فاطمة المرنيسي - توظيف الفكر، كسلاح شهواني

شهرزاد، اسم امرأة شابة تحكي وقائع، تم تجميعها في عمل، سمي: ألف ليلة وليلة. لا نعرف الشيء الكثير عن أصل هاته الحكايات العجيبة، غير كون الرواة العموميون قصد الترفيه عن المارة في بغداد القرن الوسيط، يروونها بالعربية، حتى وإن وجدنا أصلها من الهند إلى فارس. ابن النديم، أحد المؤرخين العرب القدامى القلائل الذين انتبهوا في ذلك الإبان (القرن 11) إلى تأثيرها على الحشد كانت من القوة، مما حتم على شرطة الخليفة البدء في مراقبة الرواة أثبت بأن «أول من أبدع تلك الحكايات (...) هم فرس الأسرة الحاكمة الأولى (...) ثم قام العرب بترجمتها. أشخاص يتوفرون على موهبة أدبية، أضافوا أخرى جديدة مع صقلهم للقديمة». فتح، حكايات «ألف ليلة وليلة»، يعني الدخول إلى عالم يجهل الحدود والاختلافات الثقافية، من الشاطئ الأطلسي إلى تخوم الصين. الفارسيون مثلا، تحدثوا العربية وحكموا بلدانا غريبة عنهم.

«شهرزاد» لفظ عربي لكلمتين فارسيتين : شيهرا، ثم زاد، بمعنى «مولود نبيل». زوج السيدة الشابة، الملك شهريار، فارسي أيضا. اسمه اندغام لكلمتي شهر ودار، أي «صاحب المملكة». مع ذلك، تتوجه شهرزاد إلى زوجها بواسطة اللغة العربية كلغة أجنبية وليس الفارسية. وشهريار يحكم شعبا، لم يكن مألوفا بالنسبة إليه، حيث تمتد سلطته إلى «جزر الهند، والهند الصينية». بالرغم، من قدرتها على تجاوز الحدود الثقافية، تنهض الحكايات على عائق يستحيل تجاوزه : الاختلاف بين الأجناس. أكثر، من حاجز يفصل داخل الحكايات بين الرجال والنساء. إنه هاوية، والرابطة الوحيدة التي توحدهم، الحرب التي يستسلمون لها.
بالفعل، تنفتح «ألف ليلة وليلة» على حرب قاسية للأجناس، دراما مفعمة بالكراهية والدم، تنتهي مثل حكاية للجنيات Fées، نتيجة المهارة الثاقبة ل شهرزاد وتمكنها من فن التواصل.

تبدأ التراجيديا، بتاريخ ل شاهزمان أخ شهريار وملك «بلد سمرقند». حين عودته إلى قصره، سيكتشف الملك زوجته بين «أحضان طفل يشتغل في المطبخ». قتل العاشقان، ثم أخذ في معالجة ألمه بالسفر، ووصل على الفور إلى مملكة شهريار، البعيدة جدا عن مشهد الجريمة. ذات صباح جميل، يسير الحزين شاهزمان وسط حدائق حريم أخيه، فإذا به يلقي نظرة خاطفة : «كان يشكو مأساته، متجها بنظره نحو السماء ومسالك الحديقة. فجأة، شاهد انفتاح الباب الخاص لقصر أخيه. ثم ظهرت غزالة صاحبة عينين سوداوتين، إنها سيدة المكان زوجة أخيه. تتبعها عشرين خادمة، عشرة ذوي بشرة بيضاء وعشرة سود يجلسن ويتخلصن من ملابسهن. اكتشف إذن، بأن العبيد الذين تم إحصاؤهم، عشرة نساء بيض وعشرة رجال سود متنكرين في هيئة نساء. ارتمى العبيد السود فوق النساء البيض، وصاحت الملكة: « مسعود مسعود». ظهر عبد أسود فوق الشجرة، قفز إلى الأرض، انقض عليها تم رفع رجليها وانغرز فيها لكي يمارس عليها الجنس. كان مسعود فوق الملكة بينما العبيد السود فوق العبيدات السوداوات، وبقوا على هذا الوضع إلى غاية منتصف النهار. بعد الانتهاء، استعاد العبيد العشرة ملابسهم، وأخذوا من جديد مظهر نساء سوداوات. نط، مسعود من فوق سور الحديقة واختفى، بينما اندست الملكة من الباب الخاص صحبة نسائها ثم أغلقن الباب بعناية».

تنضاف إلى جانب خيانة المرأة للرجل، خيانة العبد لسيده. على مستوى اللغة العربية، فإن جملة : «كان مسعود فوق السيدة النبيلة (مسعود فوق الست)» تختزل هذه الرابطة القدرية بين الزوجة والعبد، التي هي جوهر الحريم كشكل للتراجيديا. تتحدد الخيانة ببنية الحريم ذاته : إنها التراتبيات والموانع التي يشيدها الرجال من أجل السيطرة على النساء اللواتي يحدثن العصيان ويفرضن قوانينهن. إن مرتكب الخيانة الزوجية، وهو يتصفح عمل «ألف ليلة وليلة» سيفترض وهما آخر يوطد بعده التراجيدي : الموانع التي تقوم حول الحريم هشة وقابلة للاختراق : يكفي أن يتنكر الرجال في شكل نساء كي يصيروا غير مرئيين.

ماذا فعل شهريار حينما اكتشف جريمة زوجته ؟.. لقد عاقب المجرمين : قتل زوجته وخادمه. بل لم تتوقف رغبته في القتل عند هذا الحد : سيلازم لياليه. كما سيأمر وزيره، بأن يقتاد له عند كل صبيحة عذراء يتزوجها ويقترن بها ليلا. لكن مع الفجر، يقودها إلى الجلاد لينفذ فيها حكم الإعدام : «هكذا سيتواصل الأمر إلى غاية إبادة جميع الفتيات. كل الأمهات تبكين، فتصاعد الضجيج بين الآباء والأمهات...».

نعاين إذن، منذ بداية «ألف ليلة وليلة» التشابك المعقد بين العنف الجنسي والسياسي. ما بدء قبل ذلك، كحرب بين الأجناس تطور نحو عصيان سياسي ضد الحاكم من قبل الآباء الحزينين على بناتهم.

لم تبق الآن، إلا عائلة وحيدة في مملكة شهريار تضم فتيات عذراوات. إنها عائلة الوزير الذي كان مكلفا بعمليات القتل، وهو أب لفتاتين تسمى الواحدة شهرزاد والثانية دنيا زاد، لم تصل شهرزاد إلى قصر شهريار إلا سنوات بعد حادث الحديقة. كان أبوها يرفض التضحية بها، لكن شهرزاد ألحت على مواجهة الملك : « أبي، مخاطبة الوزير المنهار، أريد الزواج من الملك شهريار، إما أنجح في تخليص شعبي أو أموت...».

تحت هذه اليافطة، تمثل الفتاة الشابة التي تسكن خيال الفنانين والمفكرين المسلمين كما سنرى بعد ذلك، وجها للمقاومة والبطولة السياسية. لا تسير شهرزاد بسذاجة نحو الموت، بل لها استراتيجية وتتوفر على برنامج مصمم جيدا. محادثة الملك، إلى غاية أن تتملكه، بحيث لا يمكنه التخلي عنها وكذا صوتها. صار المخطط كما توقعته ثم حافظت شهرزاد على حياتها.

تقويم اندفاعات المجرم المتهيء لقتلك، وأنت تروي له حكايات، يعتبر انتصارا هائلا. لكي تنجح شهرزاد، يجب أن تضع على التوالي ثلاث استراتيجيات ناجحة. أولا، معارفها الواسعة، ثانيا، موهبتها في خلق التشويق بطريقة تشد معها انتباه القاتل. ثالثا، برودة دمها بحيث تسيطر على الموقف بالرغم من الخوف.

الامتياز الأول، ذو طبيعة ذهنية : تلقت شهرزاد تربية أميرية، تجلت ثقافتها الموسوعية منذ الصفحات الأولى من الكتاب : «قرأت شهرزاد مؤلفات في الأدب والفلسفة والطب. لا تنطوي القصيدة بالنسبة لها على أسرار، فقد درست النصوص التاريخية وبإمكانها الاستشهاد بالوقائع المثيرة للأوطان الغابرة والحكي عن أساطير الملوك القدامى. كانت شهرزاد ذكية عالمة، حكيمة ومهذبة. قرأت وتعلمت كثيرا». لكن العلم وحده غير كاف لإعطاء المرأة سلطة على الرجل : انظروا إلى هؤلاء الباحثات المعاصرات عندنا، إنهن متعددات ولامعات سواء في المشرق أو المغرب : لكنهن عاجزات عن تغيير غرائز الموت عند شهريار العصر الحالي... من هنا فائدة القيام بتحليل يقظ، للكيفية التي خططت بها شهرزاد لنجاحاتها.

الامتياز الثاني لبطلتنا، يحمل طبيعة نفسية، فهي تتقن اختيار كلماتها لكي تؤثر في أقصى عمق فكر المجرم. إن التسلح بوسيلة وحيدة مثل الكلام للدخول في صراع مميت، يمثل اختيارا ينطوي على جرأة نادرة. إذا كان هناك من حظ للضحية كي ينتصر، فمن اللازم بالنسبة إليه فهم دوافع المهاجم واكتشاف قصدياته ثم إبطال الهجومات بالحدس كما هو الحال مع لعبة الشطرنج. الاختيار الذي سلكته شهرزاد أكثر صعوبة، بحيث يبقى أولا، الملك العدو صامتا. على امتداد ستة أشهر الأولى، اكتفى بالاستماع إلى ضحيته دون النطق بأية كلمة. أما شهرزاد فلا يمكنها حدس مشاعره إلا بناء على إيماءات وجهه وجسده. كيف يمكن لها في إطار هاته الشروط، أن تعثر على الشجاعة لمواصلة الحكي وحدها طيلة الليل ؟ كيف تتجنب الخطأ النفسي والخطوة الخاطئة القاتلة ؟ لذلك، مثل صاحب مخطط يستخدم معارفه في أفق توقع ردود فعل الخصم وتمثل تكتيكاته. كان، من الضروري بالنسبة لشهرزاد أن تكتشف باستمرار ما يدور في فكر شهريار، تبين ما سيحدث بعد ذلك بدقة كبيرة، فابسط خطأ يعتبر مميتا.

أيضا، يفضي الامتياز الأخير للمناضلة الشابة على الأقل، الاحتفاظ بوضوح الأفكار ومواصلة اللعبة عوض الخضوع للخصم. ستنقد شهرزاد إذن ذاتها اعتمادا على ذكائها وخاصياتها الدماغية التي تتميز بقوة هائلة على التخطيط. ستوظف نفس أسلحة الإغواءات الهوليودية أو جواري ماتيس Matisse. تدحرج، بشبق جسدها العاري فوق سرير الملك، وإلا فستموت.

لا يفتقر هذا الرجل للجنس بل يعاني من تحقير حاد للذات نتيجة تعرضه للخيانة. ما يحتاجه الملك، علاجا نفسيا يساعده على أن يعيش ثانية المأساة التي تنخره ثم يتحرر منها، وهو بالضبط ما شرعت شهرزاد القيام به وذلك بجرأة نادرة. كانت تروي له مئات الحكايات التي تكرر بشكل لا نهائي نفس الحبكة، مثل هلوسة : رجال يتعرضون للخيانة من طرف نسائهم. ثم لكي تشجع شهريار على النظر بنسبية إلى مأساته، فإنها تورد حالة الجن، تلك الكائنات اللاأرضية التي من المفروض أنها لا تنهزم، فقد خدعتها النساء وهم يتسلون بحجزهن. جرأة الكلام مع رجل عنيف قصد مداواته من جرح يتآكله، يعتبر بالتأكيد تهورا ينبني على استراتيجية دفعت مجموعة من المفكرين، كي يكتشفوا في شهرزاد، امرأة محرضة على التمرد، محفزة المستضعفين على العصيان.

لاحظ جمال الدين بن الشيخ، أحد أفضل المختصين في الحكايات، بأن شهرزاد لم تنكر لحظة من اللحظات وجود القائد، رغبة النساء لتعطيل إرادة الرجل. هذا ما يفسر سبب رفض النخبة العربية تدوين الحكايات : ((الراوية التي تتوخى الحصول على رأفة الملك المخدوع من قبل زوجته، ستوظف كل خيالها المبدع، لتنسج وقائع تؤكد عدم ثقة هذا الأخير في النساء)). تنطوي الحكايات بالفعل على توضيحات لمزاج نساء الحريم، غير القابل للضبط. سيظهر مع الواحدة بعد الأخرى، إلى أي حد عدم واقعية، توقع رؤيتهن يخضعن لقواعد اللامساواة التي تفرض كقانون. بإمكان الرجال ، قراءة المصير التراجيدي الذي ينتظر كل واحد منهم. يكتب بن الشيخ : «نعرف بأن رعب الخيانة هذا، يغوص بجذوره إلى أكثر الثقافات قدما من ثقافتنا، معبرة عنه دائما بنفس الطريقة تقريبا... . لكننا في هذه الحالة، نشتغل على نص مكتوب بالعربية...». ولأن العربية، تمثل لغة الكتاب المقدس، أي اللغة التي نزل بها القرآن ! فإن تدوين الحكايات بالعربية، يعني منحها معقولية خطيرة، هذا ما يفسر عنده إدانة النخب العربية الذكورية للحكايات طيلة قرون والاقتصار على تداولها شفويا. إن رفض المثقفين العرب المتنفدين، الترخيص لتدوين الحكايات وضعها داخل سياق الدونية، أمام الأوربيين الذين أعطوها امتيازا بترجمتها ابتداء من سنة 1704 (الترجمة الفرنسية ل Galland). بينما، لم تظهر أول طبعة عربية إلا قرنا بعد ذلك، وبالضبط سنة 1814، كما أن لا أحد من الناشرين ل «ألف ليلة وليلة» كان عربيا.

صدرت الطبع العربية الأولى، ب كالكوتا Calcutta سنة 1814 من قبل هندي مسلم اسمه «الشيخ أحمد الشيراواني»، أستاذ العربية ب كوليج وليام الرابع. أما الثانية، فقد أنجزها «ماكسيميليان هابيش Maximilan Habicht ب بروسلو Breslau، ألمانيا سنة 1824. عشر سنوات، بعد ذلك، سيأخذ العرب المبادرة أخيرا، بالعمل على تسويق النسخة المصرية ل بولاق التي طبعت بالقاهرة سنة 1834. من المهم، الإشارة إلى أن الطبعة العربية الأولى ل «ألف ليلة وليلة» تبين الحاجة لتصحيح نسخة بولاق : « تحسين اللغة بطريقة تنتج عملا ذا قيمة أدبية أعلى من النسخة الأصلية».

بإمكاننا التساؤل عن السبب الذي استندت إليه النخب، كي ترفض تدوين الحكايات ؟ ما هي الجريمة الأساسية التي اتهمت بها شهرزاد ؟ هل الأسباب سياسية أو دينية كما يحدث حاليا في إيران أو العربية السعودية، بمنع الكتب ؟ يظهر بأن العامل الأول الذي تم استحضاره هنا، أدبي بالأساس دون أي مضمون سياسي : لقد كانت النصوص ذات قيمة ضعيفة.

لاحظ «بن الشيخ» مستوى الخرافة الذي وضعت في إطاره الحكايات (مما يعني تقريبا «هذيان فكر مختل») لكن وراء هذا البرهان الأدبي، يتحدد منتهى الجبل الجليدي السياسي : رفضت النخبة إخراج الحكايات لأنها تترجم مشاغل ورأي القوى الشعبية. هذه الجزئية الصغيرة، تجعلنا نستشف انفصاما ضخما : ألا يجسد الإرث الإسلامي المدون فكر النخبة ؟ ألا ترسم الشفاهية في جوف هذا الإرث فتحة واسعة وفراغا علينا الاهتمام به ؟ هذا التطابق بين الشفاهية والإقصاء، قاد بن الشيخ للتساؤل، إذا كان في الواقع رفض تدوين الحكايات كتابة يتأتى من كون النساء يظهرن فيها أكثر براعة من الرجال. بناء على منطق «ألف ليلة وليلة»، فإن القاضي «شهريار»كما لاحظ «بن الشيخ» كان مخطئا، بينما الصواب إلى جانب المتهمة (شهرزاد) : «لم يحاكم الملك فقط من قبل شهرزاد، لكنها أيضا تدينه حتى يغير طريقته في العيش وفق نزواته، إنه العالم معكوس. عالم، لا ينفلت فيه القاضي من عدالة ضحيته». عالم ، حيث القواعد هي قواعد الليل : شهرزاد صامتة طيلة اليوم، غير مرخص لها بالتكلم إلا بعد غروب الشمس، حينما يلتحق بها الملك للاستماع إليها وهو على فراشه. تتذكرون الجملة المقتضبة التي تنهي كل حكاية : «وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح».

هكذا، يقلب الأثر الحاسم للحكايات التي تتداعى في الظلام، قوانين محكمة الملك، الذي يبدو بأنه ليس شيئا آخر غير سراب، سريع الاندثار مثل ضوء النهار. بالفعل، يتخلى الملك عن اعتدائه المرعب، ويخضع لتأثير نافذ من قبل شهرزاد، مقرا بعدم صوابه حينما يسقط غضبه على النساء، «آه شهرزاد، جعلتني أزهد في ملكي، والتحسر على ماضي العنيف اتجاه النساء، وكذا أفعالي القاتلة ضد الفتيات الصغيرات».

بالتالي، سيقر المستبد بتغير مفهومه عن العالم، بعد حواره الطويل مع زوجته. اعتراف، قاد مجموعة من الكتاب العرب في القرن العشرين، لكي ينسبوا إلى شهرزاد خاصة والنساء عامة سلطة مدنية. المفكر المصري اللامع طه حسين، أطلق نداء إلى المستقبل : لكي تستعيد مواقف الرجال حب امرأة، فمن الضروري أن تستند على السلم والهدوء بدلا من العنف. في كتابه المعنون ب : أحلام شهرزاد، الصادر سنة 1943، جعل من الحاكية الناطق الرسمي باسم الأبرياء الذين زج بهم في عذاب الحرب العالمية. حرب أشعلتها أوروبا، ولم تكتو بنارها فقط الشعوب العربية بل شملت كل الكون. تجسد شهريار عند طه حسين، نزوة الموت عند الإنسان المبهمة، والمأساوية. لم يفهم، الملك بأن سجينته مؤتمنة على سر نفيس جدا، إلا بعد سماعه لها لسنوات طويلة. من الضروري أن يكتشف هذا السر، لكي يدرك أخيرا النضج العاطفي والرصانة :
«شهريار :
من أنت وماذا تريدين ؟
شهرزاد :
أنا شهرزاد، كنت مرعوبة طيلة سنوات، ثم منحتك لذة الاستماع إلى حكاياتي. حاليا، اقتحمت مرحلة جديدة، قد أمنحك حبي لأنني انهزمت جراء الرعب الذي ألهمتني إياه. ماذا أريد ؟ أسعى، لكي يتذوق أخيرا سيدي الملك السكينة، ويحس ببهجة الحياة في عالم يخلو من كل قلق».

حسب طه حسين، يتجلى الخلاص حينما يبدأ الحوار بين الطاغية والمظلوم، القوي والضعيف. لا يمكن للحضارة أن تزدهر حقا، إلا إذا تعود الرجال على إقامة حوار مع الكائنات الأكثر اقترابا منهم، النساء اللواتي يقتسمن معهم الفراش. بالتالي، هل بعث ثانية، طه حسين الضرير، المعاق والعاجز عن القيام بالحرب تماما مثل المرأة مضمون الرسالة كما تضمنته حكاية شهرزاد القروسطية : يوجد رباط بين الإنسانية وحرية المرأة. لذلك، فإن كل عمل يتأمل الحداثة داخل العالم الإسلامي المعاصر، يؤخذ كسلاح ضد العنف، الاستبداد. ويكتسي أيضا، صيغة دفاع عن النسوية.

بالنسبة لزعيم مسلم إصلاحي، كما هو الأمر مع الرئيس الإيراني خاتمي، المنتخب في الاقتراع المباشر لسنة 1997 ب 70 من الأصوات، نتيجة تصويت النساء. فمن البديهي لكي يصارع ضد المحافظين، أن يحث النساء على ولوج مواقع السلطة. ثم دعما لموقفه قصد هزم معارضيه في انتخابات يونيو 2001 ( %77 من الأصوات)، قام خاتمي بعملين عضد بواسطتهما مسار الديموقراطية. أولا، شجع النساء على المساهمة في انتخابات المجالس البلدية سواء في القرى الصغيرة أو المدن الكبرى، هكذا انتخبت 781 من بينهن. بعدها، دفع النساء لكي يشغلن وظائف مراكز القرار في دواليب الجامعة، بحيث أحرزن على %60 منها قبل ولايته الثانية. بشكل مفارق، فإن قرار ارتداء الحجاب الذي أعطاه آية الله الخميني إلى النساء سنة 1979 لإخفاء التعددية داخل الأمة الإسلامية، دفعهن للرجوع بقوة إلى المشهد السياسي بعد عقد من الزمان. مثلما في هاته الأحلام المتكررة بشكل لا نهائي، يعاد ثانية في كل مكان بالعالم الإسلامي، إنتاج السيناريو الإيراني المرتبط بالصلة الحتمية بين الديمقراطية وتأنيث السلطة. أن تذهبوا إلى الجزائر، تركيا، أفغانستان أو أندونيسيا، ستلاحظون وأنتم تنتقلون من قناة تلفزية إلى أخرى، بأن السجال حول الديموقراطية يقود حتما إلى سجال آخر يتعلق بالمرأة والعكس صحيح. هذا التداخل المثير، الذي يجمع بين التعددية والنسوية داخل العالم المضطرب للإسلام الحالي، تجسد قبل ذلك مع تاريخ شهرزاد وشهريار. لقد انتهى شهريار في ألف ليلة وليلة، بالتوصل إلى أن الرجل ملزم بتوظيف الكلام بدلا من القوة لتسوية نزاع ما. في صراع شهرزاد من أجل البقاء والحرية، فإنها لا تقود جيوشا ولكن مجموعة كلمات. بالتالي، يمكن اعتبار الحكايات مثل أسطورة متحضرة لازالت راهنية جدا. تتغنى «ألف ليلة وليلة»، بانتصار العقل على العنف. قادني هذا التأمل، لكي أعود إلى نقطة تتناقض كليا مع صورة شهرزاد في الغرب وكذا نسختها الهوليودية : في الشرق، المرأة التي لا تستعمل غير جسدها أي جسدها دون دماغها هي بالضرورة عاجزة عن تغيير وضعيتها. أخفقت إذن الزوجة الأولى للملك على نحو محزن، لأنها حينما سمحت لخادمها كي يمتطي فوقها، اختزلت ثورتها في الجسد. الخيانة الزوجية بالنسبة للمرأة، فخّ انتحاري. على العكس، نتعلم من نموذج شهرزاد إمكانية قيام المرأة بتمرد فعال، شريطة التفكير. ستساعد الرجل بقوة ذكائها، للتخلص من رغبته النرجسية إلى ارتباط بسيط. يبين التاريخ ضرورة، أن نقابل اختلافنا مع اختلاف الآخر، حتى يتأسس الحوار ثم نكتشف ونحترم الحدود التي تفصلنا. تثمين، حوار في كل جزئياته، يعني تقدير معركة تكون نتيجتها غير مضمونة، بحيث لا نعرف سابقا الغالب والمغلوب، لكن الانخراط في معركة كتلك تمثل موقفا يضع رجلا داخل وضعية تتميز بعدم الاستقرار، بعد أن اعتاد على أخرى مريحة حينما كان مستبدا.

عبد السلام الشدادي، مؤرخ مغربي وأحد أدق الباحثين في الإسلام المعاصر، يختزل رسالة «ألف ليلة وليلة» بقوله: «اجتهد شهريار حتى يكتشف فكرة استحالة إلزام المرأة، للامتثال للقاعدة الزوجية». ثم، يضيف بقدر ثورية هاته الفكرة، فإنها أقل من الرسالة الثانية للحكايات : إذا أقررنا بأن اللقاء بين شهريار وشهرزاد، صورة للصراع الكوني الذي يتعارض في إطاره النهار (تمثيل ذكوري لنظام موضوعي) مع الليل (تمثيل أنثوي لنظام ذاتي)، بقاء الزوجة، يخلق لدى الرجل المسلم ارتيابا غير قابل للتحمل تقريبا: ما هي إذن نتيجة المعركة؟ يكتب الشدادي: «حينما يحافظ الملك على حياة شهرزاد فهو ينتهك القاعدة التي وضعها. عمل شهريار بالفعل، وضد كل انتظار، على كبح ذاته مانحا شهرزاد الحق في الحياة والكلام ثم النجاح، «تتوازن القاعدة والرغبة ، حيث يلامسان نوعا من السكون المتقلب، دون التمكن من القول بأن أحدهما سيستعيد أم لا حركته الأصلية». ما إن يغلق الرجل المسلم، الصفحة الأخيرة من الحكايات إلا ويحصل عنده اليقين بشيء واحد : الحرب بين الأجناس في نطاق تجسيدها للحرب بين العقل والعاطفة، تعتبر لا نهائية.

التعارض حسب «الشدادي» بين الملك والراوية له أهمية أخرى : إنه يعكس ويوسع النزاع الحاد الذي يفصل في الثقافة الإسلامية بين التقليد الشرعي والخيال. غلبة شهرزاد هو انتصار للخيال (الوهم)، على مشروعية حراس الحقيقة (الصدق).

يتحدث الشدادي عن مصير الحكواتيين المأساوي. رواة الشارع هؤلاء، حيث يشكل سلمان رشدي أحد ورثتهم في الزمان الحالي، اعتبروا عادة في بغداد القرن الوسيط، كمتمردين مفترضين ومثيرين للقلاقل. كما هو الأمر اليوم، مع صحافيي اليسار الخاضعين للمراقبة، فقد كان هناك سعي قصد منع هؤلاء الحكواتيين من مخاطبة الجمهور. أشار المؤرخ الطبري، في تاريخه عن الأوطان والملوك، أنه سنة 279 هجرية (القرن العاشر ميلادي): «أعطى السلطان أمره، لإخبار سكان مدينة السلم (أحد أسماء بغداد)، بعدم الترخيص لأي حكواتي كي يستقر في الشارع أو المسجد الكبير». إذا طرد الحكواتيين من المسجد يفسر الشدادي، فذلك لصعوبة القيام بتمييز واضح بين خيالهم والحقيقة. الطرد، وسيلة القصر الوحيدة لإسكات صوت هؤلاء المبدعون الخطيرون : «مع بداية النصف الثاني من القرن الهجري الأول (القرن السابع الميلادي). قام علي (الخليفة الرابع العقائدي) بمنع رواة الشارع من دخول مسجد البصرة. بالتأكيد، لن تتوقف مضايقة الحكواتيين، إلا بإنهاء الرابطة المهنية... وتعويضهم بالوعاظ. لقد كانت الوسيلة الوحيدة، من أجل تأسيس واضح للحد الفاصل بين ما يمكن اعتباره حقيقيا وصادقا ثم ما ينتمي إلى عالم الخيال والخطأ وكذا الزيف».

لكي تخلخل أكثر العقول المتزمتة القديمة منها والمعاصرة، فإن شهرزاد تتوفر على سمة الإزعاج إلى أبعد حد. يعيد الشدادي التذكير بها : «مع أول ظهور لها في الكتاب، تكشف عن مواهب سلطة دينية إسلامية، «فقيه» بالمعنى المتكامل وصاحبة موقع حصين». لا تتضمن معارفها اللانهائية ضبطا فقط للتاريخ، لكن أيضا الأدب المقدس من قرآن وشريعة وكذا مختلف التأويلات الدينية للمدارس الفكرية. تداخل عجيب بين ثقافة علمية جدا وخطاب ينحصر ظاهريا في عالم الخيال والليل. تمازج، جعل شهرزاد متهمة كثيرا، مما يفسر رفض النخب العربية تصنيفها ضمن الإرث المكتوب. تشير «ألف ليلة وليلة» إلى الخطر المحدق بطبقة الخاصة حينما تستمع للعامة. هذا الشعب الصارخ والقوى الأمية، تكرر لمن يريد الاستماع إليها بأن الطبقية، اللامساواة، والتفضيلات، تشكل أعداء لها.

أليس من الغريب، أن راوية متخيلة في القرن IX، تحتل من جديد مكانا مركزيا. بين ثنايا المشهد الفكري الإسلامي المعاصر، باعتبارها رمزا للصراع الديموقراطي ؟ هذا، لأنها عرفت قبل ذلك في بغداد العباسيين، كيفية التشكيل الواضح للأسئلة الفلسفية والسياسية الجوهرية، عجز حتى الآن زعمائنا السياسيين المعاصرين عن الإجابة عنها : هل يجب الخضوع لقاعدة جائرة فقط لأنها كتبت من قبل الرجال ؟ إذا كانت الحقيقة بهاته البداهة، فلماذا لا نترك الوهم والخيال المبدع كي ينموان ؟ معجزة المشرق، أن ذكاء شهرزاد الثاقب واهتمامها بالقضايا السياسية والفلسفية، جعل منها مغرية ومدمرة بشكل مريع.

تعود أصلا قوتها الإقناعية إلى ثقتها في الذات، بسبب هذا المعطى الذي يمثل فن جوهر التواصل، فإن شهرزاد مدهشة. لا تصرخ حينما ينتابها الخوف، فهي لا تبدد طاقتها. توظف الصمت لمعرفة نوايا خصمها وتحديد نقطة ضعفه، وعلى ضوء ذلك توطد استراتيجيتها المضادة. إنها، متيقنة بكونها شخصية رائعة، تتوفر على ذكاء مذهل. لو ظنت نفسها حمقاء، سيقطع الملك رأسها. تؤمن كثيرا بقدرة الكائن الإنساني على تغيير مصيره. السحر فينا، تلك هي دعوة شهرزاد. نأتي إلى العالم، ونحن مسلحين جدا للدفاع عن أنفسنا : دماغنا سلاح لا يقهر. احترام الذات سر النجاح، ذاك هو مصدر افتتان المسلمين ب شهرزاد، الأمس مثل اليوم وسواء كانوا رجالا أو نساء. من هنا، قيمة تأويل ما يحدث لها حينما تعبر الحدود اتجاه الغرب.
هل ستمر تلك الملكة بسلاح الفصاحة أم ستفقد لسانها عند الحدود ؟ شيء يقيني : نعرف بالتأكيد رحيلها إلى الغرب، ووصولها باريس سنة 1704.



هامش:
1 Fatéma Mernissi : le Harem européen. Editions le Fennec, 2003, PP : 59-76

فاطمة المرنيسي - الجواري أو ثورة الحريم

لكل تاريخ علاماته ومراجعه، نظامه واضطرابه، عصوره الذهبية وتقهقره، وبين الإثنين تمر حوادث توضع في الحسبان. ومن ضمن الأحداث البالغة التأثير والمدروسة من طرف المؤرخين، الذين وضعوا أنفسهم دائماً موضع ملاحظين موالين للقصور، ثورة الزوج التي حدثت خلال العصر العباسي سنة 255هـ ، لقد كانت تلك أول ثورة للعبيد في الاسلام، إلا أنه بإمكاننا القول بأن ثورة العبيد الأولى كانت ثورة النساء، أي الجواري اللائي انطلقن لمهاجمة الخلفاء قبل هذا التاريخ بكثير. والصعوبة الوحيدة تتمثل في تأريخ بداية الحدث، أيرتبط بالتعرف على اسم الخليفة الأول الذي ضعف أمام إغراء جاريته المغنية؟ أهو يزيد الثاني بن عبدالملك الذي تسلم الحكم سنة 101هـ ، والذي وضع زمامه بين يدي جاريته حبابة، حسب الطبري. أم هي الخيزران أم الخليفة العباسي المهدي الذي تولى الحكم سنة 578هـ ؟
لم تكتف هذه الأخيرة كحبابة بإغراء زوجها، ولكنها حملته على أن يقتسم معها الحكم، وبعد وفاته ظل تأثيرها قائماً خلال فترة حكم ولديها الهادي وبعده هارون الرشيد.
استحدثت سلطة الجواري على الخلفاء تغيرات لم تتوقعها الشريعة في مركز النظام، وعلاقة النساء بممثل الله على الأرض. وعلى عكس الزنوج الذين حاولوا الاستيلاء على الحكم من الخارج، فإن الجواري كن يقدن عملياتهن في قصر الخلافة ذاته، على فراش وفي قلب ذلك الذي يجعل منه القانون سيداً مطلقاً على الأرواح والأموال.
إذا ما قارنا التأثير المحدود الذي مارسته ثورة الزنج التي قامت على المستوى العسكري، بثورة الجواري نجد هذه الأخيرة أعمق وأكثر استمراراً، لأنها تمت على مستوى العاطفي والإيروسي.
لم تعلن الجواري الحرب على أسيادهن، ولكنهن أحببنهم.
أثارت صورة الخليفة يزيد الثاني ـ المغرم بجاريته المغنية والشاعرة، إلى حد أنه كان يفقد حواسه وينطق أشياء لا معقولة ـ المؤرخين إلى حد كبير. فحتى المسعودي، الذي يفضل الحكاية عادة، يفقد خفة دمه حين يصل إلى الخليفة يزيد الثاني: ((وكان يزيد ذات يوم في مجلسه، وقد غنته حبابة وسلامة، فطرب طرباً شديداً ثم قال: أريد أن أطير، فقالت له حبابة: يا مولاي، فعلى من تدع الأمة وتدعنا؟)).
عندما توفيت حبابة في حادث إثر اختناقها بحبة رمانة، حزن يزيد إلى حد أنه نسي العالم وواجبه، والمؤمنين والكفار، ووجدت العاصمة الاسلامية نفسها مجبرة على أن تقيم الصلاة في غياب الخليفة، الذي رفض دفن حبابة وظل يبكيها رفضاً لمفارقتها، ناسياً الصلاة والدولة والمساجد وفرائض الجمعة، وبعدها بعدة أسابيع شيع المؤمنون خليفتهم إلى مثواه الأخير، وهو أول وربما آخر خليفة يتوفى من جراء مرض اعتبر ثانوياً حتى ذلك الحين، ألا وهو حب جارية.
تحامل كل المؤرخين على يزيد، بحيث أنه لن يستعيد مكانته واحترامه إلا على يد أبي الفرج الأصبهاني في كتابه ((الأغاني))، الذي ذكر حبابة ضمن الفنانين الذين ساهموا في ازدهار الشعر والغناء حيث اعتبرها شاعرة وعازفة موهوبة، واعتبر يزيداً رجلاً يتوفر على ذوق فني متقدم، أهله لكي يقدرها، وذلك على عكس تأويل المسعودي والطبري اللذين تبنيا وجهة نظر السلطة، ووصفا حبابة كمنحرفة وعدوة لله ودينه.
ورغم كونهما مؤمنين صادقين، لم ير كل من المسعودي والطبري في حبابة أكثر من مجرد جارية تبعد الخليفة عن مهمته. إن المؤرخين يحتقرون يزيداً لأنه أعلن حبه لجارية، إلى حد أنهم تجاهلوا ألبتة مقاربته التي تتسم بالتجديد على مستوى الممارسة السياسية، وأحاطوا بالصمت محاولته التحاور مع المعارضة، في حين أن القضاء على المعارضين كان من تقاليد الخلفاء السياسية وعاداته قبله. أما يزيد الثاني، فقد كان مسالماً، وشجع الحوار وبدا مفاوضات مع الذين يعارضونه، وهو أمر ليس بالهين. وإذا ما استحقت محاولات مماثلة قام بها الخليفة الأموي السابق عمر بن عبدالعزيز، تنويه المؤرخين، حيث أنه الخليفة الأموي الأول الذي تخلى عن قتل معارضيه من الشيعة وشرع في التحاور معهم، فإن شيئاً من ذلك لم يتحقق بالنسبة ليزيد، رغم أنه تابع نفس النهج، وسينظر إليه كرجل منحل وعاجز على المستوى السياسي.
هناك ملك آخر صنف كملك عظيم واستثنائي، أدى به واجبه كمسلم صادق إلى قتل الجارية التي أحبها، بدعوى أن هذا الشغف يتعارض معارضة شديدة مع مهمته السياسية.
يتعلق الأمر بعضد الدولة الذي حكم بين سنوات 338 و 372هـ ، الملك الثاني في دولة الأبايضة الشيعية، التي حكمت بغداد في القرن الرابع، وكانت سلطة الخليفة آنذاك قد استحالت إلى سلطة اسمية ورمزية. كان الأبايضة من الفرس، وكانوا ينتمون إلى الأرستقراطية العسكرية، التي استولت على الحكم محلياً في فارس أولاً، حيث استقروا كحكام على المنطقة، وحين دخلوا بغداد كقوة عسكرية احترموا صلاحيات الخليفة العباسي، الذي كان سنياً، وذلك رغم أنهم شيعة. وقد منحهم الخليفة ألقاباً، ووفروا له بدورهم الحماية التي كان محتاجاً إليها. وقد مكنت مراسيم تتويج الحاكم المحلي من طرف الخليفة، وكذلك الخطب وصلوات الجمعة وغيرها من المراسيم هذا الزواج الغريب إلى حد ما، بين رجال الدين والعسكريين، من البقاء، وإضفاء طابع الانسجام على العلاقات اليومية.
إلا أن عضد الدولة قام بأمرين إثنين يرفضهما كل مسلم وشكلا في الواقع إعلاناً عن بداية انهيار الخلافة كسلطة عليا: أولهما يتمثل في كونه القائد الاسلامي الأول الذي طالب بلقب شاهنشاه، الشيء الذي يشكل سبة فظيعة في وجه الاسلام، لأن هذا اللقب كان لقباً لملوك الفرس قبل الاسلام الذين حاربوه في البداية، وكان عضد الدولة يفتخر بانتسابه إليهم. أما الأمر الثاني فهو مطالبته بأن يذكر اسمه بعد اسم الخليفة في خطبة الجمعة، وفي ذلك منتهى الإهانة لنظام الخلافة نظراً لبعد هذه الخطبة الرمزي.
ولم ينل قتله لجارية بريئة حلت بها مصيبة إعجابه الشديد بها شيئاً من صورته كرجل سياسة. إن ما أقلق عضد الدولة في الحب، هو أنه لم يعد قادراً على التركيز، بعد خلوته الأولى مع الجارية، والتي يبدو أنها دامت عدة ليال، انتبه إلى أن شؤون الدولة قد تراكمت، وأحس بنفسه بئيساً لإهماله واجباته، وقرر أن لا يرى الجارية، ولكن شغفه بها دفعه إلى الالتقاء بها ثانية، حيث تكررت نفس الظاهرة.
من حسن الحظ أن هذه الفكرة الشاذة التي تؤدي إلى قتل المحبوبات لم تراود كل الخلفاء العرب، خاصة وأن الجواري وعلى عكس حبابة، لم يعدن يكتفين بإغراء الخليفة، ولكنهن أبن عن فهم كبير للسلطة السياسية، إلى حد أنهن شرعن في تقاسمها مع الخلفاء.
هناك جارية أخرى ظهرت في الساحة السياسية خلال العصر العباسي، إنها شغف أم الخليفة المقتدر، التي توفيت سنة 321هـ ، حيث نجحت في استمالة النخبة البيروقراطية والدينية والعسكرية بأكملها، لكي تنال الاعتراف بابنها كخليفة، وبما أنه لم يكن يتجاوز الثالثة عشرة، أصر القاضي أحمد بن يعقوب على عدم الاعتراف بالمقتدر، وأكد بصفته ممثلاً للسلطة الدينية بأن هذا الأخير لا زال طفلاً وأنه ليس مؤهلاً ليغدو خليفة. وقد قتل مع مجموعة كانت تقاسمه نفس الرأي.
ما إن حصلت النساء على السلطة حتى مارسن فظاعات لا يحسدهن الرجال عليها، معتمدات على نفس التبرير السياسي المقنع قبل اكتشاف الانتخاب، أي بالقوة الشرسة. وكما هو الشأن لدى الرجال، مارست النساء الاغتيال السياسي حين تدعو إليه الحاجة، معتمدات على وسائل أكثر قساوة، كالخنق أو دس السم عوض القتل بالسيف. ومن ثم، فإن الفرق بين ممارسة الرجال وممارسة النساء هنا، لا يتعدى التفاصيل التقنية. على كل حال لقد أضفى قتل القاضي مصداقية سياسية كبيرة على هذه الملكة التي لم يذكر المؤرخون اسمها مكتفين بذكر وظيفتها البيولوجية ((أم المقتدر))، أو بوظيفتها السياسية ((السيدة))، الذي يعني في البداية النساء الحرائر، ثم غدا يطلق على كل اللائي مارسن السلطة السياسية بشكل رسمي أو آخر.
كان تصور السيدة للسياسة ((نسائياً)) حسب تعبيرنا اليوم، وذلك أن شؤون الدولة تسير بشكل أفضل إذا ما سهرت عليها النساء، وخاصة مجال العدل. وأمام استنكار الوزراء والقضاة، عينت إحدى مساعداتها وتدعى ثومال على رأس المظالم. أي ما يوازي عندنا اليوم وزارة العدل. احتج القضاة الذين سيعملون تحت إمرة ثومال، أنكروا تعيينها واستبشعوها، وأشهروا معاداتهم المكرورة تجاه المرأة، ورفضوا التعاون مع المسؤولة الجديدة. ولكنهم عندما أدركوا بأن السيدة لا تعتزم البتة التنازل بشأن ثومال، طأطأوا رؤوسهم وقبلوا التعاون مع رئيستهم الجديدة، وكانت ذكرى القاضي يعقوب عالقة بأذهانهم.
يجب أن نعترف بموضوعية المؤرخين الكبار كالطبري حين يتعلق الأمر بالنساء، موضوعية نادراً ما نجدها لدى المحدثين. يخبرنا الطبري بأن ثومال قامت بمهمتها أحسن قيام، وأن الناس أحبوها وقدروا طريقتها في العمل رغم أنهم رفضوها في البداية، ويعود سبب ذلك إلى أن أول أمر أعطاه المقتدر بعد تعيينها هو القضاء على الفساد، وتخفيض واجبات المقاضاة، بحيث أصبح على المتقاضين دفع قدر قليل من المال لإنشاء ملفاتهم، هو ثمن الورق. ولا يقدمون مالاً إلى الملحقين أو الموظفين الصغار الآخرين الذين يحيطون بكبار موظفي العدل.
مع المؤرخين المحدثين، سنشهد شيئاً آخر أكثر مهارة، إنه إلغاء التفاصيل بشكل تام، ومن ثم توصف أم المقتدر من طرف د. علي إبراهيم حسن في كتابه ((نساء لهن في التاريخ الاسلامي نصيب))، بأنها نموذج يجسد الانهيار الذي يتهدد الدول ((؛ين تدع النساء يتدخلن في شؤونها)). إن طريقة هذا المؤرخ لا تزرع فينا الرغبة لممارسة السياسة. فالنساء الممتازات في رأيه هن الصحابيات اللائي نلن شرفاً يستحيل الحكم به اليوم، ونساء مثقفات توجهن لدراسة العلوم، لاشيء الذي لا يضمن البتة الوصول إلى الحكم. ونحن نعرف بأن المجال الذي تمكنت النساء المسلمات من التسرب إليه بقوة حتى الوقت الراهن هو الجامعة. ذلك أن المرأة المثقفة لا تزعج النظام، في حين أن السياسيات يزعزعن أسسه.
كانت صبح جارية الخليفة الحكم (وهو من أكبر الخلفاء الأمويين بالأندلس) تشتعل طموحاً، وكانت تحمل عيبين لا يغفرهما المسلمون: كونها أجنبية ومسيحية. وطبعاً لم تكن مثل هذه الأشياء لتمر بسلام إلا في حضارة الأندلس المنفتحة والعالمية.
والواقع أن الروم أقضوا مضجع الأمويين، وكان فتح الأندلس بمثابة عملية مستعادة يومياً، حيث كان الخلفاء يقودون جيوشهم في الغزوات، وفي إحداها سقطت صبح أسيرة بيد العرب.
كيف أمكن لصبح وهي أسيرة حرب أن تأخذ بزمام الأمة؟ يجب التوقف هنا قليلاً عند سر ارتقاء جارية في حريم إسلامي يعج بالسبايا، حيث المنافسة قوية. كيف السبيل إلى التميز وجلب اهتمام الخليفة؟ على عكس ما يمكن أن نفترضه، لم يكن الجمال والشباب كافيين، بل كان يلزم الجارية شيئاً آخر، وهو عند العرب يكمن في الذكاء والثقافة. وكل الجاري اللائي نلن إعجاب الخلفاء إلى حد أنهم قاسموهن الحكم، كن بدون استثناء متوفرات على هذا الذكاء المتميز الذي يضمن النجاح دائماً لمن يكتسبه، وهو أمر يصدق حتى يومنا بالنسبة للنساء والرجال على السواء.
لقد قدر الرجل العربي دائماً هذا الشكل من الذكاء الذي يكمن في رفض الرأي المتسرع، وإطلاق حكم على وضع أو حادث أو شخص قبل تحليله بتأن وتريث، وقد صنعت هذه الصفات نجاح أكثر من رجل وامرأة في الماضي والحاضر على السواء. وحين تتوفر المرأة على هذا النوع من الذكاء، إضافة إلى نوع من التواضع وبعض خفة الدم، فإن ذلك يقودها مباشرة إلى احتلال قلب الخليفة. من البديهي أن هذا النوع من الذكاء يتعلم، على الانسان إذا ما شاء التوفر عليه أن يلتقظ كل الأخبار، ويعرف كيف يختارها ويصنفها لكي يستعملها، حيث يجب وأنى يجب. وكان للعب بالكلمات المنظومة شعراً والاستشهادات القرآنية والإحالات التاريخية مكسباً ضرورياً، ولكي يتلاعب المرء بالكلمات، يجب عليه أن يعرفها، وكثير من الجواري اللائي نجحن في أن يصبحن محظيات لدى الخلفاء، كن يعرفن بدقة ما يجري في الامبراطورية، وكن متبحرات في العلوم الأساسية كالتاريخ والشعر، ولم تكن صبح إلا استثناء يرجح القاعدة.
يرجع الكثير من المؤرخين سبب إهمال الحكم لشؤون الدولة اليومية وانشغال زوجته بها، إلى اهتمامه الكبير بالعلوم والكتب، وخاصة حين تقدمت به السن. ولكن زوجته استشعرت الحاجة إلى من يساعدها، فقدم لها مرشح لكي يشغل وظيفة كاتب سيهز حياتها وحياة الامبراطورية الاسلامية. كان يدعى ابن أبي عامر، في سن السادسة والعشرين وكان عربي الأصل، فائق الجمال والثقافة، مهذباً ومطلعاً على العلوم الدينية، وذا قدرة على استخدام الوقت والناس حسب مشيئته، وسيصرح بعد ذلك بأن هناك فكرة لازمته منذ صغره وهي حكم الأندلس.
انبهرت صبح بالشاب شأنها في ذلك شأن الذين نظموا اللقاء في القصر، ومن هنا بدأت بين الملكة وكاتبها علاقة متينة، لم تخف على الخليفة ذاته، حيث قال للمقربين منه ذات يوم في ثنايا حديثه عن ابن عامر: ((هذا الفتى خلب عقول حرمنا)) هل كانا عشيقين أم أن الملكة ضحت برغبتها في سبيل واجبها كزوجة خليفة أولاً، وكأم خليفة ومسؤولة عن الأمة، بما أنها المكلفة بابنها بعد موت الحكم؟ هل ظلت علاقتها برجل من أكثر الرجال مدعاة للإعجاب في التاريخ الاسلامي أو في التاريخ، في إطار التعاون السياسي فحسب؟ لقد ناقش المؤرخون القدماء والمحدثون على السواء هذه المسألة، ويوفر ذلك فرصة من الفرص العديدة التي تمكننا من تبين العداء الذي يكنه هؤلاء أو أولئك للمرأة.
إن النقاش حول حياة صبح الجنسية دال بهذا الشأن، ويبدأ المقري بالقول بأن ابن أبي عامر سيغدو الحاكم الفعلي للأندلس خلال وقت قصير، وأنه سيبعد صبح ويحتفظ بابنها هشام بن الحكم رهينة في قصره، وقد أثار الحسد الكثيرين دائماً وحيكت حوله الدسائس. ويشرح المقري بأن ذلك ما يحصل حين يتعلق الأمر بانسان محظوظ ذي مواهب متعددة، بحيث ينجح في كل ما يقدم عليه نجاحاً باهراً، وتلك كانت حالة ابن أبي عامر.. ونستشعر موقفه المحايد بشأن العلاقة بين صبح وابن أبي عامر، من خلال ما قاله عن ظروف تعارفهما العادية جداً، بين كاتب مغمور وزوجة خليفة، لقد أتى ابن أبي عامر قرطبة لطلب العلم، ثم امتهن الكتابة أمام باب قصر الحكم، ((إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها، فعرفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقى إلى أن كتب عنها فاستحسنته ونبهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة)).
يشرع المقري في تبرئة صبح ضد هذه الاتهامات ويخلص إلى أن الله وحده عالم بسر الأمور.
مع ا لمؤرخين المحدثين، ستوضع صبح مبدئياً بأنها متآمرة مبتذلة وغبية في نفس الآن، إذ سقطت في حبال كاتبها الذي كانت السلطة همه الوحيد، ومن هؤلاء محمد عبدالله عنان صاحب كتاب ((تراجم إسلامية)) الذي جعل من الخليفة الحكم وصبح شخصيتين من شخصيات المسلسلات المصرية الرديئة: كان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها، يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه ووحيه، وكان إعجابها الشديد بمقدرته وثقته يضاعف ثقتها به... هذا إذا لم نفرض أن تلك الفرنجية المضطرمة الجوانح كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر.. غدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة وتناولها بلاذع التعليق والهجو.
ويبدو أن المؤرخين القدماء كانوا يمتلكون رؤية مغايرة للمؤرخين المحدثين بشأن علاقة النساء بالسياسة، لقد كانوا يسمون الملكات بألقابهن ويحاولون فهم دوافعهن كما يفعلون مع الرجال ويقولون بإمكانية زواج الجواري من الخلفاء، وتسييرهن لشؤون الدولة انطلاقاً من الحريم، إضافة إلى أن بإمكان أبناء الخلفاء منهن أن يصبحوا خلفاء.
إن أكثر الطرق تسلية لفهم ظاهرة الجواري، وكيف أن النساء لم يكتفين بالتحكم في الخلفاء فحسب، بل اقتسمن معهم الحكم في مجال إسلامي يخضع للتراتبية ويفرضها، هي اختراق حميمية الخيزران والخلفاء الذين تعاقبوا في حياتها. وبإمكاننا أن ندرك من خلال النموذج الذي تمثله، حدود سلطة الجواري المرتبطة غالباً بمجال تحركهن، وبالتالي فإنه لا يمكن اعتبار أية واحدة من هؤلاء النساء اللائي أطلقن عملياتهن من الحريم رئيسة دولة، سواء تعلق الأمر بأم المقتدر أو بصبح أو الخيزران. كان عليهن من أجل نيل هذا المنصب، أن يتجاوزن الحد الفاصل بين مجال النساء ومجال الرجال.



---------------------------
المصدر: سلطانات منسيات



.
أعلى