أسامة الرحيمي - (أبو خليل).. قطار الدلتا الحنون!!

لا أحد يعرف من أطلق عليه اسم (أبو خليل)!!
ولا سبب هذه التسمية العجيبة!
لكنه صار (أبو خليل) لدى الجميع!
وراح الناس يقولون: (نخطف رجلنا في أبو خليل بكرة لحد المنصورة).
ويقول الشباب: (نسطح على أبو خليل لغاية دكرنس).
وبجانب خِفَّة اسمه بات حالة مركزية يومية في حياة الجميع. موظفون، وباعة خيرات الريف، وأصحاب المصالح في الجهات الحكومية، والطُلّاب، والباحثون عن المُتع السرية، والعواطلية المتسكعون، وحتى شُذّاذ الآفاقّ!!
قطار خشبي بالكامل، باستثناء القضبان والعجلات، جدرانه وسقفه ومقاعده ودرجه، كله من خشب عادي يخلو من أية مميزات، عرباته صناديق رمادية متهالكة، تئز ألواحها (عمّال على بطَّال)، إذا أسرع، أو تباطأ، تتحرك كأنها مفككة، أو توشك على الانهيار، وغالبًا تكون شبابيكه مكسورة، أو تالفة، لا تقي ركابه من شمس في صيف مهما اشتد قيظه، ولا برد في شتاء مهما أزَّ الزمهرير!!
أقامته وصنعت مكوناته شركة فرنسية؛ فعرف رسميا بـ (القطار الفرنساوي)، وأسماه الأفنديات (قطار الدلتا)، ولم يلتفت العامة لهذين الاسمين، وأطلقوا عليه اسمه المُحبّب إلى نفوسهم (أبو خليل)، كأنه صديق لهم، ولأنه كان طيبا وحنونا عليهم، ويبدو أنهم كانوا محقين تمامًا، فلم يخل بمهامه يوما، وانتهت مهمته تمامًا قبل أن تقسو الحياة على الناس، وإن قضت عليه بلا رحمة.
تمتد سكته من المنصورة، شرق النيل، إلى المطرية على ضفاف بحيرة المنزلة. ويمر، بلا مبالغة، على مئات القرى، منها عشرات وادعة على جانبيه مباشرة، وعشرات أخرى متناثرة في طوايا الحقول المترامية بطول شرق الدلتا، وكل السكك الترابية وسط الغيطان تؤدي إلى محطاته المتقاربة، ففي كل قرية واحدة، والقرى تتوالى كالمسبحة.
كانت سكّته تتلوى بين الغيطان، بحكم الترع والمصارف، فتبدو كثيرة المنحنيات، فما يلبث أن يسرع في مرحلة مستقيمة، حتى يهدئ من سرعته اضطراريًّا عند أقرب منحنى، وهكذا ظل يرواح لعشرات السنوات بين البطء والإسراع، وكان بإمكان الناس الصعود إليه والنزول منه بيسر متى شاءوا، فأمنوا جانبه واطمأنوا إليه، وبات كلاهما ملائمًا للآخر، وراعيًا له.
والقضبان نحيلة صدئة من الجوانب، تستحق الشفقة، لامعة من أعلى، كأنها مطلية بقصدير جديد، والفلنكات غير ثابتة، وسطحها متآكل، وشقوقها غائرة، وبعض مساميرها بلا صواميل، فتهتز مع حركة القطار، وبعضها يتحرك من مكانه لارتفاعات لافتة، ويثير التراب في صعوده وهبوطه مع مرور كل عجلة، بعكس القضبان التي رأيناها في مراحل لاحقة، في قطارات العاصمة، والصعيد، والاسكندرية، وفلنكاتها محكمة التثبيت.
ونادرا ما كان يُشاهد الفنيّون، وهم يثبتون قضيبًا هنا، أو يستبدلون فلنكة هالكة هناك، أو يجددون صواميل نهشها الصدأ، أو يصلحون جانبًا متآكلاً من التربة تحت القضبان، نخرته المياه.
وأجمل ما فيه، كان السائق الرابض في كابينته الأمامية المجردة إلا من كرسيّ فقير، ملامحه مسكونة بطيبة ظاهرة، وشقاء سفر لا ينتهي، بتجاعيد نحاسية عريضة لامعة، ووجه موسوم بابتسامة ثابتة، لا تزيد ولا تنقص، كأنه نسيها، ينظر إلى الناس جميعًا بحياد مسالم، وعيون مرهقة يُندِّيها حنان كالدموع.
لا أنسى نظرته أبدًا، كان إذا لمح فلَّاحة تحمل على رأسها طشتًا عامرًا بالخضروات، والجبن، وتنتظره على رأس سكة وسط الحقول، بعيدة عن المحطات، يبطئ تمامًا ليمكنها من الصعود، وتجد عشرات الأيدي الخشنة تمتد إلى حملها بشهامة بسيطة، وتشدّ يدها إلى قمة الدرج، وتتناول منها حملها، وتتحسس لها مكانًا وسط الزحام، وتستقر وادعة بجانب أخريات مثلها، سبقنها، ويستغرقهن حديث موصول عن الأحوال، والمكابدات اليومية، بل لم يكن يتردد أبدًا في التوقف، والنزول بسرعة لنجدة فلاح، ناء حماره بحمله، وزلّت قدمه فسقط، ويرفع معه الحمل، ويساعدا الحمار على الوقوف، ويتأكد من سلامته، ثم يخففان الحمل ويرفعانه عليه مجددًامجددًا، وحين ينطلق بالقطار مجددًامجددًا لا ينسى أن يلقي نظرة على الحمار المسرع بحمله وسط الزراعات، وصاحبه يهرول خلفه.
وإذا لمح عجوزا عاصب رأسه بمنديل محلاوي كبير، ويتكئ واهنا على ابنه، وزوجته، بالقرب من فُم ترعة، يُخمن أنه في طريقه إلى مستشفى دكرنس المركزي، أو المنصورة العام، فيوقف القطار تدريجيًّا من بُعدٍ كاف، حتى يستقر أمام العجوز تمامًا، ولا يتحرك قبل الاطمئنان أنهم دخلوا العربة، ثم ينطلق بطيئًا حتى يجلسوا براحتهم، ولأنه لم تكن هناك مرآة يرى بها القطار للخلف، واعتاد أن يطل من جانب الكابينة ليتأكد من استقرارهم، مع أنه لا يراهم.
وكان الكمساري يختلف عنه لحد ما، لأنه كثير الاحتكاك بالناس، يتعاطف مثله مع بعض الناس، ويعرف أغلبهم بالاسم، ممن اعتادوا الركوب معه يوميًّا منذ سنوات، ويمازحهم أحيانًا، ويُفوّت لبعضهم عدم وجود تذكرة لركوبهم القطار في آخر لحظة، ويقطع لهم بلا غرامات، ولا (يُطوّقهم) وفق لائحة السكة الحديد، لكن الأمر لم يخل قط من توترات، وشدّ أعصاب، وصياح، وجري وشتائم، خاصة حين يكتظ سطح القطار بالهاربين من قطع التذاكر، وهم غالبًا من شباب الطلاب والفلاحين، وكان يصعد إليهم بمشقة، وزاد حقده عليهم حين زادت آلام مفاصله، فكان يُنجز ركاب كل العربات أولا، ثم يصعد إليهم على مهل فوق السطح، ويتنادى الشباب بأنه قادم، وقبل أن يعتلي السطح، يفرون جميعًا إلى أسفل، وهم يضحكون بصوت مسموع، لأنهم يعرفون أن مفاصله تؤلمه، وأن فارق الحيوية كبير، فما أن ينتصب واقفًا، حتى يجد سطح العربات كلّه خاليًا، وليس أمامه إلا خضار الحقول الفسيحة، والهواء المنعش يحمل إليه ضحكات العيال، وما أن يحس أن مفاصله كفّت عن النباح، ينتقل من عربة إلى أخرى، وهي ثلاث عربات، أو أربع أحيانًا، ليهبط من السبنسة، فيكون الأولاد قد وصلوا إلى العربة الأولى، وبدأوا يصعدون مجددًا إلى سطوح العربات، وهو يسمع ضحكاتهم، ووقع أقدامهم على خشب السطح بوضوح وسط صرير العجلات، وهمهمات الركاب السائد، ولا يمكنه معاودة الصعود خشية الآلام، وكان يضحك أحيانًا خفية، حين ينزل الشباب من القطار، هربا منه، ويمشون إلى جواره بخطى سريعة، حتى يذهب الكمساري إلى العربة الأولى، فيصعدون إلى السطح سريعًا إلى جوار من سبقوهم.
