نبيل محمود - (الأمكِنةُ) الوجود المهدور والزمن المفقود - القطيعة مع حياة مبتذلة - قراءة قصيدة (الأمكنة - سعيدة عفيف) (مقاربة معرفية جمالية)

(الأمكِنةُ) الوجود المهدور والزمن المفقود
- القطيعة مع حياة مبتذلة -
قراءة قصيدة (الأمكنة - سعيدة عفيف)
(مقاربة معرفية جمالية)
((تظلّ العزلة المقدسة بالنسبة إلى المثقف الشكل الوحيد الذي ما زال بوسعه أن يحقّق شيئاً من التضامن. كل مشاركة وتعاطف مع الإنسانية في المعاشرة والاشتراك، هما مجرد قناع للقبول الصامت باللاإنساني. ينبغي أن يتّحد المرء مع ألم البشر: أقصر خطوة يخطوها في اتجاه فرحتهم هي خطوة في اتجاه اشتداد الألم.))1
الأمكِنةُ - سعيدة عفيف - المغرب
====================
1
الأمكنةُ تتأوّهُ وتئنُّ
منذ القطرةِ الأولى لصخبِ الماء
تلك الكُوّةُ تكذبُ..
فمَن يهرق الليلَ على المدينة
بدل الاستعارة؟
وكيف نعبُرُ بوابة الآهِ والأنين
إليك يا الله؟؟
2
سارقُ الوقت اللعينُ يُعنكِبُ في الهواء
ليس للهواء وشمٌ يبقى ولا ذاكرة،
المقيمُ فيه
عربيدٌ تَشوَّشَت رؤيتُه
تطوّحُ به الأهواء فيتهيأ له
أنه يكتب فيمحو...
3
ها هو السّارق يُزَمِّمُ الوقت المسروقَ
حُزْمةً حُزمةً
يهزأ من فكرة الوقت الضائعِ البالية..
إذ كان الوقتُ دوماً
لُعبتَه المفضّلة..
4
الأمكنةُ تتأوهُ وتئنُّ..
كي أقيم في علاقةٍ حتمية بهذا الوقت الذي
يقتفي أثري..
يتنفسُ ظلي ويتحرشُ بي..
أنا لديه يفعل بي ما يشاء
ولم يكن يوما لديّ حتى أفعلَ به
ما أشاء..
5
الأمكنةُ تتأوهُ وتئنُّ..
هناك خطأ ما..
شيء عالقٌ ما بين قبحِ الفعلِ وزَلَّته،
ما بين شهيقِ الحرْفِ وزفْرتِه
لهذا، أنا شغوفةٌ بالموت..
أشتاقُ إلى الأموات لا أحادثُ غيرَهم
وأنا أشتمُّ عبَقَهم في الأتربة المرشوشةِ
بالماء المُطفَأِ المَنسِيّْ..
بدءاً بالاختيار الموفق للعنوان (الأمكنة) - بصيغة الجمع وليس المفرد - وعبر تنامي التوتّر المتصاعد لمقاطعه، وصولا حتى نهايته المباغتة غير المتوقعة! فإننا أمام نص متفرّد. المكان مفهوم فلسفي ومجرد. أما الوجود الواقعي المحسوس فليس ثمة سوى أمكنة، تحيل إلى (الأزمنة) بالضرورة لتواشجهما الوجودي. فالنص لا يتأخر كثيراّ بالإفصاح عن انصراف اهتمامه إلى موضوع (الأزمنة) والانصات لإيقاعاتها - بدايةً من المقطع الثاني (سارق الوقت..) -. إنه تحدٍّ ورهان كبيران، وبلا شك سيكون الخوض فيه مغامرةً! إن لم يزد عما قاله فيه الآخرون، أو يحفّزنا على التفكير بشكل مختلف، ويكشف عما في وجودنا المألوف من مجهولات وغوامض أكثر مما فيه من معلومات ومعقولات!
يسترسل النص ثرياً بلغته المحكمة المكثّفة وصوره الموحية، يشدّنا إليه منذ السطر الأول (الأمكنةُ تتأوّهُ وتئنُّ) باستعارةٍ نحدس أنها تعني الأزمنة، لتلازم المكان والزمان في أذهاننا (سيتأكّد حدسنا مع بداية المقطع الثاني "سارق الوقت".). السطر الثاني (منذ القطرةِ الأولى لصخبِ الماء)، منذ الدفقة الأولى للحياة.. ألا تبدأ كل حياة بصخب وصراخ الولادة؟! ولكن ثمة ما يثير القلق والتوجّس هنا.. هذا التكرار للتأوّه والأنين؟ أهو تأوّه وأنين ولادة؟! أم هو تأوّه ما يضيع وأنين ما يموت..؟! كأنه صوت كينونة متوجّعة تحت وطأة ألمٍ ثقيل.. أو حشرجات كينونةٍ تتعرّض للأذى.. كصوتٍ قادمٍ من عالمٍ سفلي لذاتٍ ملقاة في بئرٍ مهجورةٍ عميقة.. تبدأ التساؤلات المقلقة (فمَن يهرق الليلَ على المدينة..) ثم سؤال آخر (كيف نعبُرُ بوابة الآهِ والأنين/ إليك يا الله؟؟). ما من جديد في النص لحد الآن! سوى ما يُفترض بأيّ نصٍ شعريّ جيد، من بناء عالمه بصورٍ مبتكرة، وفرض إيقاعه وأسلوبه الخاص، وهذا متحقّق بالطبع. ما أقصده بالجديد، ما يمكن تسميته بــ"مأثرة النص"!، أي تحوّله من نصٍ شعريّ جيد إلى نصٍ شعريّ متميّز، متفرّد، ذي رؤية جديدة ومختلفة عن المألوف! يتجدّد أثره ويستمر تأثيره بمرور الوقت..
بعد الماء كعنصرٍ أساس للحياة في المقطع الأول، يزجّ المقطع الثاني بالعنصر الآخر - الهواء، فهل من دونهما يمكن تصوّر إمكانية انبثاق أية حياة؟ ومع ما في الهواء من وضوح، لكن فيه، هنا، ما يقلق ويخيف أيضاً (سارق الوقت اللعين..)، و(المقيمُ فيه/ عربيدٌ../ تطوّحُ به الأهواء فيتهيأ له/ أنه يكتب فيمحو..) لتبدأ مواجهتنا مع أول مطبّات الوجود، ومجابهتنا لأول مظاهر تناقضاته..! فالمسروق والمفقود هنا أثمن ما لدى الكائن.. الوقت! فإذا كان هذا التناقض أصيلاً ومن طبيعة الوجود؟! فإنه مربكٌ ومحيّر! ذلك لأن أيّ كائن لا يكون إلاّ بالزمانية! وما كينونة الإنسان إلا سيرورة وصيرورة. تعاقب أحوال وانتقال من حال إلى حال، وهذا غير ممكن إلا بحكم الزمنية..!
في المقطع الثالث تزداد حيرة الكائن بين زمنيةٍ قانونها التجاوز المستمر (نطنطة، نفي، سلب!)، وذهنيةٍ قوام ثقافتها التشبّث بمطلق ما (سكون، توكيد، ثبات!). هذا (السارق) ينشل بخفًةٍ عابثة، ويتلاعب غير عابئٍ بما يخلّفه من قلق، ويمعن بالسخرية حين يجعل هذا الكائن هدفاً لسرقات متتابعة، ويحوّله إلى مجرد لعبة! سلسلة متوالية من أعمال السلب (ها هو السّارق.. إذ كان الوقتُ دوماً.. لُعبتَه المفضّلة..).
في المقطع الرابع يتكرّر السطر (الأمكنةُ تتأوهُ وتئنُّ..)، والتكرار أحد السمات الأسلوبية الشعرية المحبّبة إذا ما أُجيد استخدامه كوظيفة بنائية للنص الشعري، وليس كمجرد محسنات بلاغية، أو لمجرد إضفاء الإيقاع الموسيقي الصوتي الخارجي - بالرغم من أهميته - على النص الشعري، فحسب. غاب هذا التكرار في المقطعين السابقين لحضور الزمان بذاته (حاضر فعلاً وليس صوتاً!)، ولأنه أساساً، بحدّ ذاته إيقاع ما يحدث! يُلاحظ إشاعة روح التوتّر وتشديد حدّته تدريجياً في فضاء النص مع التقدّم في المقاطع. ببثّ شحنات التوتر هذه يتعزّز النص بعنصري التشويق والترقب.. الآن بات هاجس الوقت - الزمن، مستحوذاً بشكل كلي على فضاء النص (كي أقيم في علاقةٍ حتمية بهذا الوقت). ويزداد أثره بانتقاء الأفعال الحسية المتلاحقة والملاحِقة! (يقتفي.. يتنفس.. يتحرش..). يسوء الموقف أكثر بالتمادي في التلاعب بإنسانٍ.. لم يكن في مقدوره منع سرقات السارق واستعادة المسروق، فهل يمكن تصوّر مقدرته على أن يكون ندّاً لمن يتلاعب به؟! (أنا لديه يفعل بي ما يشاء/ ولم يكن يوما لديّ حتى أفعلَ به ما أشاء..).
في المقطع الخامس يحدث الكثير! وفيه يتحقق تميز النص وجدّته وتفرّده! التأويل مناسب لمعاينة هذا المقطع لأنه يختتم النص، ثم أليس التأويل لعبة احتمالات؟! بمعنى من المعاني. بتكرار السطر (الأمكنةُ تتأوهُ وتئنُّ..) وبلوغنا (هناك خطأ ما..) يبلغ التوتّر مداه الأقصى، أهوَ مجرد خطأ ما؟ أم أنه خطبٌ يهدّد الوجود والعلاقات الإنسانية؟
ينعطف النص انعطافاً حادّاً، وتحديداً بــعد ((لهذا..))، والذي يُفترض به تعليل وتفسير ما سبق. إلاّ أنه هنا يثير الارتباك والاضطراب والغموض في فضاء النص كله! إنه يمثل لحظة انقلاب، وصدع ينسحب على مقاطع النص السابقة بنهايته المباغتة والمفاجئة! بمفاجأة النص هذه، كأي نصٍّ يخالف المألوف، يكون المتلقّي أمام مفارقة تجاوزت توقعاته المحتملة والمتخيّلة!
للمفارقة في نظر الكثيرين أهميةً كبيرة، فإنها جوهر كل فن وأدب عند البعض ((أهمية المفارقة في الأدب لا تحتمل الجدل... أن الفن جميعاً، أو الأدب جميعاً يتصف بالمفارقة من حيث الجوهر - أو بالرأي القائل إن الأدب الجيد جميعاً يجب أن يتصف بالمفارقة.))2 ولكن تفادياً لأي تعميم يخلّ، دائماً، بالبحث الرصين، يستحسن تحديد المصطلح بشكل أدق. لمفهوم المفارقة تاريخ طويل، ((تظهر كلمة "مفارقة" في بعض ترجمات كتاب الشعر لتقابل كلمة أرسطو "انقلاب الحال" التي تفيد انقلاباً مفاجئاً في الظروف.))3 ثم وبعد تحولات دلالية كثيرة استقر الفهم الحديث له على أن ((المفارقة بهذا المعنى الأخير طريقة في الكتابة تريد أن تترك السؤال قائماً عن المعنى الحرفي المقصود: فثمة تأجيل أبدي للمغزى. فالتعريف القديم للمفارقة - قول شئ والإيحاء بقول نقيضه - قد تجاوزته مفهومات أخرى؛ فالمفارقة قول شئ بطريقة تستثير لا تفسيراً واحداً بل سلسلة لا تنتهي من التفسيرات المغيِّرة.))4 ما يمنح المفارقة هذه الأهمية هو قدرتها على كشف التناقضات الكامنة في صلب الوجود وموجوداته، فكأنها النظير الأدبي للتناقضات الواقعية في صميم الوجود وظواهره! مَن يجيد توظيف المفارقة هو صاحب الذهن المتوقّد القادر على كشف التنافرات بين ظواهر تبدو متقاربة، والترابطات بين ظواهر تبدو متباعدة؟! ((إن صاحب المفارقة "المتطور جدلياً", المليء الذهن, لا يقصر في رؤية المفارقة في أي شيء إذا أراد ذلك؛ فثمة سياق من التناقض دوماً في مكان أو آخر.))5
إذاً، ما دامت المفارقة تستثير سلسلة لا تنتهي من التفسيرات، فاعتماد التأويل سيكون منطقياً، ولكن بشرط عدم تجاوز تلميحات وإشارات النص وسياقه العام، أو المغالاة في إخضاع الموضوعي للذاتي.
واحدة من أعظم المشكلات للذهن هي علاقة التعاقبي بالتزامني. الطبيعة التزامنية للأحداث كسلسلة يصعب حصرها، وتحدث في الوقت نفسه، تربك القدرات التعاقبية القاصرة للذهن، الذي ليس في مقدوره النظر والفهم، والتعبير خصوصاً، عن سلسلة الأحداث بتفاعلاتها وتداخلاتها كلها، فعجز التعبير محتوم، عن كل ما يحدث في الوقت نفسه، ودفعةً واحدة!. والسبيل المتاح للذهن هو التعبير عن التزامني تعاقبياً، هذا إذا ما نجح بالنظر والفهم للتزامني. ومما لا شك فيه يمكن تصوّر كثرة ما قد يضيع ويفوت من تفاصيل وقوة وحرارة ما يحدث من أحداث تزامنياً، عند التعبير عنها تعاقبياً!
لهذا! هذا الــ ((لهذا،...)) وما بعده يستدعي التوقف عنده مليّاً.. فالمقاطع قبل ذلك كانت تتعاقب بسلاسة، وكل منها ينجز وظيفته، أما الآن، فالنص يستهدف "الكلية"، قول كل شيء دفعةً واحدة! وأمام قصور التعبير تعاقبياً عن الكل التزامني لسلسة أحداث، يعمد إلى التركيز والتكثيف. فيجمع كل ما توزّع من المعنى الكلي على أحداث في المقاطع السابقة، ويصبّها كلها في.. كلمة واحدة! في.. ((لهذا))!
ربما من حسن حظ الشعر، أو ربما هذا هو تحديداً سرّ طبيعة الفعل الشعري وصنيعه الإبداعي.. أن في قبعته السحرية! الكثير من الحيل اللغوية، والألعاب التعبيرية، والكائنات اللفظية، والجمل الملونة العجيبة.. لكي يكون الساحر الأبرز في تقديم عروضه الآسرة على مسرح الإبداع!
لأعد من الفعل الشعري إلى نص الأمكنة..
الوقفة مع السطور الختامية للنص ستطول، لهذا التغيّر المفاجئ في السياق. يتوقًع الذهن بعد كل ذلك التكرار وإيقاعه، بعد كل ذلك الأنين والتأوّه.. مثلاً، رثاءً حزيناً أو استسلاماً قدرياً للمصير..
ما معنى هذا التأكيد على (الشغف) بالموت ومحاورة الأموات؟ قد يبدو الأمر متّسقاً ظاهرياً مع ذلك (التأوه والأنين)، وليس غريباً شعور التعلّق بالموت والأموات بحدّ ذاته، (مثلا، أهمية طقوس الدفن والاهتمام بالمقابر تشهد على دور وأهمية هذا الجانب الذي تشترك فيه جميع المجتمعات والثقافات على اختلافها). ولكن الغرابة هي في تعاظم هذا الشعور والاحتفاء به بشكل مستفزّ إلى درجة التطرّف! واقتصار الفرد المتعمّد في علاقاته الحياتية عليه، وانصرافه عن الحياة والأحياء! النص يصرّح بهذا بشكلٍ قاطع لا لبس فيه، (لا أحادثُ غيرَهم). إذاً، النص صريح بتحديده وتأكيده على محادثة الأموات فقط، ما يعني، ضمناً، امتناعاً عن محادثة الأحياء، فالتأكيد هنا واضح وحاسم. هذا هو الغريب تحديداً في نهاية النص. فلا بدّ لهذا السلوك من أسباب ومبررات قوية دفعت لاتّخاذ هذا الموقف الصارم والقاسي ضد الحياة والأحياء! ((وحدها الغرابةُ تكوّن الترياق المضادّ للاغتراب. الصورة الزائلة للتناغم التي تستمتع فيها الطيبة بنفسها، تشدّد لوحدها وبالشكل الأكثر قسوةً على الألم الحاصل عن انعدام المؤالفة، الألم الذي تنفيه تلك الطيبة بشكل جنوني.))6
وإذا كانت هذه الغرابة تعبيراً عن اغترابٍ ما، يجدر تبيّن ومعرفة الأسباب والدوافع. النص توقّف عند إعلان القطيعة مع الأحياء فقط، دون توضيحٍ أو تفصيل..
إن الكلام أساس وشرط أيّ تواصل وتبادل بين البشر، وانعدامه لا يعني سوى القطيعة الجذرية والشاملة. وغياب التفسير في النص يستلزم الالتفات إلى التأويل، إذاً، ولكن بحذر والاحتراز من التمادي فيه إلى حدّ التورّط! فالتأويل، عادةً، يغري بالاسترسال.. واختلاق أفكار ومعانٍ بعيدة عن النص وروحه. ليس الغرض من التأويل حصر النص في حدود لم يحدّدها، أو قصره في معنى واحد قد يكون تعبيراً عما في نفس المؤوّل دون النص! لذا يجب حصر مهمة التأويل بتحرّي واستقصاء الاحتمالات الممكنة والمحتملة للمعنى، ولكن دون تأكيدٍ جازم أو ترجيح مفتعل، يحرّف النص ويسلب حقه في حرية الإيحاء والتعدّد ((ليس القصد من تأويل نصٍّ ما إعطاؤه معنى (معقولاً إلى حدٍّ ما، وحرًّاً إلى حدٍّ ما)، إنما معناه، على العكس من ذلك، تثمين وتقدير نوعية التعدِّد الذي جبَلَه.... النص مجرَّة دوال، وليس بنية من المدلولات...))7.
بعض التأمّل في معنى (العبق) المجازي قد يمدّنا برائحةٍ تشي بطبيعة وحقيقة هذه القطيعة وهذا الاحتجاج ودواعيه. (ولنذكر عرضاً أن من الاستخدامات المألوفة للعطر استعماله كمنبه يساعد على إفاقة المغمى عليهم، وإعادة الوعي لفاقديه..!). العبق صفة ملازمة لكل ما هو حيّ، وهو ينتشر عالياً بعيداً عن كل ما له علاقة بعالم الموت والأموات، العالم السفلي! وإن كانت لنا صلة بالأموات فهي الوفاء لذكرى اللحظات السعيدة الطيبة التي مكثت في نفوسنا (رعاية وعناية الوالدين.. ألعاب الطفولة.. حكايات الجدات المسلية وحنوّهنّ.. أمكنة وأشخاص وذكريات لا حصر لها.. إلخ). وثمة عبقٌ لا يقلّ أهمية يعرفه كل من يدقّق في قائمة الكتب التي قرأها، أليس معظم كتّابها في عداد الأموات؟! ومع ذلك فهم أحياء، ونحن في حوار دائم معهم، مع أفكارهم وإبداعاتهم.. عبقهم الماثل الحاضر الباقي معنا..
اللافت هو هذا التركيز على القيم والصفات الإيجابية التي يسبغها النص على الموت والأموات (الشغف.. الاشتياق.. العبق..)، والذي يعني، حكماً، تجريد الحياة والأحياء منها! وهذا يشدّد من مفارقة النص لتبدو كمفارقة مركبة.. يسبغ على الموت والأموات قيم إيجابية لم يجدها في الحياة والأحياء. فهل لنبرة الاحتجاج والقطيعة المستفزّة هذه، معنى نعي نظام وأسلوب حياة قاحل ومجدب، مثلا؟! أكثر من كونها تقريظاً واحتفاءً بالموت والأموات بحدّ ذاته؟! وهل هذا الاحتجاج وهذه القطيعة إنكار واستنكار للسوء ومحاولة لإعادة إحياء حياة ميتة، مثلا؟! وهل هذا الشغف والاشتياق وتنشّق العبق المنبعث من التربة المرشوشة بالماء! تعويض عن وجود مهدور وزمن مفقود لم يستنفد إمكاناته، مثلا؟!
أليس الحريّ بقارئ النص الاكتفاء بطرح هذه والاستفهامات والتساؤلات! كاحتمالات للمعنى دونما تفضيل أو ترجيح لأحدها؟!
ما دام النص قد فتح قارورته وسمح للعبق بالانتشار في الفضاء فوق (الأتربة المرشوشةِ/ بالماء المُطفَأِ المَنسِيّْ..) واعتمد التلميح والإيحاء نهجاً.. فكيف لقارئ النص أن يخالفه؟ وكيف يبررّ انتهاج سبيل معاكس، حين يعمد إلى حبس ذلك العبق، من جديد، في أية قارورة؟ بدل استنشاق عبق معانٍ متنوّعة، والتشبّع ببعضها العذب، والتنديد والاحتجاج ضد عديدها المرّ! بموقفٍ رافض.. الشعر يشير ويلمّح ولا يقسر ويحدّد.. فالحياة الحقّة هوى من يحيا بصدقٍ وعذوبة.. وهذا تعليمه خائب!
الشاعر (والفنان عموماً) ليس سياسياً محترفاً، أو ثائراً، ليغيّر، أو عالِماً متخصّصاً في حقلي الاقتصاد والاجتماع، ليقدّم الحلول للمشكلات والأزمات. حسبه أن يرصد أحوال النفس الإنسانية وأطوارها، لمزيد من الفهم والتفهم. ومقاربة أمزجة عصره وتقلباته، لتخفيف قتامته وسبر غوامضه.
الشاعر بستاني في حديقة الوجدان! يأخذ بيد الإنسان، ليخرجه من زمن الغابة، ويدخله إلى زمن الحديقة العامة وعبقها اللطيف..
لا يكون النص الإبداعي الجمالي (والمعرفي عموماً) كبيراً ومتميزاً، بطوله أو لتناوله قضايا إنسانية كبيرة، بل يكون كذلك، بتفردّه وجدّته عندما يفتح نافذةً جديدة ومختلفة للنظر. عندما يُقلق العادة ويستفزّ المألوف، ويكشف عما وراء وجهه الأليف من غوامض ومجهولات!.
إنّ الإبداع خصمٌ أبديٌّ للعادة وطقوس التكرار. يقول هيغل في فنومينولوجيا الروح: ((ما هو مألوف ليس معروفاً لمجرد أنه مألوف. ذلك خداع للذات وخداع للآخرين أن يُفترض في المعرفة شيء ما بوصفه مألوفاً وأن يُقبل لهذا السبب.))8.
لذلك ليس من حق قارئ النص اليوم، الحكم والجزم برأيّ يصادر حق النص أو حق قارئ الغد. للنص الشعري (والأدبي عموماً) أن يطرح رؤاه وأسئلته، أما التأويل والتفسير والفهم فتظلّ حقوقاً محفوظة لأية قراءة في المستقبل، كما هي حقوق محفوظة، الآن، لقراءة الحاضر.
ومن حق النص، حتماً، ألا تُصادر رؤيته ورؤاه بشكلٍ متعسّف وأن يُحشر رغماً عنه في فهمٍ وحيد. ومن حق عبقه أن يظلّ منتشراً في الفضاء، لذا يكون من المناسب مقاربته بما أوحاه من احتمالات ورؤى.. وحذاقة التأويل والتفسير والفهم، ليست في الإيغال والتوغّل في النص وسلب حقوقه، بل في معرفة متى وأين يتوقف؟! ويترك النص ليفوح بعبقه. يختتم هانز جورج غادامير كتابه الحقيقة والمنهج بهذه الكلمات ((غير أني سأتوقف هنا. فالحوار الجاري لا يجوز أن تكون له خاتمة. وسيكون تأويلياً بائساً ذاك الذي آمن بإمكان أن تكون، أو وجب أن تكون، له الكلمة الأخيرة))9.


-----------------------
الهوامش:

1- ثيودور ف. آدرنو، الأدب الصغير – أفكار ملتقطة من الحياة المشوهة، ت. ناجي العونلّي، شرق غرب للنشر، ط1 - 2011، ص 45.
2- د. سي ميويك، المفارقة وصفاتها، ت. عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي, م4 المفارقة ص 124.
3- د. سي ميويك، المفارقة وصفاتها، ت. عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي, م4 المفارقة، ص 139.
4- د. سي ميويك، المفارقة المفارقة وصفاتها، م ت. عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي, م4 ص 161.
5- د. سي ميويك، المفارقة المفارقة وصفاتها، م ت. عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي, م4 ص 178.
6- ثيودور ف. آدرنو، الأدب الصغير (أفكار ملتقطة من الحياة المشوهة)، ت. ناجي العونلّي، شرق غرب للنشر، الطبعة الأولى 2011، ص 158.
7- رولان بارت، س/ز، ت. محمد بن البكري، دار الكتاب المتحدة 2016، ص 37.
8- هيغل، مختارات1، ت. ألياس مرقص، دار الطليعة بيروت 1978ص 61.
9- هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ت. د. حسن ناظم- علي حاكم صالح، دار أويا-طرابلس2007 ، ص735.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى