أنطون تشيخوف - صه! Тссс!.. ترجمة: محمود البدوي

يعود ايفان كراز نوكين، وهو محرر متوسط في صحيفة يومية، دائما لمنزله في ساعة متأخرة من الليل مكتئبا حزينا، على سحنته الوقار وفي مشيته الجلال. وأحيانا تراه جامعا أشتات فكره مستغرقا بكليته في تصوره كأنما يترقب أن يفتش أو يفكر في الانتحار. ذرع عرض غرفته، ثم توقف ونفش شعره وقال في لهجة (لابرتس) منتقما لأخته (إنني حائر تعب ملتاع إلى ابعد قرارات النفس. إن الحزن يجثم على قلبي، ويهيمن على جسمي، ومع هذا فلزاما علي أن اجلس لأكتب. . وهذا ما يسميه الناس (العيش)

ليت شعري لم يصف كاتب حتى اليوم هذا الخبل الذهني المؤلم، وهذا

الاضطراب الفكري الشديد الذي يعذب روح المؤلف ويؤلم نفسه.

فعندما يكون حزينا حزنا يذيب لفائف القلب، يجب عليه أن يبعث

الجمهور على الطرب المستخف والسرور العظيم. وعندما يكون فرحا

يثلج الصدر ويبهج القلب يجب عليه أن يرسل الدمع الهتان وينفث

الحزن الدفين.

أجل! يجب علي أن أكون مرحا مستهترا لا أكترث لشيء ولا أحفل به. مليح النكتة بارع الدعابة عندما ينوء بي الهم ويقتلني الحزن. حتى إذا كنت (دعني أقول) مريضاً. . . إذا كان طفلي في نزعه الأخير. . . وكانت زوجي تنهشها الأحزان وتفترسها الآلام

لما فرغ من قوله هز جمع يده وأدار حماليقه. ثم دلف إلى المخدع وأيقظ زوجه. وقال: (ناديا!. . سآخذ في الكتابة. أرجو أن تحرصي على ألا يقاطعني أحد أو يمنعني من العمل إنسان. فما أستطيع الكتابة والجدي ينب والطاهي يغط! ثم قدمي أيظاً بعض الشاي وشريحة من اللحم، إذا أمكن، فأنت تعرفين أني لا أوفق إلى الكتابة إلا إذا شربت شايي، فالشاي وحده هو الذي يبعث في القوة على العمل.)

أخذ سمته إلى غرفته وخلع معطفه وصدريته وحذاءه. نضا عنه ثيابه بتأن تام. ثم كون ملامح وجهه حتى أصبحت تعبر عن الإنسان البريء المعذب (وجلس إلى مكتبه) على هذا المكتب لا تقع عين الإنسان على حقائر الأشياء اليومية وصغائرها. فكل الأشياء وأتفهها تنقلب ذات معنى، ويظهر عليها برنامج عابس! هنا تماثيل نصفية وصور شمسية لمؤلفين عظيمي الشهرة ذائعي الصيت. وهناك كوم من المخطوطات ومجلد بمؤلفات بلينيسكي ومنه صفحة مقلوبة. ثم عظام رأس تستعمل محبرة وصفحة من جريدة طويت كما يتفق، بيد أنها تعرض عمودا معلما عليه بالقلم الأزرق بالخط العريض (جبان) وهناك جمهرة من الأقلام المبرية حديثا وريش بأسنان جديدة حتى لا يمكن لأي سبب خارجي أو حادث عارضي أن يمنع التحليق السامي لهذه المخيلة المبدعة!!

ألقى كرازنوكين نفسه على كرسيه المريح وراح يفكر في موضوع فسمع زوجه تضرب الأرض بخفها تشقق قطع الخشب (للسيماور) وخيل إليه أنها مازالت وسنانة لأن غطاء السيماور أو رجله كان يسقط من يدها بين آونة وأخرى. ووصل إلى سمعه نشيش المغلاة وأزيز اللحم المقلي، وزوجه مازالت تشق الخشب مفرقعة قرب الموقد. مغلقة بشدة باب الفرن مرة، وأخرى النافذة الهوائية، وآونة أخرى باب المدفئة. فأرتجف كرازنوكين، وفتح عينين يملؤهما الرعب ويتطاير منهما الشرر. وأخذ ينشق الهواء ويلهث (رحمتك الهم!. . . دخان الفحم؟. . . هذه المرأة التي لا تطاق عزمت على خنقي. . قل لي بالله كيف أوفق للكتابة في حالات كهذه؟)

جرى إلى المطبخ يولول وينوح، وبعد برهة عادت زوجه تمشي على أطراف أصابعها مقدمة له قدحا من الشاي فوجدته جالسا على كرسيه الطويل كما كان من قبل! لا يبدي حراكا ولا يحرك جارحة غارقا في موضوعه، فلم يتحرك، وأخذ ينقر بخفة على جبهته بأطراف أصابعه متظاهرا بأنه لا يلاحظ وجودها ووجهه يعبر مرة ثانية عن: (البريء المعذب)

قبل أن يكتب العنوان أخذ يتملقه ويدلله مدة طويلة! كأنه عذراء أهداها بعض الناس مروحة جميلة! آونة يمر بيديه على صدغيه وأخرى يرتجف ويهتز جميعه ساحبا قدمه من تحت كرسيه كالمتألم. مغلقا نصف عينيه بفتور كقطة على فراش.

وأخيرا بعد تردد دنا من الدواة وسطر العنوان وكأنه يوقع صك الموت. . . .

سمع صياح ابنه (ماما!. . قليل من الماء) فأجابته أمه (صه!. . بابا يكتب. . . صه!)

كان الأب يكتب بسرعة مدهشة دون توقف، دون أن يمحو حرفا أو يشطب كلمة وليس عنده من الوقت ما يتسع لقلب الصفحات أما التماثيل النصفية والصور الشمسية لمشهوري المؤلفين فكانت ترقب يراعه الجوال وقلبه السيال وكأنها تفكر (اها. . . أخواه استمر. . . .)

خدش القلم (صه)

فجلجل المؤلفون وقد اهتزوا بدفعة من ركبة الكاتب (صه) عاد كرازنوكين إلى نفسه ووضع قلمه وتسمع. فسمع همسات متزنة لا تنقطع. وكان ذلك صوت فوما نيكوليتش الساكن معهم وهو يصلي في الغرفة المجاورة.

فناداه كرازنوكين (أعرني سمعك!. أما تستطيع الصلاة بأسرع من هذا؟. . انك تحول بيني وبين الكتابة)

فأجابه فوما نيكوليتش بحياء ووداعة (أستمحيك العفو يا سيدي) (صه!)

بعد أن كتب صفحات خمساً تمدد ونظر إلى الساعة وتأوه. (يا للسماء!. . الساعة الثالثة!. . الناس جميعا مستريحون نيام. . . وأنا وحدي. . أنا. . يجب علي أن أعمل)

بعد أن استفرغ العمل جهده وأفنى قوته أخذ طريقه إلى المخدع ضارع الجسم، واهن القوى ورأسه ساقط على عاتقه. أيقظ زوجه صائحا بها مكدود الصوت (ناديا. . . قدحاً آخر من الشاي. . . إني. . . إني أشعر بضعف)

كتب إلى الساعة الرابعة وود لو استمر في كتابته إلى الساعة السادسة بيد انه أنجز عمله وفرغ من موضوعه

زهوه العجيب وفرحه الغريب بهذه الأعمال الجامدة ولا بصيرة عنده ولا فراسة له! استبداده وجوره، عسفه وظلمه، في مسكن النحل الصغير التي خولت له الأقدار السلطان عليه وأعطته مقاليد الأمر فيه. هذه عنده أطايب الحياة وزبدة ما فيها.

كم يشابه هذا الاستبداد الذي تراه في المنزل هذه الأجناس الذليلة الصامتة التي يخالط كلامها التورية والتي اعتدنا رؤيتها في مكاتب الصحف.

قال لنفسه وهو ذاهب لفراشه (إني تعب جدا حتى يخيل إلي إنني لن أستطيع النوم. . .

فعملنا الجهنمي الذي لا نلاقي منه جزاء ولا شكورا لا يجهد الجسم كما يجهد القريحة، على إنني سأتناول مقويا. . والله يعلم لو لم يكن هذا لخير الأسرة لنفضت منه يدي. . . . . . . أه. . انه مرعب أن يكتب الإنسان ويجبر على العمل هكذا!!)

استغرق في سبات عميق. . . فنام حتى الساعة الواحدة أو الاثنتين بعد الظهر، وما الذي كان ينامه أطول أو يحلمه ألذ. . إذا كان مؤلفا مشهورا أو محررا بارعا. أو حتى ناشرا؟

همست زوجه بوجه مرتاع (كتب سحابة الليل!. . صه!)

ما جرؤ أحد على الكلام أو السير أو التصويت فنومه مقدس ومن يذنب فيقطع هذا السكون ويشوش هذا الهدوء، فعليه أن يدفع عن هذا غاليا.

(صه!. . . . صه!)

ورن هذا الصوت في جميع الحجرات

محمود البدوي


قصة قصيرة لأنطون تشيخوف نشرت عام 1886.
نشرت هذه الترجمة في العدد 23 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ: 11 ديسمبر 1933






أنطون تشيخوف - الجورب الوردي.. ترجمة: محمود البدوي

أخذ السحاب الجون يتكاثف حتى حجب السماء، وطبق الأرض، وأرسل المطر هتانة، حتى أصبح إقلاعه بعيداً أمده. فجاء اليوم عابس الوجه. لا ترى في أرضه غير البرد الساقط، وطير الزاغ ويبلله القطر، وفي داخل المنازل امتد غبش الليل واشتد قارس البرد حتى أمسيت تشعر بالحاجة الشديدة لحرارة المدفئة.

كان بافيل بتروفيتش سوموف يروح ويغدو في مكتبه متأففا من الجو متبرما به، فسفعات المطر للنوافذ والظلام الشامل للغرفة حملاه على الاستياء الشديد والتذمر المر، ولقد كان ضجره لا يحتمل وما كان في يديه ما يشغله. . فالجريدة لم تصل إليه حتى الساعة والصيد متعذر حصوله، صعب بلوغه، وما كان الوقت وقت عشاء.

لم يكن سوموف وحيداً في غرفة عمله، فقد جلست إلى مكتبه مدام سوموف وهي حسناء نحيلة في غلالة بيضاء وجورب وردي، وكانت منهمكة في تحبير رسالة، وكان إيفان بتروفيتش عندما يحاذيها في جيئته وذهابه ينظر من وراء كتفيها ما تكتب فيرى حروفا كبيرة ودقيقة وضيقة منمقة غاية التنميق! لها ذيول وبها كثير جدا من الطمس والمسح والتلويث وأثر الأصابع، وكانت مدام سوموف لا تحب الورق المسطر، وكل سطر تكتبه ينحدر بتعرجات قبيحة حتى ينتهي إلى الهامش.

سأل سوموف زوجه حين رآها تبدأ الكتابة في الصفحة السادسة (لمن تكتبين مثل هذه الرسالة الضافية يا ليدوتشكا؟)

- إلى الأخت فاريا

- أوه!. . خطاب مسهب. . أنني ضجر. . دعيني أقرأه

- لك أن تقرأه. . بيد أنه لا يلذك

تناول سوموف الصفحات المكتوبة وهو يذرع أرض الغرفة وأخذ يقرأ. .

ارتفقت ليدوتشكا على ظهر كرسيها وجعلت ترقب ما على وجهه من تعابير. . استطال وجهه بعد الصفحة الأولى وظهرت عليه ملامح الرعب!! وفي الصفحة الثالثة قطب جبينه وحك مؤخر رأسه، وفي الصفحة الرابعة أمسك عن القراءة ونظر بوجه المرتاع إلى زوجه. . وتظاهر بالتأمل. وبعد تفكير قليل تنأول الرسالة ثانية وهو يتأوه وعلى وجهه أثر الارتباك والحيرة ثم الأرجاف والفزع.

لما فرغ من قراءة الرسالة قال متمتما: (حسن!. . هذا لا يجوز! ورمى بالأوراق على المكتب، هذا لا يصدق، ما في ذلك ريب. . .).

فسألته ليدوتشكا وقد امتقع لونها: ما الخبر؟

- ما الخبر؟ تملئين صفحات ستا وتمضين ساعتين في خرفشة لا معنى لها ولا طائل تحتها. . . ولا شيء فيها بالمرة. . آه لو كان بها ولو فكرة ضئيلة! يقرأ المرء ثم يقرأ وفكره مشوش، وذهنه مضطرب كأنما يفك أغلاقا صينية عن صناديق شاي! أوه!

قالت ليدوتشكا وقد ضرج وجهها الحياء: هذا صحيح يا فانا. . كتبته دون عناية

- أجابها: إهمال زائد عن الحد. . ففي رسالة غير منمقة ولا محبرة. . . معان وأسلوب. . وإحساس، أما رسالتك فسامحيني، ان قلت لك بأني لا أتذوق لها طعما. . جمل وكلمات لا إحساس فيها ولا معنى لها. خطابك جميعه. . كمحادثة بين صبيين (عندنا عجة اليوم. . جاء جندي ليرانا. .) انك تكررين المعنى الغث البارد، لك أن تريه وتعيديه بنفسك. أما الفكرة السخيفة فترقص بين السطور كالشياطين ولا حد عندك للبدء من النهاية. . كيف تكتبين هكذا؟

قالت ليدوتشكا تدافع عن نفسها: إذا كنت أكتب بتجويد وعناية. . لا يمكن أن تكون هناك غلطات.

فأجابها زوجها: إنني لا أتكلم عن الأخطاء. . الأخطاء النحوية المروعة. لا يوجد سطر لا يعد إهانة شخصية للنحو. لا وقف ولا علامات ولا هجاء! إنه يأس مريع! إنني لا أمزح يا ليدا فأنا مروع فزع من رسالتك، لا تحزني يا عزيزتي فما كنت أظن في الواقع أنك تجهلين النحو هكذا. . . مع أنك تنتمين إلى بيئة مثقفة ودرجت في بيت علم. فأنت زوجة رجل جامعي وابنة قائد. قولي لي أذهبت إلى المدرسة؟

- نعم لقد تعلمت في مدرسة فون مبكي الداخلية.

فهز سوموف كتفيه واستمر في مشيته متأوها. . . أما ليدوتشكا العالمة بجهلها فتنهدت ثم نكست رأسها. مرت عليهما دقائق عشر ما نطقا فيها بحرف.

وقف سوموف فجأة أمامها ونظر إلى وجهها برعب وقال: إنك تعرفين يا ليدوتشكا أن الأمر جد! أنك أم!. . . أتفهمين؟. . أم!. . كيف تعلمين بنيك إذا كنت لا تفهمين شيئا؟ أنك ذات عقلية خصبة وذهنية نيرة. . . ولكن ما جدوى ذلك إذا كنت تجهلين كل شيء. فلا تعرفين شيئا من الآداب ولا من العلوم على أننا سنغض النظر عن المعارف، لأن الأطفال سيتعلمون ذلك في المدرسة، ولكنك تعرفين ضعفك في الأدب وبلادتك فيه، تستعملين في بعض الاحيان لغة تجعل أذني في طنين!

ثم هز سوموف كتفيه مرة أخرى وجمع إليه ثوبه واستمر في سيره. . . شاعرا بالغيظ والحنق، وفي الوقت نفسه آسفا على ليدوتشكا التي لم تحتج ولم تعترض، ولكنها اكتفت بأن ترمقه من طرف خفي. وأحسا معا بالضيق الجاثم على قلبيهما، والهم المتمكن من نفسيهما، حتى أذهلهما الحزن عن كل شيء فلم يدريا كيف مر الزمن وكيف قربت ساعة العشاء.

ولما جلسا للطعام شرب سوموف المولع بالطعام الشهي الهني قدحا كبيرا من الفودكا وشقق الحديث فأداره على وجوه أخر. وكانت ليدوتشكا تسمع لما يقول مسلمة راضية. بيد أنها وهي تشرب الحساء أخضلت عيونها بالدمع ثم خنقتها العبرات.

فنهنهت دمعها بمنديل وقالت: (إنها غلطة والدتي! نصحها جميع الناس بإرسالي إلى مدرسة عالية، ومن هناك كنت على يقين من ذهابي إلى الجامعة).

فتمتم سوموف (الجامعة!. . . مدرسة عالية!. هذا كثير يا بنيتي! ما الفائدة من أن تكوني احدى ذوات الجورب الأزرق! الجورب الأزرق هو الشيطان الرجيم في نار الجحيم!! لا يمسي صاحبه رجلا ولا امرأة، وإنما يكون شيئا بين بين، أني أبغض من كل قلبي الجوارب الزرقاء. . . ولن أتزوج امرأة متعلمة).

فأجابته ليدوتشكا! لا أدري كيف أفهمك؟ تغضب لأني لست متعلمة وفي الوقت نفسه تكره النساء المتعلمات! لقد تنكرت لي وسخرت بي لأن رسالتي كانت خلوا من كل فكرة، فارغة من كل معنى، ومع هذا فأنت تعارض في دراستي ولا تستحسن تعلمي.

- لقد أصبت شاكلة السداد يا عزيزتي. قال هذا سوموف وهو يتثاءب ثم ملأ قدحا آخر من الفودكا.

تحت تأثير الفودكا والطعام الجيد أصبح سوموف أكثر رقة ودماثة. أخذ يرقب باهتمام زائد زوجه الحسناء وهي تعمل التوابل. فغمره فيض من الحنان المحض والحب الشديد، ودفعته عاطفة ملحة إلى النسيان والتسامح، ثم أخذ يحدث نفسه ويلومها: إنها غباوة مني أن أغضب هذه الفتاة المسكينة! ما الذي حملني على الجهر بكل هذه الأشياء الجارحة. إنها غبية، ذلك حق. . غير مثقفة. . سطحية. . بيد إن للمسألة وجهين. . . . . .

(والوجه الآخر مفهوم.). . . . ربما يكون الناس على حق عندما يقولون أن سطحية المرأة ترجع إلى حرفتها. ومن المسلم به أن من عملها أن تحب زوجها وتربي أطفالها، ثم تصنع التوابل!! فما الذي ترجوه من التعليم؟ لا شيء على التحقيق.

وهنا ذكر أن النساء المتعلمات غالبا مملات يبعثن الضجر والسأم في النفس، ثم هن دقيقات صارمات عنيدات. ولكن ما أيسر توفيقك مع الغبية ليدوتشكا التي لا تشمخ بأنفها. . ولا تصعر خدها ولا تفهم كثيرا. . . أنه السلام والراحة مع ليدوتشكا ولا خطر منها على المرء أبدا: (لعنة الله على أولئك النسوة البارعات المتعلمات! ولخير للمرء وأحسن عقبى أن يعيش مع الساذجات منهن). ثم دار بخلده وهو يتناول صحنا من لحم الفروج من ليدوتشكا أنه في بعض الاحيان قد يشعر الرجل المثقف بالرغبة الشديدة في الحديث ومبادلة الأفكار مع امرأة حاذقة كاملة التعليم. ولكنه قال: (ما هذا) إذا رغبت في التحدث عن موضوعات عقلية. . . فسأذهب إلى (ناتالا أندريفنا) أو إلى (ماريا فرانتسوفنا)، هذا سهل جدا. . . ولكن لا. لن أذهب فالمرء يستطيع البحث فيالأمور العقلية مع الرجال. ثم قطع بهذا أخيراً!!!

محمود البدوي



* أنطون تشيخوف نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 20 من مجلة الرسالة والذيي نشر بتاريخ 1 نوفمبر 1933



أنطون تشيخوف - الجورب الوردي.. ترجمة: محمود البدوي

أخذ السحاب الجون يتكاثف حتى حجب السماء، وطبق الأرض، وأرسل المطر هتانة، حتى أصبح إقلاعه بعيداً أمده. فجاء اليوم عابس الوجه. لا ترى في أرضه غير البرد الساقط، وطير الزاغ ويبلله القطر، وفي داخل المنازل امتد غبش الليل واشتد قارس البرد حتى أمسيت تشعر بالحاجة الشديدة لحرارة المدفئة.

كان بافيل بتروفيتش سوموف يروح ويغدو في مكتبه متأففا من الجو متبرما به، فسفعات المطر للنوافذ والظلام الشامل للغرفة حملاه على الاستياء الشديد والتذمر المر، ولقد كان ضجره لا يحتمل وما كان في يديه ما يشغله. . فالجريدة لم تصل إليه حتى الساعة والصيد متعذر حصوله، صعب بلوغه، وما كان الوقت وقت عشاء.

لم يكن سوموف وحيداً في غرفة عمله، فقد جلست إلى مكتبه مدام سوموف وهي حسناء نحيلة في غلالة بيضاء وجورب وردي، وكانت منهمكة في تحبير رسالة، وكان إيفان بتروفيتش عندما يحاذيها في جيئته وذهابه ينظر من وراء كتفيها ما تكتب فيرى حروفا كبيرة ودقيقة وضيقة منمقة غاية التنميق! لها ذيول وبها كثير جدا من الطمس والمسح والتلويث وأثر الأصابع، وكانت مدام سوموف لا تحب الورق المسطر، وكل سطر تكتبه ينحدر بتعرجات قبيحة حتى ينتهي إلى الهامش.

سأل سوموف زوجه حين رآها تبدأ الكتابة في الصفحة السادسة (لمن تكتبين مثل هذه الرسالة الضافية يا ليدوتشكا؟)

- إلى الأخت فاريا

- أوه!. . خطاب مسهب. . أنني ضجر. . دعيني أقرأه

- لك أن تقرأه. . بيد أنه لا يلذك

تناول سوموف الصفحات المكتوبة وهو يذرع أرض الغرفة وأخذ يقرأ. .

ارتفقت ليدوتشكا على ظهر كرسيها وجعلت ترقب ما على وجهه من تعابير. . استطال وجهه بعد الصفحة الأولى وظهرت عليه ملامح الرعب!! وفي الصفحة الثالثة قطب جبينه وحك مؤخر رأسه، وفي الصفحة الرابعة أمسك عن القراءة ونظر بوجه المرتاع إلى زوجه. . وتظاهر بالتأمل. وبعد تفكير قليل تنأول الرسالة ثانية وهو يتأوه وعلى وجهه أثر الارتباك والحيرة ثم الأرجاف والفزع.

لما فرغ من قراءة الرسالة قال متمتما: (حسن!. . هذا لا يجوز! ورمى بالأوراق على المكتب، هذا لا يصدق، ما في ذلك ريب. . .).

فسألته ليدوتشكا وقد امتقع لونها: ما الخبر؟

- ما الخبر؟ تملئين صفحات ستا وتمضين ساعتين في خرفشة لا معنى لها ولا طائل تحتها. . . ولا شيء فيها بالمرة. . آه لو كان بها ولو فكرة ضئيلة! يقرأ المرء ثم يقرأ وفكره مشوش، وذهنه مضطرب كأنما يفك أغلاقا صينية عن صناديق شاي! أوه!

قالت ليدوتشكا وقد ضرج وجهها الحياء: هذا صحيح يا فانا. . كتبته دون عناية

- أجابها: إهمال زائد عن الحد. . ففي رسالة غير منمقة ولا محبرة. . . معان وأسلوب. . وإحساس، أما رسالتك فسامحيني، ان قلت لك بأني لا أتذوق لها طعما. . جمل وكلمات لا إحساس فيها ولا معنى لها. خطابك جميعه. . كمحادثة بين صبيين (عندنا عجة اليوم. . جاء جندي ليرانا. .) انك تكررين المعنى الغث البارد، لك أن تريه وتعيديه بنفسك. أما الفكرة السخيفة فترقص بين السطور كالشياطين ولا حد عندك للبدء من النهاية. . كيف تكتبين هكذا؟

قالت ليدوتشكا تدافع عن نفسها: إذا كنت أكتب بتجويد وعناية. . لا يمكن أن تكون هناك غلطات.

فأجابها زوجها: إنني لا أتكلم عن الأخطاء. . الأخطاء النحوية المروعة. لا يوجد سطر لا يعد إهانة شخصية للنحو. لا وقف ولا علامات ولا هجاء! إنه يأس مريع! إنني لا أمزح يا ليدا فأنا مروع فزع من رسالتك، لا تحزني يا عزيزتي فما كنت أظن في الواقع أنك تجهلين النحو هكذا. . . مع أنك تنتمين إلى بيئة مثقفة ودرجت في بيت علم. فأنت زوجة رجل جامعي وابنة قائد. قولي لي أذهبت إلى المدرسة؟

- نعم لقد تعلمت في مدرسة فون مبكي الداخلية.

فهز سوموف كتفيه واستمر في مشيته متأوها. . . أما ليدوتشكا العالمة بجهلها فتنهدت ثم نكست رأسها. مرت عليهما دقائق عشر ما نطقا فيها بحرف.

وقف سوموف فجأة أمامها ونظر إلى وجهها برعب وقال: إنك تعرفين يا ليدوتشكا أن الأمر جد! أنك أم!. . . أتفهمين؟. . أم!. . كيف تعلمين بنيك إذا كنت لا تفهمين شيئا؟ أنك ذات عقلية خصبة وذهنية نيرة. . . ولكن ما جدوى ذلك إذا كنت تجهلين كل شيء. فلا تعرفين شيئا من الآداب ولا من العلوم على أننا سنغض النظر عن المعارف، لأن الأطفال سيتعلمون ذلك في المدرسة، ولكنك تعرفين ضعفك في الأدب وبلادتك فيه، تستعملين في بعض الاحيان لغة تجعل أذني في طنين!

ثم هز سوموف كتفيه مرة أخرى وجمع إليه ثوبه واستمر في سيره. . . شاعرا بالغيظ والحنق، وفي الوقت نفسه آسفا على ليدوتشكا التي لم تحتج ولم تعترض، ولكنها اكتفت بأن ترمقه من طرف خفي. وأحسا معا بالضيق الجاثم على قلبيهما، والهم المتمكن من نفسيهما، حتى أذهلهما الحزن عن كل شيء فلم يدريا كيف مر الزمن وكيف قربت ساعة العشاء.

ولما جلسا للطعام شرب سوموف المولع بالطعام الشهي الهني قدحا كبيرا من الفودكا وشقق الحديث فأداره على وجوه أخر. وكانت ليدوتشكا تسمع لما يقول مسلمة راضية. بيد أنها وهي تشرب الحساء أخضلت عيونها بالدمع ثم خنقتها العبرات.

فنهنهت دمعها بمنديل وقالت: (إنها غلطة والدتي! نصحها جميع الناس بإرسالي إلى مدرسة عالية، ومن هناك كنت على يقين من ذهابي إلى الجامعة).

فتمتم سوموف (الجامعة!. . . مدرسة عالية!. هذا كثير يا بنيتي! ما الفائدة من أن تكوني احدى ذوات الجورب الأزرق! الجورب الأزرق هو الشيطان الرجيم في نار الجحيم!! لا يمسي صاحبه رجلا ولا امرأة، وإنما يكون شيئا بين بين، أني أبغض من كل قلبي الجوارب الزرقاء. . . ولن أتزوج امرأة متعلمة).

فأجابته ليدوتشكا! لا أدري كيف أفهمك؟ تغضب لأني لست متعلمة وفي الوقت نفسه تكره النساء المتعلمات! لقد تنكرت لي وسخرت بي لأن رسالتي كانت خلوا من كل فكرة، فارغة من كل معنى، ومع هذا فأنت تعارض في دراستي ولا تستحسن تعلمي.

- لقد أصبت شاكلة السداد يا عزيزتي. قال هذا سوموف وهو يتثاءب ثم ملأ قدحا آخر من الفودكا.

تحت تأثير الفودكا والطعام الجيد أصبح سوموف أكثر رقة ودماثة. أخذ يرقب باهتمام زائد زوجه الحسناء وهي تعمل التوابل. فغمره فيض من الحنان المحض والحب الشديد، ودفعته عاطفة ملحة إلى النسيان والتسامح، ثم أخذ يحدث نفسه ويلومها: إنها غباوة مني أن أغضب هذه الفتاة المسكينة! ما الذي حملني على الجهر بكل هذه الأشياء الجارحة. إنها غبية، ذلك حق. . غير مثقفة. . سطحية. . بيد إن للمسألة وجهين. . . . . .

(والوجه الآخر مفهوم.). . . . ربما يكون الناس على حق عندما يقولون أن سطحية المرأة ترجع إلى حرفتها. ومن المسلم به أن من عملها أن تحب زوجها وتربي أطفالها، ثم تصنع التوابل!! فما الذي ترجوه من التعليم؟ لا شيء على التحقيق.

وهنا ذكر أن النساء المتعلمات غالبا مملات يبعثن الضجر والسأم في النفس، ثم هن دقيقات صارمات عنيدات. ولكن ما أيسر توفيقك مع الغبية ليدوتشكا التي لا تشمخ بأنفها. . ولا تصعر خدها ولا تفهم كثيرا. . . أنه السلام والراحة مع ليدوتشكا ولا خطر منها على المرء أبدا: (لعنة الله على أولئك النسوة البارعات المتعلمات! ولخير للمرء وأحسن عقبى أن يعيش مع الساذجات منهن). ثم دار بخلده وهو يتناول صحنا من لحم الفروج من ليدوتشكا أنه في بعض الاحيان قد يشعر الرجل المثقف بالرغبة الشديدة في الحديث ومبادلة الأفكار مع امرأة حاذقة كاملة التعليم. ولكنه قال: (ما هذا) إذا رغبت في التحدث عن موضوعات عقلية. . . فسأذهب إلى (ناتالا أندريفنا) أو إلى (ماريا فرانتسوفنا)، هذا سهل جدا. . . ولكن لا. لن أذهب فالمرء يستطيع البحث فيالأمور العقلية مع الرجال. ثم قطع بهذا أخيراً!!!

محمود البدوي



* أنطون تشيخوف نشرت عام 1886. نشرت هذه الترجمة في العدد 20 من مجلة الرسالة والذيي نشر بتاريخ 1 نوفمبر 1933



أعلى