عثمان شنقر - القدّال..

القدّال

مشهد قديم:
.. في بيته الكائن، على بعد خطوات من بيت الدوش، في تقارب رمزي؛ شعري ووجداني وجوار سكني، كنا نختلف إلى منزله العامر في أمسيات أيام الجمع: ثلة من شباب يكتبون الشّعر والقصة والنقد. نتحلّق في الصالون بحرية تامة، وعندما يلقي المساء بظلاله نخرج للفسحة الخارجية لتعمر الونسة من جديد عن الشعر والناس والعلاقات والسودان القديم.
كنا نطوف بين بيتي القدال والدوش، ونمكث أكثر في بيت الأخير، وحين يكون في بيته ضيوف من "حليوة" كان يتركنا مع الدوش ويسرع ليكرم وفادة أهله. والدوش ما يفتأ يقرأ الشعر ويطرق على الحائط بكفة يده اليسرى و يقرأ: " ... وأحفر في الجدار تاني، مكان على قدر أحزاني" ! فيطرب بهنس وتشيله هوشة النشوة من الشعر الصافي فيضطرب ويصدر أصواتا تزعج الدوش قليلا، ويكاد يقطع قراءة النّص، فيدخل القدّال ويطلب المزيد. والقدّال لا يقرأ شعرا في حضرة الدوش إجلالا وإكراما لمقام الشاعر الكبير.
ويمضي الزمن سريعا، فنتلكأ في الخروج لا نريد أن نذهب إلى بيوتنا من فرط الجمال الذي يحف الأمسية شعرا وأنساً بديعا في حضرة إثنين من أميز شعراء السودان العظيم.
مشهد هامشي:
حين صدر ديوانه الموسوم بـــ"أغنيات لحليوة" مشتملا على أبرز قصائد تلك الفترة، أهداني نسخة من الكتاب بإهداء غاية في اللطف والشاعرية. وكان تخطيطي أن أقوم بالكتابة عن الديوان، لكنني تهيبت الأمر، و أنا دائما أتهيب الكتابة وخاصّة الكتابة حول الشعر. ربما كان يتوقع أنني سوف أكتب عن الديوان وأنشر حوله مقالا، على الأقل عرضا صحفيا لمحتواه وعوالمه الشعرية ورؤاه الخلاقة. لكنني تهيبت الأمر وأرجأته إلى حين بغرض الإحاطة بتجربته الشعرية والتعرف عليها أكثر حتى يتسنى لي الكتابة. وكنتُ مخطئا.
مشهد في العمق:
مرة سألته:
- لماذا قررت أن تسكن أمبدة السبيل؟
قال بدون تردد:
- لكي أكون قريبا من عمر ( يقصد عمر الدوش)!
مشهد خارجي:
إلتقيته ذات عصرية مورقة، في قلب السوق العربي، بجوار القبة الخضراء "مول الواحة حاليا". وكان سعيدا. كان يشهر في وجهي ابتسامته العريضة. وحين رأى إمارات التساؤل عن سبب الفرح ترتسم على جبيني ، أخبرني أن صديقه الشاعر الكبير الذي اغترب بالمملكة العربية السعودية لفترة وجيزة، قرر أن يتزوج وهو في طريقه لأهل العروس ليتحدث لولي أمرها. كان فرحه طفوليا أصيلا وأصابتني عدوى الفرح التي بثها فيني وكنت سعيدا طيلة ذلك الأسبوع بسبب عدوى القدال المبهجة.
مشهد عام:
وفي أمبدة يسكن الكاتب والمسرحي الكبير يحي فضل الله، والممثل المسرحي العظيم الرشيد أحمد عيسى، و الشاعر الأصيل عمر الطيب الدوش، والشاعر الصادق الرضي، ومحمود محمد مدني، وآخرون كثر. وكنت أنا سعيدا، مبتهجا، ممنونا لهذه الجيرة العظيمة، ومن فرط ولعي بهم، كنت أطوف بين هذه البيوت الرحيبة بالشعر والمسرح والأدب الرفيع، ومن قبل كل هذا الأنس العامر.
... والقدّال يسكن أمبدة لكي يكون بجوار عمر الدوش ! يا الله! يا الله!
كنت وقتها غشيما، لم أفهم المعنى. ومضت السنوات وفهمت وكبرت. فهمت بعد الأوان.
مشهد ليس في الحسبان:
مضى راضيا وهو يرى براعم قصائده تنمو وتنتج ثورة تزيل ركام الأوضار التي لوثت أرض السودان البكر لثلاثة عقود.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى