثنية للشعب التشادي دون تكلف لغوي قد يشعر معه القارئ بالملل - كم هو الحال عند كثير من الكتاب العرب المهمتين باللغة الشاعرية في أدب الرواية - ولعل هذا ما أبرع فيه الكاتب (طاهر النور) الذي أدهشني بلغته الرصينة كون أن خلفيتي عن (تشاد) هي أن شعبها يتحدث كثيراً من اللغات المحلية، 120 لغة أو أكثر، إضافة للعربية والفرنسية كلغات أجنبية رسمية، وهذا ما يجعلني أتسأل ما هي لغة الكاتب الأم!؟

عملية (الفلاش باك) كانت حاضرة بقوة وقُدمت بحرفية عالية في كل الأحيان وهي ميزة أيضاً برع فيها الكاتب بذكاء وإحكام عالي دون أن يسقط سهواً ليخلق حالة من التناقض في مجرى الأحداث المترابطة بدقة مدهشة، لتعطي بذلك للعمل تصور سينمائي ماتع ومشوق وهذا ما يخلق ظن في نفسي بأن للكاتب حس سينمائي عالي، مع معتقد مطلق بأن يمكن للعمل أن يحول لعمل سينمائي قادر على أن يحتل مكانة مرموقة بين السينما العالمية..

كنت أتوقع أن تظهر أصوات راوية أخرى بخلاف (مريام) مثل صوت (ماما مانديلاد) لتحكي بنفسها بعيداً عن الراوي العليم (مريام) بطلة العمل أو الأهم عندي هو أن يكون هناك صوت لطرف (جنوبي) لنسمع من الطرفين إذ كانت (مريام) الراوي العليم (شمالية) والصراع هو صراع الجغرافيا أو في الأصل هو صراع الأثنيات والثقافات والأديان.. لكن يفأجنا الكاتب بصوت راوي آخر هو والد (مريام) ولاك تانكيه (صاحب الأتان) والزعيم أو (زعيم القرية) إن كنت دقيقاً.. وهي محاولة واضحة من الكاتب لابداء رأيه السياسي ((المنحاز)) عبر صوت الراوي (العاقل) إذ كانت (مريام) في سن العاشرة من العمر ليس من (المعقول/ الطبيعي) أن تخوض في أمر السياسة، لكن دون أن ينتبه الكاتب للخطأ الذي حاول تفاديه عاد لإعطاء (مريام) صوت سياسي (يقال أن عمها ألادوم، وهو رجل ينتمي إلى الحزب الحاكم، ويحتل منصباً صغيراً في فرع الحزب، بمدينة مندو..) صفحة رقم 138 - 139 وذلك ما لا يغفر له إلا ما لم يكون الحديث من ذاكرة الطفولة وفي حاضر (الوعي) أو أن ما كتب كتب بمحبرة ماضي الطفولة..
ربما هذا ما يقودني لسؤال مهم من حيثيات (وحداوية) الرأي السياسي (المتحجر) عند الغالب من النخب وكتاب الرأي السياسين الأفارقة: لماذا خلق الكاتب الصورة (الإعتيادية) لمشكلة الصراع الأفريقي (القبلي، الديني، الثقافي..) بتحميل السلطة سبباً مركزي أو محوري في إختلاق الحروب وأن الشعوب (المدنيين) فيما بينهم يعيشون السلام مثل (مريام) تعيش بمحبة وسلام مع الأم (ماما مانديلاد) والخالة جوجوانا وصديقاتها الجنوبيات (كيومو، ديبانتي العرجاء، شينزون، وميندا..) ومع الطبيعة حتى التي تتعايش معها هي الأخرى بسلام!؟
أعتقد أن لعنة أفريقيا الأولى والأخيرة هي في الغرب (فرنسا الإستعمارية) تحديداً والوكلاء الاقليمين والخونة من داخل (الوطن) الذين يعملون خداماً رخصاء لصالح الغرب (فرنسا الإستعمارية / أمريكا الرأسمالية الإستعمارية) على وجه التحديد لتنفيذ أجندته التي لا تخلو من كونها تعد نوعاً من أنواع الإستعمار الحديث التي في غباء وإفتقاد للنفوذ أحياناً يخضع لها الواقفين بين موقع إتخاذ القرار من الدولة؛ كالخضوع لروشتة صندوق النقد الدولي (صندوق الشيطان) مثلاً.
وأي الغرب الذي إستطاع أن يدخل لأفريقيا عبر جسر (التركيبة السكانية المعقدة لشعوب أفريقيا) لهذا قد نجد من العادة أن طبيعة الحروب فيها (قبلية، دينية، ثقافية، عرقية..)!.

ولعل ذلك ما يخلق سؤال يجب أن نجيب عليه من أين يأتي تمويل المتمردين!؟ من الذي يصنع ويمد بالسلاح لأفريقيا!؟

الحرب التي إندلعت في تشاد 2008 الداعم المباشر للمتمردين كان هو حكومة الخرطوم، والداعم المباشر للمتمردين في حرب دارفور 2003 كان هو حكومة إنجامينا، أم المخطط المركزي الذي يضع مخزونه الأستراتجي الأقتصادي في أفريقيا هو الأطراف (الغربية)!

وما يأكد ذلك عبر التاريخ البعيد سوف نجد المتهم الأول في مجزرة (كُبكُب/الساطور) 15 نوفمبر 1917 الشهيرة في تشاد هو ((فرنسا)). فليس هناك من عدو متوحش ولعين جعل من أفريقيا (بؤرة للفقر والجوع والحرب والموت المجاني..) أكثر من دولة بنت نفسها من أفريقيا أسمها ((فرنسا)) دولة جلعت حتى من الفنون الفلكلورية الأفريقية إقتصاداً لها؛ في سرقتها لها وعرضها في المتاحف الباريسية التي تجني منها سنوياً ملايين اليوروهات، دولة تتحكم بمصير 14 دولة إفريقية في كيفية إدارة الحكم فيها في هذا الحاضر، لا تؤتمن.

ففي معتقدي السلام الحقيقي تصنعه ((فرنسا)) وتلك الوحوش (الإستعمارية) التي تتغذى على الثروات الأفريقية بذكاء الإنسان الذي يسكن بداخلها، وأدواته الحربية التي مع حاضر الزمن وتقدمه - الذي بالمقابل يتقدم معه (العلم) - لا أحد من عالمنا الثالث المتخلف يستطيع مجابهتها، فمن الجنون أن تعناد أو لا تخضع لرغبات إنسان يمتلك كل مقومات الحرب أو المقومات الرأسمالية التي أصبحت في حد ذاتها سلاح يحكم العالم الآن، وفي ذلك ومن الواضح (أمريكا) نموذجاً، (أمريكا) التي إبتكرت فكرة (صندوق الشيطان) لخدمة مشروعها الرأسمالي حول العالم.

لا أريد أن أخرج كثيراً عن موضوعيتي. أعود إلى الأصوات الروائية المتعددة في السرد أو تحديداً إلى صوت والد (مريام) الذي أفرض له الكاتب مساحة واسعة ليخلق به الوجه الآخر (الشمال) مستخداماً أسلوب المنولوج بصورة بديعة تظهر المقدارت الكبيرة في السرد عند الروائي (طاهر النور) الذي أيضاً أشير إلى جانب مهم أو ميزة مهمة برزت عنده وهو موهبته الفذة في تصوير البعد الشخصي (الذهني والفكري والنفسي لشخصيات العمل) وهو ما تجلى خصوصاً في شخصية (مريام) إضافة للنفس أو الصبر الروائي الطويل في إخراج المشاهد (بحيوية) أو (واقعية) تجعل من العمل يأخذ مصداقيته أمام القارئ ومعايشته الحية كذلك للأحداث التي صورت بدقة متناهية أو غاص فيها الكاتب في (تفاصيل التفاصيل)، لذا أتوقع من كل ذلك أن يكون (طاهر النور) واحداً من رواد الأدب الروائي في تشاد، أضف إلى أنه سوف يأخذ حيزه من موقع العالمية إن لم يكن الزبون الدائم للقراء (الفرنكوفونيين) في حال حظيت أعماله بالترجمة للفرنسية.

مات حامد أو والد (مريام) في الشمال ومات أونكل موسى في الجنوب لتأتي الخاتمة متصالحة تنشد علينا السلام: أن يجب علينا أن نبقي الموت للزمان ليخطفنا بالكوليرا بالملاريا وبالطاعون.. من هذه الفانية التي لن تدوم لنا بطبيعة الكون، أو أن لا نستعجل الأقدار في أن تكون البندقية هي التي تخطفنا بهذه السرعة الفيزيائية.

ومن لا يألف الناس لن يعرفهم على حقيقتهم، بل سيبني حقيقته الذائفة من ضغائن ولدت من رحم الأحداث العامة المنتفخة بالمعرفة الخاطئة؛ أي تقول (مريام) لعمتها سليمة: سأعيش حيث تعيش ماما مانديلاد، وأخي يعقوب. وكيومو. سأموت حيث مات أونكل موسى، وصديقتي شينزون.
هذا ما قلته لعمتي، عندما قالت مشمئزة: كيف تعيشين مع السارا ومع الكردي.
وعندما سئمت مني، تركتني، وعادت إلى الشمال.
أعلى