لؤي عبد الإله - أرض وسماء.. قصة قصيرة

(1)

لا بدّ أن أحداث ذلك النهار ابتدأت هكذا: وسط لجة نوم ثقيل، انبثق صوت ناعم راح يزداد حدة وصخباً ليدفع أحمد إلى حافة الصحو؛ غمره رنين الجرس المتعاقب، حاثاً إياه على ارتداء سرواله وقميصه لا إرادياً، وحينما فتح الباب لم يخب حدسه: كان مراد أمامه، لكن المفاجأة التي شلّت الكلمات في فمه ظهور مليكة معه. كانت تقف على بعد نصف متر وراءه، وكعادتها كانت تشد ذراعيها حول صدرها تعبيراً عن تلك المسافة الفاصلة التي تضعها بينها وبين الآخر.

في الشرفة جلس ثلاثتهم، وعبر حافة الحاجز كان بالإمكان رؤية البحر كشريط أزرق مشوب بخطوط بيضاء. قال مراد: «اتفقنا على الذهاب إلى “شواطئ الأندلس”، رشيد وعميروش في طريقهما إلينا». قالت مليكة، بعد بقائه صامتاً: «أنا متأسفة إذا كان مجيئنا في وقت غير مناسب»، فبادر أحمد بالإنكار: «إنه النوم في وقت متأخر فقط، مع القهوة سأصحو تماما».

لا بدّ أن الوقت لم يتجاوز العاشرة، فالشمس ما زالت وراء البناية الشاهقة التي تضم شقته، مع ذلك كانت ترشّهم بضياء متألق مشبع بالطلّ، يتفكك في الفضاء إلى كريات ملونة تظهر وتختفي أمام أعينهم. اختلس أحمد نظرة إلى مليكة: ما زالت تلك البشرة السمراء، والشفتان الداكنتان على عهده بهما. كانت دفقات الهواء الصباحية تداعب بلا كلل خصلات شعرها الأسود فتمضي يدها اليمنى بملامسة مقدمة رأسها، من وقت إلى آخر. قال له مراد بعد أن رآها لأول مرة في شقته: «سأنتحر إذا لم أحصل عليها». «وصديقتك لويزا»؟ «خذها أنت فهي معجبة بك». وحينما قرأ فوق عينَي أحمد علامات الغضب، سارع بتبني نبرة المهرج: «بل حتى مليكة ستكسبها بسهولة من بعد.. أعاهدك بأنني سأتركها لك عند انتهاء الصيف».

(2)

كان قد مضى على لقائه الأول بمليكة ما يقرب من شهر واحد لكن بدا له آنذاك أقدم بكثير. استنسخ بعد مرور يوم على ذلك اللقاء، في دفتر يومياته جملة بريتون الشهيرة: «الحب الحقيقي يعيد لكافة الأشياء ما فقدته من ألوان زمن الشموس الغابرة». منذ قدومه إلى وهران وهو يعيش حالة انقسام الذات: نصف رافض للانغمار بعلاقات نسائية عابرة أدخله مراد إليها، ونصف مسحور بها، ففي هذه المدينة، كل شيء يمكن أن يقع بعد لحظة اللقاء: أن تطلب الفتاة مرافقتك إلى بيتك، أو أن تتخلى عنك وسط الطريق عند وقوع عينيها على صديق قديم. هنا، الجرأة الجارحة تندفع صوب الخارج للقبض على ما يشبع الرغبة. بعكس ما هي الحال عليه في مدينته؛ هناك تتدخل التقاليد حتى في اختيار لون القميص، وكل رغبات الفرد تتلبس أقنعة متداخلة تجعلها عسيرة على التحديد. كل ذلك جعل أحمد يعيش وضعاً مربكاً: ففي لحظة انغماره بعالم الملامسة الشفيف، تحت دفع نصفه الأرضي يرفع نصفه السماوي (أو بالأحرى نصفه العقائدي) سوطه احتجاجاً، لكن هذا التصادم الداخلي اختفى تماماً، حينما ظهرت مليكة أمامه؛ بدلاً من ذلك اجتاح كيانه توق غير قابل للتعريف، جعل الأشياء حوله تبدو، وللمرة الأولى في حياته، متحررة من جاذبيتها الأرضية، لكأن نصفه الارضي استسلم كلياً لنصفه السماوي.


(3)

كاد أحمد أن يعتذر عن الخروج معهم، عند وصول رشيد وعميروش، لكن إلحاح الأخيرَيْن أشعره بالحرج، خاف من تسرب شعور بالشفقة عليه في نفسيهما، إن هما عزوَا رفضه إلى موقف مليكة منه. فعلى الرغم من مشاعر الانقباض والوحشة التي ما انفكت تختلط بأنفاسه، ظل أحمد يمثل دور الشخص المرح الذي لم يخسر سوى لعبة شطرنج عابرة.

تحركت سيارة عميروش البيضاء، ببطء، على شارع جبهة البحر المزدحم بالعربات والعابرين. جلس رشيد في المقدمة، واحتل مؤخرة البيجو العتيقة العشاق الثلاثة. إلى جوار أحمد لاح البحر البعيد، وسط فراغات أعمدة الحاجز الحديدية، خطوطاً زرقاء وبيضاء، يقاطعه صف أشجار نخيل الزينة الممتد على الرصيف المتلوي. كم بدا العالم مقفراً له آنذاك، على الرغم من مهرجان ألوان الطبيعة الصاخبة حوله.

ما أن وصلوا “المرسى الكبير” حتى أصبح المرور أكثر خفة، اندفعت السيارة دون تعثر، على طريق يطل مباشرة على البحر. فتح عميروش المسجل، فانطلقت قصيدة أراغون بصوت ليو فيري، من منتصفها: «إنها لمعجزة أن نكون معاً.. أن يكون الضوء على وجنتيك.. أن تلعب الريح حولكِ.. دائما أختضّ حين أراكِ.. مثلما كنتُ في موعدنا الأول.. ». لمح أحمد ابتسامة تواطؤ تقفز فوق وجهَيْ جاريه، ولأول مرة مدّ مراد، أمامه، يده ليشابك بأصابعه أصابع مليكة، لكنها سحبت يدها خجلاً، وفوق وجنتيها سكنت حمرة خفيفة.

(4)

بعد تعرفه على مراد، فتحت المدينة الموحشة أبوابها له؛ انطلاقاً من بيته، كان مراد يقوده مشياً صوب أسرارها؛ إلى تلك الشقق الفرنسية الطراز؛ إلى تلك المقاهي الشعبية الغارقة بالدخان والضجيج؛ إلى غرف الفتيات في الحي الجامعي؛ إلى تلك الشواطئ الغارقة بعزلتها، وفي شقته كان مراد يقاسمه الملابس والطعام والنقود. فيه وجد أحمد نقيضه الذي لا يتحرك وفق مبدأ أخلاقي ما بل وفق مبدأي الرغبة والنزق الشديد، تسيّره طاقة حسية هائلة لا تعرف الكلل. فجأة كشف له ذلك المهرج، الذي ظل طوع إرادته منذ تعرفه عليه، وجهاً آخر: بدلاً من الانغمار في الغناء أو الحديث عن طفولته أو ترديد قصائد لرامبو وبودلير، اعتكف مراد في زاويته ساهماً، وحينما ألحّ عليه عميروش بمشاركتهم الجلسة اكتفى بترديد أغنية الشيخ العفريت الفولكلورية: «شعرها لون الغراب، وعيونها خطفوا لي قلبي.. ». كان أداؤه في تلك المرة شديد العذوبة، شجياً، وحميمياً. قال رشيد ساخراً: «المخادع غارق في العشق»! وحينما حضرت مليكة مرة أخرى، تلبست وجه مراد سحنة أخرى، لم ير مثيلاً لها من قبل، فلأول مرة اعتصم بصمت تأمليّ يجعل الآخر مجبراً، وبشكل لاشعوري، على الانجرار نحو الثرثرة، لكأن مراد آنذاك تقمص صورة أحمد، في وقت راح المضيف يقلد لا إرادياً، مراد، تحت وطأة سلطة عيني مراد الغائبتين. لا بدّ أن مشاعر مليكة انحرفت، في إحدى تلك اللحظات، من المشرقي الذي لا تكاد تفهم لهجته إلى ابن بلدها المثير للفضول. لكن هذه الصورة تبدلت قليلاً عند حضور رشيد وعميروش وآخرين. فتَحْتَ إلحاحهم وافق مراد على قراءة قصيدة من ديوان “عيون إلزا”: «إنها لمعجزة أن نكون معاً.. »، وعند وصوله إلى سطر: «أنا وُلدت حقا من شفتيك»، ألقى أوّلاً بنظرة قصيرة مقتضبة، على مليكة، بعد تجاهل طويل لها، متنقلاً بين عينيها وشفتيها الخمريتين.

(5)

فتح الشاطئ الفسيح ذراعيه لهم، على الرغم من غضب البحر الذي راحت موجاته تندلق بتهور، فوق الرمل، وفي سمت السماء استقرت الشمس بلا حراك. كانت المظلات تمتد بلا كلل فوق الشاطئ، يعلوها سراب شفاف، يتمايل وفق حركة الهواء، ممتزجاً بالضحكات وأغاني المسجلات وصراخ الأطفال.

اندفع رشيد وعميروش إلى البحر ثم تبعهما أحمد، لكنه انحرف إلى اليسار قليلاً، مختفياً وسط عدد من السابحين المجهولين. غاص تحت السطح حتى ملأ طعم الملح فمه، بدا له قاع البحر متألقاً بانكسارات ضوء الشمس الصاخب الذي تحول تحت عينيه إلى شبكة ضوئية مفروشة فوق القاع، وحينما أخرج رأسه كان بإمكانه مشاهدة مليكة ومراد، الجالسين تحت المظلة، جسماً متداخلاً واحداً، تحت تأثير قطرات الماء التي غطت قرنيتي عينيه. بعد اختفاء مراد المفاجئ لأكثر من أسبوع، ظهر أمامه ثانية، برفقة مليكة. كان الوقت عصراً، ولم يمض على عودته من العمل أكثر من نصف ساعة. بدا مراد له ساهماً وضجراً في آن، لكن ما جعل أنفاسه تضيق في صدره، انجذاب مليكة لمراد، الذي ظهر أمامه لأول عنيفاً وعسيراً على التصديق. ذكّره منظرها بشغف لويزا المتحررة بمراد. كانت الأخيرة عند حضورها معه تجلس، دون أي حرج، فوق فخذه أمام أصدقائه. لكن هذا الشغف الذليل لم يخلق في نفسه شعوراً بالشفقة أو الازدراء تجاه مليكة مثلما هو الحال مع لويزا، بل شعوراً تراجيدياً بالانشداد الذليل لها، وسعياً دؤوباً لإرضائها عبر إرضاء صديقهما المشترك مراد. دعاهما للذهاب إلى مطعم فرنسي، للاحتفال ببدء علاقتهما، وفي الطريق عطف على دكان زهور، اشترى لهما باقة من أزهار عبّاد الشمس، وحينما وضع البائع الباقة بين يدي مليكة انتزع أحمد لا إرادياً وردة بيضاء كبيرة ليقدمها إلى مراد. قال ضاحكاً: «أرجو ان تحتفظ بها معك دائماً». قبل أن يصلا إلى المطعم بأمتار قليلة، ظهرت أمامهم لويزا برفقة فتاتين، توقفت مذهولة لرؤية صديقها المختفي عنها، لكن مراد تجاهلها، مواصلاً إيقاع مشيته مع مليكة، وهذا ما دفع أحمد للبقاء قليلاً معها، مخففاً عنها، عبر ثرثرته، آثار الصدمة.

(6)

أعلنت مليكة عن رغبتها بالذهاب، لكنها استدركت بالفرنسية، بعد حلول الصمت بينهم: «سآخذ الحافلة، هناك واحدة كل ساعة». قال أحمد: «لا بدّ أن البحر الهائج أتعبكِ»، فأجابت بصوت حازم: «عندي امتحان بعد غد». قال مراد: «سأوصلكِ إلى موقف الحافلات».

تأجج طرف البحر البعيد بغلالة بيضاء، وراح الزبد الأبيض يتبعثر تحت أقدامهم، ومن ورائهم تصاعد هدير البحر حدة، تقاطعه صرخات الفتيات المرحة لحظة قذف الموج لهنّ نحو الشاطئ. مالت الشمس قليلاً صوب الغرب فتسربت أشعتها تحت المظلة دافعة برشيد وعميروش للابتعاد يميناً عنها والاحتماء بظلها. رماهما مراد بحفنة من رمل. صاح بغضب تمثيلي: « انهضوا أيها الكسالى».

استرجع مراد طبيعته، بعد ذهاب مليكة. خلع عنه فردتي حذائه وجوربيه وثيابه مكتفياً بمايوه قصير. قال رشيد ساخراً: «من يراك يظنك بطل سباحة عالمي». قال عميروش مسانداً: «كان علينا أن نجلب لك جاكيتة فلين». أضاف أحمد: «في مدينتي يشدون كرب النخل على ظهور الأطفال». علق رشيد: «كان عليك أن تجلب واحدة لمراد معك». وفي طريقهم إلى البحر، سأل عميروش أحمد: «هل أخبرك مراد بحصوله على عمل في العاصمة»؟

(7)

حل الغروب أخيراً، جالباً معه صفير الخطاطيف الصاخب، هدأ البحر قليلاً فما عاد صخب موجاته يصلهم إلا كزفير عميق تنبثّ أصداؤه فوق الهضاب البعيدة.

ذهب رشيد وعميروش إلى المقهى ليجلبا شراباً. قال أحمد لمراد بعد أن وصل الماء إلى رقبتيهما: «لا تبتعد أكثر». ثم اندفع سابحاً على صدره أولاً، ليغوص عميقاً، هرباً من مراد الذي بدا له، في حركاته الخرقاء وسط الماء، طفلاً يبعث على الشفقة. استسلم لأذرع البحر التي دفعته بحنو إلى السطح. شدته حركة البحر الخفاقة في صعودها وهبوطها الرتيب، فراح يقلد بجسده وتنفسه إيقاعها. انتابه إحساس عميق بأنه يعيش لحظة حلم خارج المكان والزمان، أمامه انتشرت تلك الشاليهات البيضاء التي بدت له أشرعة بيضاء، وفوق رأسه اكتست السماء زرقة عميقة موشحة بلون أرجواني. هل كانت لحظة إغفاءة تلك التي جعلته يشاهد مليكة تعوم لأول مرة أمامه بمايوه أسود يناسب لون بشرتها القمحي الغامق، وحينما راحت تتلاشى وسط لجة المياه اللازوردية غاص وراءها تحت إغراء مسك شريط طويل تركته مشدوداً إلى شعرها الأسود.

اخترق الماء الأجاج رئتيه فأعاده إلى الصحو. من بعيد بدا له مراد ظلاً متفككاً تحت عينيه المشبعتين بالماء. جاءه صوته خفيضاً كالهمس: «سأسبح هذه المسافة الفاصلة بيننا، وسأناديك إذا تعبت.. »، وقبل أن يتيح لأحمد الوقت كي يردعه، ضرب مراد الماء بكفه الأيمن مقلداً حركات السباحين المحترفين.

في أي لحظة هجم الخوف على مراد؟ كان الشاطئ شبه مهجور آنذاك، والعتمة ما انفكت تتسرب بين ثنايا النهار. حاول أحمد ان يدفع بجسده صوب صديقه، لكن خدراً غريباً تسرب إلى ساقيه جعله عاجزاً عن الحركة. ها هو مراد يلوح أمامه كبجعة ترفع جناحيها الطويلين لحظة سقوطها وسط رمال متحركة، حاول مرة أخرى دفع جسده إلى الأمام لكن ذراعيه رفضتا التحرك، ارتفع صوته مطمْئناً: «لا تخف أنا قادم.. ». رفس الماء بقوة بباطني قدميه محرضاً عضلاته على لحركة، ففاجأه رفض شديد منهما لمواصلة الضرب، كأن جسده أصبح ملكاً لشخص غريب غامض تقمصه في تلك اللحظة. ها هو يتابع، عن بعد ثلاثة أقدام، “مراد” وهو يتشبث بالهواء، حيث راحت ذراعاه تتحركان دون طائل في شتى الاتجاهات، يستمع إلى طرطشة الماء المتوغل في فمه وحنجرته وأنفه، تقاطعها بين ثانية وأخرى، تمتمة استغاثة، سعلة مختنقة، خربشة أصابع متهالكة لسطح البحر المتموج…

شيئاً فشيئاً، خفتت حركة صديقه وراح صوت الماء يتلاشى. بدا له المشهد كابوساً أكثر من كونه واقعاً، وكل ما كان عليه هو الاستيقاظ منه. ها هو أخيراً يتحرر من حالة الشلل الكامل، يمرق جسده بقوة صوب مراد. يمسك ذراعيه ويسحبه إليه، يبدو له وكأن كل شيء على ما يرام، حتى مع انقطاع هسيس أنفاسه، حتى مع تيبس ذراعيه. وعند احتضان جسده وتماس رأسيهما واجهته عينا مراد الجامدتان بقسوة لم يرها فيه من قبل؛ كأنهما كانتا محملتين بشيء يصعب تعريفه: فزع متكلس وعلامة استفهام، سيظلان مرافقين إياه كالوخز طوال حياته.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى