إبراهيم الحجري - القصبــة

كان الوقت ظهرا , وكان الأصدقاء الثلاثة مازالوا يسيرون رغم التعب الذي بدا عليهم, يمكنك استخلاص ذلك من العرق الذي بلل مناكبهم ورؤوسهم وبذلاتهم الرمادية, وكذا اعتمادهم على أيديهم من حين لحين, وبالرغم من أنهم قاربوا شجيرات الطلح لم تخطر لأحدهم فكرة الاستراحة تحت ظلها .. فقد كانت أبصارهم مصوبة نحو أعلى الجبل حيث تنتصب القصبة الشامخة منذ قرون كما لو أنها تتطلع في خشوع إلى موكب نجوم يهوي نحو الأرض . قال أحدهم وقد أحس كأنما الدم بدأ يسيل من قدميه, حيث تقوس قليلا ليكتشف أن حذاءه قد تمزق: ما هذا الأزيز؟؟
وقد اختلف الثلاثة قال أحدهم واسمه ( العربي الروث ):
– إنه صوت الصرار وهو يعزف على كمانه الأسطوري…
وقال الثاني واسمه (الجيلالي الزغودة )
– إنه صوت أغصان الشجر وقد استبد بها العطش وقال الثالث و اسمه (ولد الشرقاوية ):
– إنما هو خليط أصوات عفاريت سيدنا سليمان ذكرنا السمن والعسل وطلبوا التسليم و قولوا الله يستر )…
رمقه الزغودة بعينيه الغائرتين معلنا تأففه من تكهن ولد الشرقاوية حيث صرخ في وجهه بعد أن أعاد شد حزامه حول بطنه المنتفخ:
– (أنت حاو آش تعرف, عض فى المزرار و زميه ..)
ثم ران الصمت .. واحدودبت قاماتهم القصيرة كأنما تراهم يستعينون بأسنانهم وأظافر أيديهم .. و ما تزال المسافة كما لو أنها البداية.
الروث أو العربي الصولدي كما يسميه مجايلوه, رجل ضخم ينيف على الأربعين.. لم يرزقه الله السلالة الحلال .. و لما أيأسه الأطباء وضع ثقته في الشوافة ( حسنة ) التي تنبأت له بالخلاص على يد الولي الصالح سيدي لمنصر القابع ضريحه بالقصبة, و لم يرد ليضيع فرصة العمر.. ليس هناك من رجل يكره أن يكون له من يخلفه على ثروته حتى و لو كانت ضئيلة كثروة العربي الروث.
أما الجيلالي الزغودة فهو فقيه متمرس لم يسعفه الحظ في التجارة فدخل مجال الخرافة و السحر من برجهما العاجي .. و أخبره تابعه بوجود (الخبيزة) بأنفاق القصبة حيث كان النصارى يكنزون الذهب و الفضة , ولم يرد ليضيع فرصة استئناسه بالعربي الروث وولد الشرقاوية خاصة وأن الأخير ( زهري ) أي له خط فاصل في منتصف كفه, و هذا ضمانة أساسية لمساعدة الفقيه على طرد حرس الكنز جنا كانوا أم إنسا..
و لم يكن ولد الشرقاوية ممن يحددون أهدافا لرحلاتهم.. يكفي أن تقول له . هيا .. فيسبقك..
تبادلوا الزفرات و قد صعدوا التلة أخيرا, انتصب الجيلالي الزغودة قائما بعد أن تأوح ثم قوس يده اليمنى فوق حاجبيه ليقي عينيه من وهج الشمس ودون أن يلتفت إلى زميليه ركز نظره على هذه المِعْلمة التي تواتر الأجداد حكاياتها الراسخة في الأذهان, و بدا كأنما يحل شفرات الزخارف و الكتابة المنقوشة أعلى الرتاج المقوس .. و بعد أن لم تتضح له الرؤية اقتفى أثر صديقيه اللذين كانا قد ولجا القصبة !
قبل أن يطأ ظل الباب العريض المفصول يبدو أن الفقيه كان يقرأ شينا ما, اتضح ذلك ( و العهدة على الراوي ) من خلال حركة شفتيه المتيبستين اللتين تظهران بصعوبة تحت شارب دائري كث يشبه شارب قِط.
بعد خطوات من الباب توقفوا جميعا .. سرحوا بأبصارهم يتفحصون الواجهات والقبب و الجدران الكهلة .. بعضها لازال مكابرا و البعض الآخر تداعى إلى الأرض بعد أن خارت قواه ، و مع ذلك ما يزال يحفظ بعض أمجاده كأنما يتطلع هن جديد إلى النهوض ..
في العيون الستة الجاحظة نتيجة شرب ( الكيف ) و تناول ( الماحية ) انعكست العظمة و شب في المآقي حريق الدهشة الكبرى ، و راحت الحناجر المشرئبة تتنحنح وهي تتطلع إلى الأبراج الشاهقة التي تقارب السحاب.
تاه بهم التجوال بالعين .. فأطلقوا سراح أرجلهم المتعبة تترجرج واطئة التربة و الحطام بحذر . قال ولد الشرقاوية و قد تعثر بحجر ناتئ :
– احذروا الحفر و الحجارة .. إنها كالسكاكين الحادة..
نظروا إلى أعين بعضهم في صمت, ثم قصدوا الجهة الشرقية وصعدوا البرج حذرين يتقدمهم الجيلالي الزغودة الذي يفتخر بكونه حافظا للقرآن مما يجعله لا يهاب جن وعفاريت سيدنا سليمان…
القصبة فارغة تماما .. تبدو كأحياء خربة داهمتها غارة عاصفة.. ومع ذلك كان الثلاثة يسمعون أصواتا تطن مثل فرقعات سنابك الخيل ممزوجة بصخب يشبه دقات المهارس وهديل الحمام , صاح الروث وقد استبد به الخوف و اقشعرت شعيرات ذقنه القليلة:
– هيا يكفي .. يبدو الجسر و المصعد هشين يوشكان على الانهيار .. لنعد الآن ..
استدار الثلاثة مستكشفين خبايا القصبة الشاذة منها و الفاذة , خصوصا في الجهة الغربية , و اتفقوا على الافتراق ليقضي كل حاجته التي من أجلها قصد هذا المكان العتيق..
قال الراوي الأول:
– لم تكن القصبة عامرة كعهدي بها أيام العطل ومع ذلك كانت أصوات وروائح غريبة تنغل بها الزوايا والأركان.. وبدا كأنما الثلاثة يفرخون أشباحا كثيرة تهمس ويتردد صداها دون أن تظهر..
نزل العربي الروث الدرج واختبأ في مطمورة بضريح سيدي لمنصر حاملا معه سطل ماء ممزوج بالفاسوخ وحب السدر وشعر اليهودي وماء سبع آبار وماء سبع أمواج وذيل فارة الخيل وجلد الثعبان وبول العجوز العاقر.. وبعد أن أيقن أنه اختفى عن الأنظار اختار مكانا خاليا من الحشرات وتجرد من ثيابه حتى الداخلية منها ثم أفرغ عليه الماء وقرأ ما تلته عليه شوافة القبيلة والتي يقصدها الناس من كل فج عميق , ولما تأكد أن الماء بلل كل جسده لبس أسماله الرثة ثم صعد الدرج ومازالت قطرات الماء تتصبب من أطرافه وشعره , وسمعته كأنما يشدو بنبرة حزينة:
الطير الطير ما ظنيتو يطير بعد ما والف ..
خلا قفصي وعمر قفص الغير رماني في بحور خلاني تالف
حينها كنت أبتعد..
وحكى الراوي الثاني الذي يبدو أنه لا يعرف الراوي الثالث .. ولا حتى الراوي الأول :
استعان الجيلالي الزغودة بولد الشرقاوية وقصد الأنفاق السفلية المؤدية إلى عرصات الليمون والتفاح بجانب النهر الكهل . وكان ولد الشرقاوية يتبعه في زهو يشوبه خوف مما سمع عن الجن والعفاريت . قال يسأل الزغودة وقد أعاد لف سلهامه حول أطرافه كأنما أحس بقشعريرة برد مفاجئة مستعينا بنبراس يدوي:
– أسمع صهيلا وصفيرا وجلبة ..ألا تخاف أن يتهدم علينا النفق . ولم يجب الزغودة . كان باله مشغولا بأشياء أهم…
كانت القصبة لحظتها تنام تحت وطأة الحر, تنام مثل الصقر الميت بين ساحاتها وقد تجاذبته جحافل النمل والديدان .. الصقور شريفة , شديدة الأنفة , لذلك فهي عندما تموت ترفض أن تستكين إلى الأرض, فتلبث حيث القمة الشماء ترقب الكون هن فوق حتى وهي تموت…
رمى الزغودة حبات القمح البوري وراح يقرأ ويقرأ بصوت مسموع .. كلام لا يفهم .. دون أن يرفع عينيه إلى ولد الشرقاوية الذي تشاغل بتأمل مسالك النفق . وبقامة محنية كانت عيناه تجوسان الجدار علَّهما تظفران بنقوش أو رموز, غير أنه انتفض على غير هدى لما صاح به الزغودة بلغة آمرة:
– احفر هنا .. ماتتكلمش أبدا حتى ولو رأيت بوعو…
ولم تعد تسمع سوى طقطقات المعول وغمغمات الزغودة وهو يغرد بصوت تشوبه غنة واضحة , يتردد عبر الهاوونات ليصل إلى مسامع العربي الروث الذي مازال يعرض جسده البليل لأشعة الشمس كي يجف ماء الفاسوخ.
تغيرت أصوات ارتطام المعول بالأرض الصمة , فأصبح له طنين يدل على وجود إناء حديدي , وتألق في عيني الزغودة وميض خاص لا يعرفه سوى من رأى طبقا من الذهب مثل الذي رأى ولد الشرقاوية حينما بهت وصاح من الفرح .
– وامولاي ..ذهب !!
أما الراوي الثالث فاستطرد:
عند آذان الفجر سمع أنين الزغودة الخافت فوق كومة تبن ببيدر ولد الحاج المكي ..أما ولد الشرقاوية والعربي الروث فلم يعرفا ما الذي جرى لهما حينما وجدا أنفسهما وسط سوق شعبي بعيد عن مقر سكناهما بمسير يوم كامل .. يقال إن عفاريت القصبة رموهما هناك والله أعلم !

إبراهيم الحجري

نهايات لحلم وحيد (قصص قصيرة)
أعلى