كان أغلب الركاب على نحو ما، يعرفون بعضهم، بل إن الكراسي كانت شبه محجوزة لهم، في مواعيد السفر الثابتة، في الصباح، وبعد الظهيرة، ونشأت بينهم علاقات، وامتدت بينهم الأحاديث، وتواصلت الأخبار، وتوزعت الأماكن كأن أحدهم صنّفها نوعيا. الموظفون، والأفنديات يتجمعون في مقاعد متقابلة، وبينهم أحاديث عن العلاوات الدورية، والدرجات الوظيفية، والشأن العام، من النكسة، إلى حرب الاستنزاف، وانتصار أكتوبر، وأخبار ذويهم الذين بدأوا يسافرون إلى دول الخليج، وبشائر ثرائهم التي بدأت بالظهور على استحياء.
وطلاب الثانوية الكبار يتجمعون على بعضهم في أركان العربات، ويتهامسون عن المدرسين، والمواد العلمية، والامتحانات، ونظرات الحب، والقصص الناشئة في الفصول، وأحواش المدارس، وغرامهم الرئيسي، هو التزويغ من المدرسة، والذهاب إلى سينما التحرير بدكرنس، بجوار محطة القطار، اعتمادا على بعد المدينة العامرة عن قراهم، وأهاليهم الذين يكدحون طوال أيامهم في الحقول البعيدة، وتعرُّف بعضهم في الخفاء على مناطق اللهو، بحثًا عن متعة سرية، والانفتاح على فضاء اللذة، وتحسس مدارج الرجال في وقت مبكر، لكن الثمن كان خارج إمكانيات أغلبهم، ولا يقدر عليها إلا أبناء الأثرياء، أو القادرين على توفير التكلفة، بأية طريقة غير مشروعة، فقد كانت تصل للفرد الواحد (ريالا كاملا) خلال دقائق معدودات، بينما تذكرة القطار (عشر مليمات) لا غير، والنقدية في بيوتهم شحيحة إلى حد الوجع، لا تسد الضرورات؛ لذا يلجأ معظمهم إلى التسطيح، و مداورة الكمساري المسكين.
والبائعات يفترشن الأرض متجاورات، في مداخل العربات، بعضهن يملأن الفراغات بطشوتهن المكتظة بالجبن القريش، والزبدة، وبعضهن بأقفاص الطيور، وأخريات بسلال البيض، وغيرهن بالفطير المشلتت، والسمن البلدي، والمش، وتستغرقهن أحاديث لا تنتهي أبدًا، عن الأسعار، ومعاناتهن مع الزبائن في الفصال، والملاحاة، وأحيانًا عن مشاغل الأزواج، ومتاعب الأولاد، ويسألن عادة عن الغائبات منهن، ليطمئنهن أنهن بخير.
كان القطار لفرط قِدمه خفيفًا على قضبانه، يهتز يمنة ويسرة عادة، فتبدو حركته هدهدة لعموم ركابه، ولهذا أيضًا، كان ينقلب بسهولة لأي سبب بسيط، كأن يزداد اختلال فلنكة، أو يضع أحد المشاغبين زلطة على القضيب الحديدي، أو يتسبب الصدأ بفرقعة أكثر من صامولة متجاورة، في لحظة واحدة، فينزاح القضيب قليلاً، وتفلت العجلات، ولأن جوانب السكة طينية، وأعمدة التلغراف محاذية لها على طول الخط، وغالبًا هناك أشجار أيضًا، وتتخللها حشائش وبوص غزير، تكون ميلة القطار دائمًالينة، كأنه يسقط بالتصوير البطيء، فلا ينكسر، ويتكوم الركاب فوق بعضهم، ونادرا إذا انخدش أحدهم، وكثيرًا ما كانوا يعيدون العربة المائلة إلى قضبانها بجهد جماعي عشوائي، وهم يتصايحون، وحين يفرغون من عدله، ويتحرك به السائق قليلاً ليضمن استواء العجلات في مسار الحديد، يتضاحكون، ويطبطون بأيديهم على خشب (أبو خليل) بصدق، كأنهم يعتذرون له.
ولو أن تلك السكة، كان بها إمكانية خارقة لحِفظ الأحاديث، والوجوه، أو ثمّة إمكانية علمية لاستعادة حكايات (ركاب أبو خليل) لعثرنا على ثروة هائلة من المشاعر الإنسانية المذهلة، وفهمنا تلك الصلة الرائعة بين بسطاء الدلتا وتلك الآلة الهائلة اخترعها الإنسان في القرن التاسع عشر، وما تزال تخدمه بدأب عظيم إلى الآن.
فخط السكة الحديد هذا الذي اختفى الآن من الدنيا، كان له وجود حميم فريد في حياة مئات الآلاف من الناس، فبعدما كان الناس يعانون الأمرين في التنقل من القرى البعيدة في عمق الحقول إلى حواضر المدن، لقضاء حوائجهم، جاء هو ليُسهّل عليهم الانتقال بدأب، في التكلفة، والوسيلة المريحة، وإن كان، الناس بحكم الاعتياد، لم يكن يبهرهم خضار الحقول، ولا الهواء العليل، فكانوا يجدون راحتهم في الكلام العفوي مع بعضهم طوال الطريق، حتى أنهم كانوا يتواعدون في مواقيت القطارات ليتلاقوا، ونشأت بينهم صداقات، ومصاهرات، ولم يكن السفر بالنسبة لهم مشقة، بل متعة خالصة، وبقدر ما كان القطار يحنو عليهم، كانوا يدللونه، ويسمونه كأنه كائن حي مثلهم، يحسون به كما يقدر ظروفهم.
لا أنسى أول مرة ركبته!!
أذكر جيدًا موظف محطة (ميت الخولي مؤمن)، القرية المقابلة لقريتنا على البحر الصغير، وهو يختم تذاكر شلتنا، ونحن مجموعة من الصغار، أشقاء وأقارب وأصدقاء، تتراوح أعمارنا بين السادسة والثانية عشرة، ويمسكها تذكرة وراء أخرى ليدقُها بماكينة نحاسية ذات صوت واضح، ويناولها لنا تباعًا، ونحن ننظر إليها، وكأنها اعتراف من الدولة بأحقيتنا في التنقل بين البلاد كراشدين.
كنا في طريقنا إلى (سينما التحرير بدكرنس) لنشاهد فيلم العيد، ونرى (فريق شوقي)، كما كنا ننطقه وقتها، على الشاشة الكبيرة كما نصحنا أحد العيال الكبار، بعدما حبسه تلفزيون المقهى الوحيد بالقرية في شاشة صغيرة لا تليق ببطولة ملك الترسو.
جلسنا بزهو على مقاعد كالكبار، نرتدي بيجامات كستور مقلمة جديدة، ومداسات مقبولة إلى حد ما، وشعورنا مُسرَّحة بعد حمام مبكر جميل، ساعدتنا فيه أمهاتنا، وأخواتنا. وعاملنا الكمساري باحترام كبير، ضاعف زهونا، وضحكنا من قلوبنا بعدها، ونحن نراه يلاحق العيال على السطح وداخل العربات، وقطعوا نفسه، وهم يهرولون، ويتصايحون، ويضحكون بلا وجل، وهو يهرول خلفهم، ويعود بخفي حنين، لاهثا، لاعنا (سلسال اللّي خلّفُوهم)، ونضج نحن بالضحك المكتوم مع انفعالاته، وشتائمه، ولا أنسى أمنيتي المهدرة، بأن أصعد إلى السطح التي قمعها أخي (سعد)، لأدور مع الأولاد، هربا من الكمساري.
وعند ملفّ (أشمون الرمان) التي كان يبهرني اسمها دائمًا، وشغفتني تلَّتها التي قيل إنها شهدت معركة مع الصليبيين في عهد (نجم الدين صالح أيوب)، وزوجته (شجرة الدر)، يبطئ القطار تمامًا، وكان الناس يحذرون بعضهم من خطف بعض الشباب للطواقي، والطعام من الأيدي، والسلال الغنية بالبيض، والطيور، وكان الناس، في ذاك الملف يركبون وينزلون بسهولة مدهشة، أخذنا حذرنا، وابتعدنا عن الشبابيك.
كانت كل المحطات كالحة، مبانٍ صغيرة، غرفتان صغيرتان، إحداهما لناظر المحطة، والأخرى لموظف التذاكر، واستراحة متهالكة للركاب، وحمام خرب، وكأن المحطات التي بنيت معًا، تقادمت معًا، وتساقط طلاء الواجهات الأصفر، وانكسرت لافتات أسماء البلاد، فغالبًا ما يكون الاسم ناقصًا، أو غير موجود، وكذا واجهات القرى القريبة من المحطات، بيوت من الطين اللبن المطلية بالجير، المتساقط أيضًا، وعلى أسطحها قش أرز قديم، أو قش ذرة متهالك الأطراف، ووجوه متناثرة في الأنحاء، طويلة اللحى، وعيون شاردة، وطواقي منسولة الحواف، وملابس أكثرها رثّ.
كان مشهد أعمدة التليفونات المتسارعة مبهرًا، ولأول مرة تصورت أنها تتحرك بدورها في الاتجاه المعاكس لمسار القطار، والهواء السريع كان وقعه على وجوهنا منعشًا، يدفعنا لإغماض عيوننا باستمتاع.
حتى مدخل دكرنس، كما رأيته أول مرة من القطار، لم يختلف عن كل القرى التي مررنا بها، بيوت متهالكة، على حواف ترعة، ثم ملف كبير يشبه ملف أشمون، وعكس اتجاهه، ثم وجدنا أنفسنا في المحطة، وأشار أحدهم إلى السينما، فتهللنا جميعًا، ووقفنا، ونحن نمسك بأيدي بعضنا البعض، حتى لا يتوه أحدنا في الزحام كما أوصانا الكبار، السينما بجانب المحطة، والزحام هائل، لكننا أفلحنا في التماسك، والتسلل بين أجساد الكبار، وعشرات الباعة على حافة السكة الحديدة، والناس يقبلون بحماس هائل على باعة البالوظة، والجيلاتي، وألعاب القوى الشعبية المعروفة، مثل (ضرب البمب بالتارة)، والنيشان، والثلاث ورقات، والمنادي أمام السيرك يصيح بأعلى صوته ليغري الزبائن بالدخول: (في كل حتة تنور، على صدرها تنور، على بطنها تنور، في كل حتة تنور)، وصوت صفارة (أبو خليل) تزعق، معلنة رحيله باتجاه المنصورة، وقد ركبناه لاحقًا إليها، في رحلة أكثر إبهارًا، بعد أعوام من زيارة دكرنس.
وبمرور السنوات، تراجع دور (أبو خليل) بنسبة كبيرة، بل ربما تمامًا، وسمعنا أنهم ألغوا مراحل منه، ثم توقف تدريجيًّا، وبتنا نرى عرباته على السكة أحيانًا، تبدو خالية، إلا من قلة من الركاب، وتئز بصوت أعلى بكثير، وتهتز بقوة، وميل كبير، كأنه يترنح، وأحيانًا كنا نراه مائلاً في أماكن ليس فيها منحنيات، وتظل عرباته واقعة لأيام، ولا يقيلها أحد، وتلهو فيها الكلاب الشاردة.
ثم سمعنا أنه توقف تمامًا. وأن (شاه إيران) تبرع لمصر بعدة معونات، منها خط قطار حديث مواز للخط القديم، وسط حقول أخرى، بين المنصورة والمطرية، وقال البعض إنه سيصل إلى (بور سعيد)، ويبدو أنه قطار حديدي كبير، ليس فيه خشب، وقضبانه مثل قطارات القاهرة، والسكة واسعة، وفعلا انتزعوا الأرض الزراعية من أصحابها، وبدأوا بتمهيدها، ثم قامت الثورة الإسلامية فجأة. وتوقف العمل في الخط تمامًا، لسنوات طويلة، ثم استأنفوا العمل فيه بلا مقدمات وبدا قطارًا سيئًا، وأصبح صدئا بعد فترة قصيرة، ويمضي مسرعًا كأنه يخجل من شيء ما، وانصرف الناس عنه، إلى المواصلات التي استشرت في كل الأنحاء، ولم يعد هناك أثر لتلك الجلسات الحميمة بين الركاب، وليست هناك فرص للتعارف ولا بناء صداقات، ولا أن يسأل أحد عن أحد، ولا سائق يلتقط الناس من الطريق على مهل، ويعرف من هيئتهم أنهم بحاجة لحنوه عليهم.
لم تكن على الخط الجديد أعمدة تليفون مسرعة، ولا هواء يلفح الوجوه فينعشها، ولا كمساري يعاني آلام المفاصل، ولا أيد حنونة، تهب لمساعدة امرأة تشقى بحملها الثقيل يوميًّالتربي أولادها في الجامعة، ولا سائق ينشغل بمساعدة الناس أكثر من القطار.
رحم الله (أبو خليل)، قطار الدلتا الحنون، الذي كانت صفارته نداء على الناس، مثل آذان الفجر، وتلويحة وداع رقيقة بعد يوم شاق. القطار الخشبي الذي كان يئز توجعا مع آلام الناس!!
رحل بكل تاريخه الحميم، قبل أن نعرف من الذي أطلق عليه ذلك الاسم الحنون. (أبو خليل)!!


ــــــــــــــــــــــــــ
ـ من كتاب «طباطيب العبر»




  • Like
التفاعلات: خالد الشاذلي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى