أ. د. عادل الأسطة - الفلسطيني في الرواية العربية: واسيني الأعرج في "سوناتا لأشباح القدس": ضحية الصهيونية وأشباحها

لم أقرأ لواسيني الأعرج الكاتب الجزائري رواياته كلها لأعرف مقدار حضور الموضوع الفلسطيني فيها ، ولا أدري إن كانت روايته " مي ، ليالي ايزيس كوبيا " ٢٠١٨ يمكن أن تدرس تحت موضوع " صورة الفلسطيني في الرواية العربية " ، فابنة الناصرة التي درست في لبنان واستقرت في مصر ، وفيهما قضت الشطر الأكبر من حياتها ، عدت أديبة عربية أكثر منها أديبة فلسطينية ، وواسيني نظر إليها باعتبارها كاتبة عربية بالدرجة الأولى ، ولذلك لم يعالج في روايته الموضوع الفلسطيني كما عالجه في روايته " سوناتا لأشباح القدس " التي أتى فيها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، بحيث تعد من حيث موضوعها رواية فلسطينية ، شخصياتها المختلفة المتعددة المتنوعة ؛ العربية واليهودية ، يؤرقها الصراع وتعاني منه وتدفع حياتها ثمنا له ؛ في الوطن وفي الشتات ، فلا هي في الوطن بخير ولا هي في المنفى أيضا بخير .
لا ينحاز واسيني للفلسطيني لكونه فلسطينيا ولا يكره اليهودي لكونه يهوديا ، وهذا ما توقفت أمامه وأنا أكتب عن اليهود في " سونا لأشباح القدس " ( جريدة الأيام الفلسطينية ١٩ / ١/ ٢٠١٤ ) ولذلك تتعدد الشخصيات الفلسطينية وتتنوع وإن كانت في أكثرها مقدسية الأصول .
يكتب واسيني عن الفلسطيني الذي ولد في القدس واستشهد فيها ، ويكتب عن الذي غادرها متخفيا ، خوفا على حياته من التصفية على أيدي العصابات الصهيونية ، ويكتب عن ابنته الطفلة التي هاجرت ، خوفا عليها من الانتقام ، ويكتب عن ابنها الذي ولد في المنفى وما عادت القدس وفلسطين تعني له الكثير ، وعن الحاج أمين الحسيني وعلاقته بالفوهرر الألماني ( ادولف هتلر ) ووقوفه إلى جانبه ضد الإنجليز الذين أصدروا وعد بلفور وسهلوا هجرة اليهود وغضوا النظر عن تهريبهم السلاح ، فيما حاصروا الثوار الفلسطينيين وأعدموا عددا منهم .
ببساطة يكتب واسيني عن الفلسطيني الذي أصبح ضحية الصهيونية فعانى من مشروعها الويلات .
الشخصية الرئيسة في الرواية هي مي ، فمن مذكراتها نقرأ قصتها منذ خروجها طفلة من القدس في ١٩٤٨ ، متخفية خوفا عليها من العصابات الصهيونية التي قتلت أمها الحامل وطاردت أباها المطلوب لليهود ، لكونه على علاقة ب ( إيفا موهلر ) الألمانية المتهمة بالنازية . كانت ( إيفا ) ألمانية الأم يهودية الأب ولم يشفع لها كون أبيها يهوديا ، فالديانة اليهودية تنظر إلى اليهودي من حيث الأم .
لم يكن حسن والد مي نازيا ، فطبيب عائلته يهودي ( هرمون سيمون ) وهو رجل طيب متعايش بإنسانية عالية ، ولكنه كان مصابا بالرعب خوفا من سيطرة الألمان على فلسطين ، ولذلك عرض عليه حسن الإقامة في بيته ، فلقد كان بينهما ملح وخبز ومحبة كبيرة ، ولم يكن حسن يكره اليهود وإنما كان يمقت الصهيونية لأنها سرقت منه أرضه وذبحت أهله ، ولم يكن نازيا إلا بالقدر الذي يساعده على استرداد ما سرق منه ، ولسوف نقرأ هذا أيضا عن المفتي الحاج أمين الحسيني في رسائل إيفا " لم يكن المفتي ، الشيخ الحسيني نازيا إلا بالقدر الذي يقربه من رجل يعرف جيدا ما معنى أن يذل إنسان ويسحل على الأرض ككيس زبالة " ( ص ٥٤١ ) .
تكبر مي في أميركا وتدرس الفنون الجميلة ، وتساعد خالتها دينا في مطعمها وتتزوج وتنجب يوبا ، وتعاني من مرض السرطان ، وفي أثناء مرضها لا تكل ولا تمل ، فتواصل الرسم والإعداد لمعارض فنية خاصة بها تبيع لوحاتها وترصد ريعها لمرضى السرطان الذي فتك بخالتها أيضا من قبل ، وتموت في المنفى دون أن تتخلص من الماضي الذي ظلت أشباحه تلاحقها ، وتكون وصيتها أن تدفن في القدس ، ولأن الأمر يبدو غير ممكن التحقيق ، فإنها تطلب من ابنها ( يوبا ) أن يحرق جثتها ويجمع رمادها في زجاجة لينثره في القدس ، ما يدل على ارتباط الفلسطيني ، حتى بعد موته ، بفلسطين .
وإذا كانت مي هي الشخصية الفلسطينية الرئيسة ، فإن هناك شخصيات أخرى حضورها أقل ، وعدا الشخصيات التي ذكرتها ابتداء ، هناك أيضا شخصيات بعض أقارب مي وشخصية ( يوبا ) ، وهي شخصيات دالة عانت من المحرقة التي ألمت بالفلسطينيين - كلمة محرقة استخدمت في الرواية لوصف مأساة الفلسطينيين أيضا - .
خال مي مثلا ، يوسف ، هرب إلى الأردن والتحق بمنظمة سبتمبر الأسود ، ولم تعرف مي عنه شيئا إلا بعد سنوات ، فقد " سمعت باسمه من ضمن قائمة الذين خططوا لعملية تحويل إحدى طائرات العال الإسرائيلية ، في السبعينات ، وتفجيرها بعد اخلائها . قيل لها إن الشرطة الأردنية اعتبرت غسان الرأس المدبر بعد أن عثروا معه على وثائق كثيرة تدينه " وعرفت لاحقا عن اغتياله " لا أحد يعرف الظروف الغامضة التي أحاطت بهذا الاغتيال . بعض الأخبار قالت إنه اغتيل في السجن بعد محاولة الهرب مع مجموعة من رفاقه . بعضها الآخر أكد أنه تم تسليمه ، في صفقة تبادل أسرى ، بين الأردن وإسرائيل وهناك مات تحت التعذيب . وأخبار غير مؤسسة تقول انه قتل مع مجموعة كانت برفقته في مداهمة بيتيه قامت بها القوات الأمنية الأردنية ، مدعمة بالمخابرات الإسرائيلية . كل الأخبار أجمعت على اغتياله ولا أحد يعرف إلى اليوم ، قبره " ( ص ١٢٢ و ١٢٣ ) .
يأتي واسيني أيضا على خال مي أبو شادي مساح الأرض الذي رباها على حب الأرض ومع ذلك فقد قتل بتهمة بيع الأرض وتسريبها ، والقتلة ، لا خالها ، هم من باعوا الأرض وسربوها للوكالة اليهودية والمرابين الإنجليز (؟) :
" وبعدها قتلوه . أية ثورة هذه ، تنتحر بغباء وهي لا تدري ؟ وأي حق يقتل فيه المدافع عن الحق ؟ .. " ( ١٢٣ )
ومن الشخصيات اللافتة الدالة يوبا .
يوبا هو ابن مي الحسيني ، ولد في أميركا ونشأ فيها ولم يعرف القدس وفلسطين إلا من خلال حديث أمه . وهو يمثل الجيل الذي ولد في المنافي ، وهذا الجيل كثير الحضور في الروايتين الفلسطينية والعربية التي صورت الفلسطيني ، وغالبا ما تكون علاقته بفلسطين محكومة بالمكان الذي يقيم فيه ؛ قربا من فلسطين أو بعدا عنها ، وقربا من حضور نشاط فلسطيني سياسي واجتماعي أو عدم حضوره ، وغالبا ما تكون علاقته أيضا محكومة بوعي أهله السياسي .
يوبا في بداية " سوناتا .. " يعبر بصراحة عما تعنيه القدس له :
" أرض لم أعرفها من قبل ولم تعرفني إلا من خلال روايات جدي وأمي "
ولا يعود إليها لزيارتها إلا لينثر ثلاث جرات رخامية صغيرة مليئة برماد أمه المعجون بنوار البنفسج كما اشتهت أمه - أي أن يدفن رماد جسدها المحروق وينثر في مدينتها .
يوبا لا يختلف عنه جيل المنفى الذي كتبت عنه زينب حفني في " سيقان ملتوية " وجنى فواز الحسن في " طابق ٩٩ " . إنه جيل صار ينظر إلى فلسطين باعتبارها ماضيا وذكريات سببت لأهله الألم والوجع ، عدا أن صلتهم بها تتكيء على ذكريات الآباء والأجداد .
في نهاية رواية " سوناتا .. " نقرأ صفحات كتبتها الألمانية ( إيفا موهلر ) عن علاقتها بحسن والد مي .
سنعرف أن حسن وايفا خلفا طفلة اسمياها يارا ، وسنعرف مقدار حب إيفا لحسن وهو ما يلخصه السطر الآتي :
" امرأة مصابة بجنون رجل لم تعش معه إلا ليلة واحدة تساوي اليوم عمرا بكامله " ( ٥٣٨ ) .
ويبدو أن ايفا كانت مسرورة في القدس . لقد غيرت اسمها لاحقا وصارت ( هيلين شميث ) . وهي ترى أنها ماتت منذ أن غادرت مدينة الله .
( مقالي اليوم الأحد ١ / ٨ / ٢٠٢١ في جريدة الأيام الفلسطينية متوسعا فيه )
الثلاثاء إلى السبت
٢٧ إلى ٣١ تموز ٢٠٢١



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى