د. سامي عبد العال - الإلهُ على ورقةِ دولارٍ

تعبر العملات النقدية عن كم التحولات التي طرأت على فكرة المُقدَّس في أذهان البشر. لقد امتصت بعضُ العملات كماً من ( التقديس الدنيوي ) في كيانها الورقي كأنَّها مكتوبةٌ ومدموغةٌ عبر طقوسٍ غير معروفةٍ. وهي كذلك بالفعل ( مثل أوراق الدولار واليورو) في جميع تفاصيل إخراجها إلى العالم، من مرحلة صناعتها إلى سكها ورواجها ثم تداولها، لدرجة أنَّه يكاد يتشممها البشرُ ويتحسونها ذوقاً وحسَّاً من وقتٍ لآخر، كأنّها تجلب إليهم السعادةَ كل السعادةِ. وقد حرصت الدول بهذه الصناعة النقدية على استخدام ( أوراق خاصة وعبارات وأختام وخطوط وعلامات ورموز وأيقونات ) تدل على هكذا معنى، وإلاَّ فلماذا تحتل هذه العملات مكانةً ليست بالقليلةِ لدى متداوليها؟! وعلى خلفية ( سك ) العملات ظهرت كلمات مثل: الأصل والقيمة والقوة والقدرة والحقيقة والثقة والمكانة والتراتب ... وهي مصطلحات تختلط وتغيمُ فيها نبرات ( الميتافيزيقا والاقتصاد ).

شعار واعتراف

" نحن نثق في الله " In God We Trustشعارٌ واعتراف ( ميتافيزيقيّن ) تحملهما ورقة الدولار. هي كلمات تنقل معنى سيقصد لاوعي المتلقي أثناء تداول العملة النقدية الأمريكية. فهي شعار من حيث كونها ترسل رسالة حيال قوة النقود والتصرف بها في الأسواق، واعتراف من زاوية أنَّ هناك قوةً أكبر يمكن ايجادها بهذه الورقة المحدودة ( فئة الدولار الواحد). كأنَّ معنى المقدس ( عطية عولمية ) تُزيد مخزونَّه الافتراضي نتيجة التداول الرائج. ليست دوراتُّ النقود الاقتصاديةُ داخل أقبية البنوك والبورصات سوى ( وُعود وآمال وتراتيل) لأشباح خلال ممارساتنا اليومية. كل عُملة نقدية تحمل شبحاً لمقدَّسٍ ما بحسب (طبيعة دلالتها ) في الثقافة الأم.

هكذا ستكشف العملة النقدية: كيف ينتج معنى المقدس نفسه عائداً من بابٍ خلفيٍّ. أي ظهور أطياف الدين في نسختها الدنيوية والأرضية. فالدولار تاريخ لوشم كتابيِّ يماثل أساليب تدوين الأوراق المقدسة والسرية في غابر الأزمان. لقد شَرَّعَ الدولار عبر العولمة لاهوتاً( لاقتصادٍ دينيٍّ- سياسيٍّ) دون إلهٍ رغم ( الاعتراف السابق بالثقة والايمان بالله). على الأقل تطرح العولمة سؤال الإله وصوره من جديد في تعاملات الناس اليومية. فقد ترسم العملاتُ النقديةُ آفاق الإنسان الراهن ورؤاه الحياتية والكونية، وقد تحدد ماذا عليه أن يفعل، وماذا عليه أن يخطط لمستقبله، زكيف يرى الآخر، حيث كانت تلك العمليات وظيفةَ المقدس والأساطير وأنظمة المعرفة قديماً.

لكن امبراطورية أمريكا تؤكدها بأظافر الآلة العسكرية والتوحش التقني ونهم الأسواق العابرة للقارات. وطبقاً لاحتياجه العولمي، عادة ما يحقق الدولارُ فائضاً ربحياً قبل الحصول عليه. لأنَّ رأسمالاً يُتداول بلا حدودٍ لهو دعوة لصفقات غير بريئة باسمه. مثل تجارة السلع الافتراضية ومافيا السلاح وتجارة البشر واستثمار حروب الأديان وتمويل الجماعات الارهابية واقتصاديات الأرض الموعودة. مما يدعونا للتساؤل: بأيِّ صيغةٍ ينكتب المقدسُ على أوراقٍ ماليةٍ؟ هل يأخذ المقدسُ قوةَ النقدِ أم أنَّ نقداً سيأخذ سلطة القداسة؟

الأسئلةُ السابقةُ تجر معها أسئلة أُخرى: هل دلالة الإله حقاً موضعُ ثقةٍ فوق ورقة متداولةٍ (نحن نعرف كيف تستعمل وتجلب أرباحاً )؟ كيف سيبقى الإله كرصيدٍ اقتصاديٍّ خلف كل عمليةٍ؟ هل هناك ثقةٌ مجانيةٌ ( بضمان ميتافيزيقي ) في أيَّة عملة نقديةٍ؟ وهل يمثل الله رغبة اقتصادية كنوع من التطهر السياسي لدولةٍ هي الأشرس؟ بأي معنى ينشأ مصطلحُ "الثقة" في مستنقع العولمة؟ وإذا كنَّا في الله نثق، فهل المجاعات والحروب القذرة التي يحركها الدولار تمثل أيضاً ثقةً في الله؟!

هنا سنقرأ عبارةَ الدولار ( نحن نثق في الله ) ككتابةٍ لمقدس دنيويٍّ جديدٍ. إنَّها ظاهرة غير دينية، لكنها توظّف كلَّ دين وأيَّة ذخيرة ميتافيزيقية لتحقيق المآرب والمصالح. ذلك يعرفنا ماهية الثقة العابرة للحدود والقوميات المتعلقة بالعملات النقدية. وما إذا كانت ثقةً مطلقةً بخلاف القيمة التي يحتلها الدولار أم لا؟!

الإيمان النقدي

في أحد جوانبه يعدُّ المقدسُ اقتصاداً ميتافيزيقياً يخضعُ للتداول في ورقةٍ هي الأشهر. ولئن قصدت منحَ الثقة لله، فالثقة ليست ذاهبةً إلى كائن متعالٍّ. الأسواق تعتبرها صفقةَ استثمارٍ طويل الأمد في ثرواته الاعتقادية. كل تجارة يتوسطها الدولار بهذه الثقة لهي بيع وشراء بضمان أشبه بالمراهنات. فأمريكا التي تحدد معنى الإله برجماتياً هي التي تطلب من البشر المراهنة عليه بشكلٍّ غير برجماتي. فالورقة تكتبه ضمنياً مع دلالة قبضه ومنحه (القبض والبسط) بالثقة والإيمان الإقتصاديين في مناطق العالم. وبخاصة أنَّ ( المقدس ) لا يتجنب إمكانية الطرح كسلعةٍ هذه المرة. لدرجة أنَّه قد ينتقلُ لطرفٍ من أطراف التجارة استناداً إلى سلطةٍ خفيةٍ. ذلك بنفس الضمان الميتافيزيقي لمتنه التاريخي كموضوعٍ يُفتّرض أنَّه خارج التلاعب به. لكن المفاجأةَ: أنَّه حينما يتابع المستثمرون تلك السلطة، لن يجدوا غير صندوق أسودعنوانه أمريكا بكل تاريخها الرمزي والاستعماري أيضاً.

البرجماتية تترجمُ المقدسَ في لعبة تداولية تعصف بأيِّ شيءٍّ أمامها. فإذا كانت الديانات تعتبر المقدس محظوراً، فالدولار يطرحه على مائدة الصفقات المشروعة والقذرة معاً. الإله المقصود ليس إلاَّ ربحاً ضمن الأرباح المحتملة، هو أحد مكاسب الصفقة ومن ضمن حزمة التداول. فالعلاقة المتعالية معه غدت علاقة طافيةً، لم تعد رأسية( إلى أعلى )، لكنها مرنة، مسطحة إلى أبعد مدى. وأحياناً تكون مشبعةً بالألعاب البهلوانية التي تقوم بها امبراطورية أمريكا في السياسة والاقتصاد. كأنَّها تهتف: انظروا هكذا نُصنِّع لكم القداسة يومياً في المتاجر والملاهي والحروب والصراعات. لقد تحوّل معنى الاله إلى خبز يوميٍّ (لنأكل خبزاً معاً: أي الربح وكسب النقود )، فيدخل من حينه كمادةٍ في الرق والمخدرات والجنس والاغتيالات والعمليات المخابراتية. فالدولار حاضر غائب كحال أمريكا بطول العالم وعرضه: هذا القناص العولمي الخفي - المتجلي، البعيد - القريب، الخيّر - الشرير، الوديع - الشرس. أليس ذلك دأبها المراوغ في أحداث الشرق والغرب على السواء؟

التقاطع بارز بين تسييس الإيمان إزاء المقدس ولو كان دنيوياً إلى درجة السياسة وبين قوة تتوحش تقنياتها المدنسة اقتصادياً. لتغدو على أثره سياسات أمريكا معبرة عن ألوهية مختلفة. إن أمريكا في أحداث بعينها مرت بالعالم تدعى الألوهية فوق رؤوس الشعوب وتحدد قدراتها ضمن التناول الاعلامي ووسائط الصراع. كانت الثقة - كما سنرى- نقشاً للاهوت العولمة بجميع طاقاتها المعرفية والعسكرية والاقتصادية. والفلسفة بصدد هذا لا تحدد مقدارَ القوة المفترضة أو المزعومة، لكنها تحلل مواقف تضخمها إزاء سياق التفكير في النسبي والدنيوي. فكيف تشتغل دلالة الله داخل امبراطورية الشر كما يُقال على جسد ورقة خضراء؟ وأيَّة رغبةٍ تلك التي تلوي أعناق جميع الحقائق لتفعل ضد ما تزعم؟

ورقةُ الدولار هي اشكالية الشر باسم المقدسات ضمن الآفاق السائدة في المجال الدولي. أمريكا أكبر قوة أصابتها لوثة التَّوحُش الأسطوري خلال تاريخنا المعاصر. فغدت مؤثرةً بوصفها رصيداً غير مادي ( وإنْ كانت كذلك ) وراء مكانة الدول والمجتمعات. الورقة المالية تعدُّ حلقةً في سلسلة امبراطوريات السيطرة على العالم. لم يكُّن ممكناً التوقيع باسم الله دونما احتلال مكانته في العالم. وأمريكا ترتبط بالتقديس السياسي المتجدِّد في تاريخ المجتمعات البشرية. فإذا كانت الديمقراطية شكلاً من أشكال " فلترة "filterization المقدس ( أي تنقية معناه وتحويله )، فإنَّها تسمح بإعادة هضمه ولو في إطار إنساني. أي هي تحاول انسنته في إجراءات وخطط تعطي المبادرة للفعل البشري.

ونحن أحياناً لا نفهم قداسةً مزعومةً في أغلفةٍ خارج نطاقها التقليدي. فالدولار يُواصل ممارسة طقوس الاعتراف والاقرار لكل من يعطيه ولاءه عولمياً. ومضمار الدين عادة مضمار يحمل آثار العنف من قبل المهيمنين عليه. والورقة النقدية امتداد لآثار المقدس كما نوهت. ولا سيما أنَّ الله، المعنى المطلق، الغاية، ... أشياء تأخذها السلطة قصداً دون سواها. وإلاَّ ما الذي يدفع قوة عولمية لجعل الله مصدراً لثقة هي تطلبها( حصرياً ) من الآخرين قبلما تمنحهم إياها جزئياً؟!

عولمة الإله

الإيمان المطروح على ورقة دولار هو موت نيتشوي آخر للإله. في مطلع الحقبة المعاصرة ردَّدَ نيتشه: " الإله قد مات " ليجئ الدولار معولِّماً المقولة على نطاق جيو سياسيٍّ. ولتصبح مقولة نافذة في اشعال الفتن وإزكاء الصراعات وبالوقت ذاته جني الأرباح. وليس كيان المقدس، غموضه، سلطته، أشياء تخبُو من أول وهلةٍ. لكنها تتراجع في مقابل هيمنة القوة الأمريكية على مقاليد الأحداث. وعبر الحيز الاقتصادي نفسه الذي تملأه عملات نقدية مختلفة، تستولي المرجعية الدولارية على خلفياتِ مشهدها كاملةً.

الثقةُ النقدية نوع من تسليع لفكرة اليقين، تحويلها إلى تبادل ليس لأطرفها إلاَّ امتلاك مؤقت تجاه قوة أكبر. بحيث عندما نثق في شيء، يصبح متاحاً بضمان القوة الأكبر التي تسيطر على التجارة والأسواق والبنوك. بدليل أن الدولار- الحامل للثقة في الله- قد أصبح معياراً للتحويلات المالية. وفي مجتمعات نامية يأكلها ( الصدأ التراثي يومياً) تعتبر ورقة الدولار عملةً سحريةً تتحكم في مفاصل الدول. لا توجد أية أرصدةٌ وأصول مالية ثابتةُ إلاَّ باسمه خصيصاً. فأيُّ إله هذا الذي يقصده الدولار رأساً؟ أهو إله يخترق( كالفيروسات الإلكترونية ) جميع أنظمة التعاملات الاقتصادية؟

يبدو أنَّ أمريكا تدرك الصدود من المجتماعات والدول أمام سياساتها المراوغة، فمررت ورقة تدخل أية مجتمعاتٍ مهما يكُّن تناقضاتها. والمماثلة هنا واضحة تمام الوضوح: إذا كان (اللهُ الماورائي) المعروف يهيمن على العالم بحسب الاعتقاد الديني، فلِمَ لا تمارس القوةُ الأمريكية دوراً كهذا في ربوع العالم؟! لكن المدهشَ هذه المرة هو التسلُّل على جناح الدولار حيث لا يتوقع أحدٌ.

والفكرةُ السابقة لا تخرج عن عدة احتمالات:
  • تؤكد الورقةُ الدولارية الشكل الإلهي السياسي للتأثير الاقتصادي على نطاقٍ أوسع.
  • يرسخ الدولار نمطاً من اقتصاد السوق المسعور لمزيد من الأرباح والأطماع والمكاسب.
  • يربط التداول الدولاري جوانب المجتمعات( المستعمرة عن بعد ) بمرجعيةعليا( البورصات والهيئات النقدية الدولية ) ليست متواجدةً في سياقها المحلي.
  • ينقل الدولار المسؤولية إلى أمريكا فيما يجري باسم العولمة والتحديث والتنمية والمعرفة.
  • يشحن الشعار( كالمولِّدgenerator ) أصحاب الدولار لاجتياح العالم اقتصادياً وسياسياً.
  • الاستحواذ على دلالة الله في صناعة ثقيلة تشبه الصواريخ العابرة للقارات وتوازي القنابل البيولوجية والنووية.
  • إذا كان معنى الله أكبر ( حادثة ميتافيزيقية ) في تاريخ البشر، حتى إنكاره، فهو أضخم إنكار نتيجة غيابه الأعظم، فإنَّ ثمة احلالاً وتبديلاً بآلهة أخرى تنبت وتتسلق في ذات المكانة على الأوراق النقدية.
  • يبرر الدولار وسعاره سلفاً ما سيحدث في العالم بأصابع أمريكيةٍ. والدولار بهذا يرسم خريطةَ المصالح التي تلتهم المسافات والحدود بين الدول والمجتمعات.
النقطة الأخيرة تتضح في مقولة " ليبارك الرب أمريكا " كما يردد رؤساؤها أمام الجماهير. المباركة ليست حفظاً ضد الأعداء ولا بكونها دولة طائعةً للرب وإن قصد بعض أتباعها كذلك. لكنها مباركة استراتيجيةٌ ذات أبعاد ميتافيزيقية كنوع من الهيمنة الاستباقية على العالم. الدولار مباركة مجانية تمثل رصيداً إلهياً لا ينضب في إخضاع الشعوب الفقيرة لها. إنَّها تأتي بأقاصي العالم ليصب في مجري الاقتصاد الأمريكي. وأيّة مباركةٍ للإله غير إخضاعه دول العالم لقوة عولمية تقف بها بمنأى عن الأخطار. وبهذا حتى لو رأى البعض اغتصاب القوة الأمريكية لمكانة الله، فهو شيء مقبول منه فيما يبدو، بل سيحبذه الله لدولة هي المباركة دوماً.

لعلَّنا نتذكر تقسيم جورج بوش الابن خريطة العالم إلى ( محور الخير ومحور الشر). وبالطبع لا يعقل لدولة تثق في الله إلاَّ أنْ تقف مع الخير دائماً. فالشر بالنسبة إليها سيكون غدراً، خلسةً، سيتم بليلٍّ كما حدث في الحادي عشر من سبتمبر. وبالشعار السابق عندئذ، لو اعتدت قوةٌ شريرةٌ على أمريكا، فإنَّها ستعادي الله مباشرةً. وبموجب الثقة والإيمان المبذولين من قبل الـ" نحن" الأمريكي واتباعه، فإنَّها ستتشبث بقهرها آجلاً أم عاجلاً.

لقد جَّهَز بوش الابن جيشاً يثق في الله لتحصيل أرباح الثقة الميتافيزيقية المكتوبةِ، فاحتل العراق بحثاً عن النتائج والغنائم. لقد دمر مجتمعاً عربياً باسم هذه الثقة الممنوحة. فكان تدميراً ساحقاً كحال التداول المالي العولمي الكاسح. ابرز النتائج اخراج خريطة الخير والشر الأمريكية إلى حيز الوجود. وبالتالي فأيُّ طرفٍ يقف في جانب الشر، سيكون ضد الله وضد الخير وضد أمريكاً في آنٍ واحدٍ. لأنَّ نحن كضمير للمتكلم بقي مجهلَّاً ليحتوي على أكبرَ قدرٍ من القوة ومن البشر جمعاً لا فرداً.

أسطورة الثقة

الدولار قوة ناعمة soft power تتسلل بأريحيةٍ بين مؤيديه ومعارضيه. ثمة قضيةٌ دينية: ما إذا كان الإله فاعلاً إزاء الشيطان أم لا؟ هل كان صراع الخير والشر بلغة بوش الابن سيحدد مسار الأحداث. كلٌّ دين به عقيدة حول هذا الموضوع. لدى الاسلام أنَّ التدافع بين البشر أساسُ الحياة ( لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض). ولولاه لهُدمّت صوامع وبيع يُذكر فيها اسم الله كثيراً. بينما ترى المسيحية في الخطيئة عقاباً كان صلبُ المسيح ضرورياً على أثره لخلاص المخطئين. فالرب ضحى بنفسه في صورة الإبن لإمداد هؤلاء البشر بأسباب الحياة الخيّرة.

الدولار يطرح القضيتين في " صليب مالي " جديد هو الصراع الشرس باسم الخير، بدلالة الثقة في الله التي تضمن ورقة مالية لا تنتهي مآربها. وهي عندما تحملُ معنى اللهَ والايمان به، فهي خلاصٌ لاهوتيٌّ دنيويٌّ كما يبدو( الدين مقلوباً ). إنَّها تصوغ اسطورة ورقيةً تصبحُ عفريتاً خفياً بموجب القوة الشرائية يحقق كلَّ شيءٍّ في غمضة عينٍ. الدولار أشبه بمصباح علاء الدين في التراث العربي الذي يتم حك جانبه لإحضار العفريت. وبالتالي ما على صاحب الحظ السعيد إلاَّ فركُّه ليخرج العفريت واضعاً ما يتمناه بين يديه. كل شيء: ثروات، أسلحة، مؤامرات، قلب أنظمة الحكم، حقوق إنسان، ديمقراطية، نفايات نووية، قطع غيار بشرية، صناعة الارهاب ومؤسسات مدنية بأغراضٍ سياسية أخرى.

لكن هل هذا الشبح الأمريكي شيطان أم إله؟! الاسلاميون يعتبرونه شيطاناً رجيماً. ثمة تعبير كان ابن لادن يعتبره ملائماً لأمريكا " الشيطان الأكبر" ، كما كانت العبارة نفسها تستعملها الأحزاب الدينيةُ مثل حزب الله بلبنان. ومن قبلهما كان الايرانيون يسمونها شيطان الشر والحرب. وتلك الخطابات التي تشيطِّن أمريكا كانت مدفوعةً بالهوس الأيديولوجي نفسه للشر. فمن يقفُ بجانبها ( أي أمريكا ) هم الصالحون الأخيار بينما الأخرون هم الفجار، الأشرار.

مصدر الطرافة: أنَّ الإله على ورقة الدولار يتحول إلى شيطان. فتغدو أرصدة الثقة الممنوحة له جحيماً لا يُطاق. ولأنَّ الاثنين ( الاسلاميون بجماعاتهم ) و(أمريكا بقوتها) يلعبان اللعبة نفسها، فهما الأقدر على صناعة الشيطان دون غيرهم. كما أنَّ الطرفين كقوتين يعرفان بعضهما البعض جيداً كما لو لم يُعرفا من قبل. كلُّ ( شيطان سياسي هو تأويل اقتصادي لإله خرجَ من أيدينا. حتى العولمة التي نراها لاهوتاً كونياً يقلد وظائف الدين من حيث كونها تخضعُ لألعابٍ صراعية خارج السيطرة. فالميدان أوسع على اتساع صورة العالم، واللا معايير متوافرة، والقدرة شبه مطلقة، والحقائق غائية ولا توجد قوى أخرى غير أمريكا وحلفائها يمكن أن تجاريها. إذن بناء على أيِّ شيطانٍ أنْ يُقدِّر الأقوى سياسياً وعسكرياً مصالحه باسم الله.

الأوراق الماليةُ تشرِّع هذا الأمر مبكراً من فورها. فهي مسكوكة لتبادل المصالح والأغراض، فكيف إذن ستحقق الثقةَ المعلقة على كائن مفارق؟ المصالح تلاقى، المصالح تتصالح كما يُقال، لكنها تتصارع بذات الدرجة القصوى. وهي تحمل التناقض في انقلابها الأسطوري من الألوهية الموثوق بها إلى الشيطنة خارج إنسانيتنا. وهذا ما يُردَّد في كواليس السياسة الأمريكية ولاسيما خلال عهد المحافظين الجدد سابقاً، حتى قيل إنَّهم كانوا يشكلون صقوراً بمرتبة مجلس حرب دائم الانعقاد.

إنَّ اتخاذ الدولار كعملةٍ خارج المنافسة يُنشئ أسطورةَ إلهٍ لا يملك شيئاً. ومع ذلك يتعلق به كلُّ شيءٍّ آخر أو هكذا سيذهب ضمنياً إلى حيث يريد. إنَّه فراغ القدرة المفقودة في كل دولةٍ على المنافسة الاقتصادية المفترض أن تكون. فلا تجد بداً من الخضوع إلى الأسُهم المرتفعة للثقة في إله الدولار. فطالما أنَّ الثقة معلقةٌ بالمقدس فستترك وراءها شكاً بملء العالم. وهذا اعتقادٌ تبني عليه السياسةُ الأمريكيةُ استراتيجياتها في منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال. لذلك لاتترك أمريكا أية منطقةً دون التدخل عن قرب أو عن بعد أو بالإنابة أو بقفازاتٍ غير مرئية مثل المنظمات والاحلاف والمؤسسات الدولية بأصنافها الأممية والأمنية والعسكرية والإقتصادية والحقوقية.

كلُّ شيءٍّ يجري بموجب أساطير هذه الثقة التي تتحدث بها أمريكا. لأنَّها تجري في العراء الكوني للعولمة بلا نهايةٍ وبلا حدودٍ. والتفسير غير الوارد هنا لكنة محتمل في كل الأحوال: طالما أنَّ الثقة محصورةٌ في الله، فلن تُبْذَل ذاتُ الثقة لأي كائن آخر. وهذه هي الخطورة التي ترد من باب الدين. فكلُّ الدجمائيين( دينياً وسياسياً ) حينما يضعون ثقتهم في الله برجماتياً بلا ضمان لمن يتلقاها من البشر، فإنها ستنقلب إلى يقينٍ مفترسٍ. أي: أنَّها ستكون ممنوحة النتائج والثمار أخيراً لمن يضعها بنفسه من هؤلاء البرجماتيين في الله. سيكون اللهَ هو ( حلقةُ الوصل ) التي سترُدَّها إلى صاحبها كاملةَ الأرباح والفوائد والسخرية من مداوليها. وكأنَّ أمريكا حينما تتداول " نحن نثق في الله" تقول أيضاً: نحن نثق في أنفسنا ولا شيء غير أنفسنا عبر هذا العالم الواسع. وأنَّ هذه الثقة التي نمنحها لمن نشاء قد سقطت علينا كالهبة من السماء. نحن نعطيه( أي الله ) إياها لتعود إلينا أضعافاً مضاعفة بكل المكاسب والقوة.

لذلك تتقمص أمريكا دائماً دور ( الدولة الأسطورة ) بعبارة ارنست كاسيرر. لأنَّ الثقة تهبط بمطلق الألوهية ( أي بصيغة العولمة ) على هذه الامبراطورية العسكرية خارج حدودها. وليس التفاف هذه الثقة عبر السماء إلاَّ لكي تتنزل بهذا الإطلاق الميتافيزيقي كما بدأت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى