انتصار بوراوى - يوميات قارئ شغوف

حين تقرأ كتاب "يوميات قارئ شغوف" فلن يمر معك مرور الكرام و ذلك ليس لأن مؤلفه هو الكاتب الرائع "البرتو مانغويل "بل لأنه كتاب هاجسه وولعه وعشقه هو عن العشق والوله بفعل القراءة، فالروائي والكاتب البارع مانغويل يتجول بالقارئ في رحلة كشف معرفية لذيذة رفقة أجمل الكتب التي قرأها وخطط لقراءتها طيلة عام كامل من القراءة حسب جدول وضعه لنفسه رفقة عناوين حددها للقراءة.

يأسرك هذا القارئ الشغوف العاشق لمتعة القراءة لأنه يقرأ بمحبة وعشق لمؤلفين أحب كتاباتهم ويحلل كتاباتهم بطريقة تذوقيه جميلة هي أبعد ما تكون عن القراءة والتحليل الأكاديمي الجاف، الذي يخلو من متعة الدهشة ومتعة القراءة في حد ذاتها تنفيذا لخطوات اكاديمية علمية صرفة او كما يقول في بداية مقدمته للكتاب " القراءة عبارة عن محادثة، تماما مثلما يبتلى المجانين بحوار وهمى يتردد صداه فى أذهانهم، فأن القراء يتورطون ايضا بحوار مشابه أثناء قراءة الكتاب.

ثم يذكر مانغويل السبب الحقيقي لتأملاته في مقطع أخر من الكتاب بقوله" قبل سنتين مضت وبعد بلوغي الثالثة والخمسين قررت ان أعيد قراءة كتبي القديمة وقد دهشت مرة أخرى حين لاحظت كيف تبدو هذه العوالم المتراكمة والمعقدة من الماضي انعكاسا للفوضى السوداوية التي يحياها عالمنا المعاصر"

فمانغويل لم يقرر قراءة كتب جديدة ،بل كتبه القديمة التي قرأها في مقتبل عمره ليسبر غور تغيرات التاريخ والنفس الانسانية ،من خلال تراكمات تلك الكتب التي اختار ان ينتقيها مختلفة بين الرواية وأدب الرحلات والسيرة والتاريخ والفلسفة ايضا فهو كقارئ انتقائي ليس أسير معرفة ،واحدة وليس هناك أجمل من أن تكون انتقائيا في قراءتك فلا تحصر نفسك، في جانب قرائي واحد قد يمنع عنك عمق الرؤية ووعيها وشموليتها ،ويفقدك كقارئ الوعى الجمالي الهائل التي تمنحها لك القراءة الانتقائية التي تعبر عن روح حرة منطلقة في فضاء المعرفة الانسانية .

تلك هي المطارح التي تأخذنا اليها تأملات مانغويل من خلال كتابه الجميل والدافئ والرائع "تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة “فهذا الكاتب المبدع والقارئ المتذوق يتحسس الجمال بكتبه، غائصا في مكامن الجمال بها وناقدا لبعض سطحية بعضها الذي اكتشفه بعد عمق القراءة ومرور الزمن كما يقول في هذا المقطع من الكتاب:

"هناك كتب تتصفحها بمتعة ناسيين الصفحة التي قرأناها ما أن ننتقل الى الصفحة الثانية وكتب نقرأها بخشوع دون ان نجرؤ على الموافقة أوالاعتراف على فحواها وأخرى لا تعطى سوى معلومات ولاتقبل التعليق، وهناك كتب نحبها بشغف ولوقت طويل لهذا نردد كل كلمة فيها لأننا نعرفها عن ظهر قلب "
وكعاشق متيم يتحسس الجمال ويعرف أين مكانه، ويدرك شعاع الماسة الحقيقية عن المزيفة لهذا يكتب مانغويل ويتحدث ،عن علاقته بالكتب كما لو أنه يتحدث عن بشر من لحم ودم وهو نفس الإحساس والشعور الذى يراود كل عاشق متيم بالقراءة نحو الكتب
يشبه مانغويل علاقة المغرومين بالكتب وقدرتهم على تمييز الكتاب الجيد من الكتاب الرديء بإحساسنا بالبشر تماما في علاقتنا، معهم فثمة أشخاص يلفحونك بوهجهم المعرفي الذي قد يثير داخلك الأسئلة، والنقد والمحاورة وثمة أخرين لا تملك أمام معرفتهم سوى الإنصات فقط، وثمة أخرون لا يضيفون شيئا لك .
فالكتب كالبشر تماما والقارئ الذي يمتلك حاسة القراءة الجيدة هو الذي يتعامل مع الكتب كما يتعامل مع البشر تماما او كما فعل مانغويل في تأملاته الشغوفة بالكتب فهو حين يعيد قراءة كتاب قرأه منذ سنوات طويلة فأنه يفتح خزانة الذاكرة على غرف الماضي الذي تفوح عطره الدافئ من خلال استحضار قراءته الاولية لكتبه، وحين يتحدث في الفصل الرابع من الكتاب عن أول مرة قرأ فيها كتب شرلوك هولمز مستذكرا تلك القراءة، برهافة وذاكرة حساسة لا يستذكر فحوى القصص فقط بل يتحسس ذكرى المكان والزمان ورائحة الماضي الذى لا يستسلم لطغيانه من خلال استعادة قراءة كتبه القديمة بل يقوم بكشف نفسى وتحليل لمغزى شغفه بهذا النوع من الكتب أوتلك ثم يسخر من قراءته الاولى لقصص شرلوك هولمز متسائلا عن السبب الأول لشغفه بها فى بدايات تأتأة عشقه للقراءة وهو نفس السؤال الذى يلوح لنا كقراء حول مغزى افتتاننا الأول بقراءة الكتب البوليسية فى بداية تهجينا للقراءة وهو مايسميه "أدب الهراء العظيم " فى لمحة ساخرة وناقدة لقراءته الأولى لها .
لا يتجول كتاب مانغويل في قراءته وتأملاته حول الكتب فقط بل يربط كل ذلك بيومياته الحياتية والأشخاص الذين يقابلهم ،من كتاب وأدباء يحاورهم حول الكتب التي يتشارك معهم قراءة نفس الكتب ، وكما لو أن الكتاب هو رواية سيرة ذاتية لعاشق مغرم مفتون بالكتب يسجل تأملاته بمتعة يشاركه فيها أصدقائه من الكتاب وايضا ملتقطا بعض العبارات الدالة لروائيين وفلاسفة ومفكرين من مختلف أرجاء العالم يضيفون بشهاداتهم عن معنى وكينونة الكتب والقراءة في حياتهم .
ومن أجمل العبارات التي يوردها الكاتب مانغويل بالكتاب هي مقولة للروائية " مرغريت يوسنار" تتحدث فيهاعن الكتب ودورها فى حياتها والتي تقول فيها :

" المكان الاول لولادتنا هو ذلك المكان الذى نلقى فيه لأول مرة نظرة ذكية على انفسنا ..موطني الاول كان كتبي "

ولكن مانغويل فى نهاية الكتاب يعترف بان أصدقاء ورفاق القراءة هم قلائل جدا لا يتجاوزون الأحدى عشر من رفاقه المولعون مثله بالقراءة.
وفى لغة شاعرية رقيقة يسرد الكاتب محبته للحياة أيضا في تفاصيلها الصغيرة التي قد تلوح امام البعض كأمر عادى ولكن مع كاتب مثل مانغويل لاشىء يمضى ولاشى عابر ، بل أن كل ما حوله خلق للتأمل والعيش في جمالياته بسعادة حتى لو كان تذوق لفاكهة مشمش الذى يبدو فعل عادى ، ولكن هذا الفعل بالنسبة لكاتب يتمتع بحاسة جمالية عالية هو فعل في منتهى السعادة و يلفتك كقارئ هذا المقطع الحميمي من أحد فصول كتابه حين يسرد ويعدد الاشياء البسيطة اليومية التي تمنحه السعادة حين يقول :" المصادفات حتى المثارة عن عمد ،فرصة لقاء صديق لم أره منذ زمن طويل ،مذاق المشمش العثور على كتاب كنت أبحث عنه ضوء الغسق في هذا الوقت من السنة ، صوت الريح في مدخنة المنزل ، الهدوء التام والظلام قبل الاستعداد للنوم ، كل هذه هي لحظات غير متوقعة من السعادة "

وبعد ان تكمل قراءة كتاب مانغويل قد تغمض عيونك مستحضرا عناوين قراءتك الاولى متذكرا احساسك الأول بها، ولكن ربما لن تجد الوقت الكافي أو الراحة والجو المحيط بك الذي يساعدك على القيام بنفس خطته التأملية فى اعادة قراءة الكتب التي فجرت الاسئلة بداخلك، وربما ساهمت في ان تجعلك دائما أسيرا لهذا العشق الذي لا فكاك لك عنه أبدا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى