حنان ماهر - العلاقات التجريبية المتبادلة بين عناصر السرد في قصة "حارس بوابة الحزام الأخضر

حين يتعلق الأمر بالغموض فإن ذلك يدفعنا بكل قوة إلى الوصول إلى كشف ستر هذا الغموض ومعرفة حقيقته وذلك للقبض على لحظة مختلفة ونقف على الدهشة. هذه اللحظة قبلها نكون في ترقب وبعدها تزول الدهشة وتترك لنا معرفة ما. ونحن الآن بصدد قصة للكاتب أ. نبهان رمضان بعنوان حارس باب الحزام الأخضر وهو عنوان جملة اسمية مبتدأها محذوف تقديره هو وهذا العنوان الطويل يدل على امتداد هذا الحزام أو السور المعنوي الذي تضعه القوانين أو يضعه المجتمع أو السلطات على اختلافها.
العلاقات التجريبية المتبادلة بين عناصر السرد...
أسلوبية اللغة .. هو يكشف عن صورتين أو وعيين اجتماعين لكل منهما موقفه من العالم بوجود لغة مصورة لمشهديه ترسم شكل معين لهذا المجتمع وما به من وعيين؛ وعي الحاكم ومن معه ووعي أفراد القبيلة عامة. هذان المجتمعان على الرغم من أنهما في نفس المكان لكن ليس بينهما اتفاق كبير نجد رئيس القبيلة أو زعيمها يستأثر بالحكم بل عنده السلطة والصلاحية لنفي اي فرد من القبيلة خارجها بقوانين هو من وضعها في حالة من تحزيم هذا المجتمع في دلالة على الكثير من العادات والتقاليد والأفكار التي لا يطرأ عليها أي تعديل ولو على سبيل التغيير أو الانفتاح على آراء جديدة متطورة وهو بذلك يصدر لأفراد القبيلة انه يحميهم ولكن في المعنى الحقيقي هو يحمي مصالحه فقط نقرأ في القصة " كثيرون خرجوا قبله من باب الحزام الأخضر أبعد أبواب القبيلة. انقطعت أخبارهم عن القبيلة وعن أهلهم وذويهم"
التنويع والمزاوجة .. نجد الكاتب يستخدم المزج بين السرد النثرية والشعر في حالة من التجريب وذلك يعتبر جسرًا لحضور أصوات أخرى في السرد مما يعطي إحساس بالتهجين من خلط السرد مع الشعر في حالة من الممازجة الواضحة والتي أثرت النص وتعطي حيوية للنص نقرأ" وظل يردد أبيات شعر طول الطريق" ونقرأ كذلك "أبت مقلتي كتمان ما بي وبينت...... مكان الذي أخف وفاض المدامع" ورغم أن الشعر أقل تحملًا لتعدد الأصوات داخل كتابته منفردًا على عكس السرد إلا أننا نجد الكاتب قد وضع الأبيات الشعرية في حالة من الحضور الفعال بدرجة كبيرة.
الكاتب صنع علاقة بين مسارات اللغة عبر القصة وليس مسارًا واحدًا ومزج بين لغة الحقيقة والمجاز والمتخيل مما أدى إلى وجود علاقات بين طبيعة السرد وما قدمه من كلام ومشاعر وأفكار لأبطال النص نقرأ " مع تلاشى أمل اللقاء مجددًا تذبح القلوب كل خيمة كل حبة رمال داست قدمه عليها...... يشعر باشتياق إليها من الآن"
الكاتب كذلك أدار مسار السرد بين الاحالات والكتابة والصورة في اللغة التي استدعاها بوعي أو بدون ليخرج لنا النص متماسكًا يسير في اتجاه صحيح وتظل وحدته وتماسكه ودلالاته المرجوة.
كذلك استخدام الحوار أو الديلوج في مناطق من السرد نقرأ "فارس الميمنة أمره بالتوقف قائلًا أنت الآن أمام باب الحزام الأخضر" وذلك ليعطي حيوية للنص وتمهيد للانتقال إلى صوت آخر يروي الأحداث في النص مما يعطي صورة أوضح للغة. وبذلك نجد أكثر من صوت في النص غير صوت الراوي العليم الذي استخدمها الكاتب في حالة من انسجام السرد فيظل المتلقي منتبه لأحداث القصة بما فيها من تجريب كتابة وغموض ويبحث عن دلالة ومغزي القصة.
نجد هذه الحوارات قد بنيت سبب معرفي لنتعرف مثلا على ماذا حدث بين المستبعد وحارس حزام الباب الأخضر وبذلك نجد نوع آخر من الكتابة المزدوجة وبذلك يكشف لنا الكاتب عن شخصية صاحب الحوار وطبيعة شخصيته ومقوماتها فنجد انه هو المستبعد الذي مشي وراءه بطل القصة وأنه هو من يقول الشعر في حالة من إرباك المتلقي هل هو صحيح ذلك المستبعد أم أنه قد مات أو قد قتل الحارس السابق وأخذ مكانه؟ أم أن كتابة السرد له دلالة أن الإنسان نفسه هو من يضع لنفسه هذه الحدود الملزمة المقيدة التي يمكن أن تعطله عن التقدم والتحرر من التقاليد والعادات البالية وهو السبب في عدم تمتعه بالحرية ويجد المتلقي نفسه يقول انه السبب في استبعاده واستعباده من قبل الأفكار التي لا تقيده فقط بل تحزمه حول جسده مثل هذا الحزام الفاصل بين القبيلة ومكان الحارس.
المحاكاة... في حكي السرد نجد أن اللغة الساردة تتفق مع الموضوع فيدعم كل منهما الآخر وهذه المحاكاة تنقل صورة اللغة الخطابية ونجد الملفوظ من الشخصية مناسب لها. والمفردات تناسب وصف المكان المتخيل على سبيل المثال فيحاكي المنطوق المكتوب وكل ذلك يعطي صدى للحكي المتمثل في ترتيب الأحداث واستحضار قصص بطولات أسطورية أو في الموروث الشعبي عن الفرسان والقبيلة والصحراء و قول الشعر في الملحمات الشعرية. ومن ضمن الحيل السردية لتحقيق المحاكاة تحقيق تعاطف المتلقي مع بطل القصة وذلك يعطي الأثر في تذكر القصة وأن تظل معنا بعد الانتهاء من القراءة. نقرأ " عند تنفيذ الحكم جلس في الطريق عدة مرات ليعود إلى ديار القبيلة ليودعها ويراها قدر المستطاع"
هناك حقيقة لا يمكن التغافل عنها وهي بطولة وشجاعة بطل النص أو المستبعد في إظهار حبه رغم أنه يعرف النهاية وهي الاستعباد عن وطنه الذي يحبه ويحب كل ما فيه نقرأ " وفي هذه اللحظة نجد تساؤل هام يفرضه النص ما قيمة الوطن بما فيه من أرض وأهل وذكريات وهل يمكن أن يكون له ثمن؟ وكيف أن أفعال الإنسان ممكن تؤدي إلى تبعات تعود عليه بالسوء وهذا الموقف الذي أدي لهذا التساؤل كان هدف من أهداف الكاتب في كتابة السرد لفعل المساءلة الضمنية ومحاولة وضع وعي مضاد لما سرده عن البطل في إحالة لوضع حوار ذاتي بين المتلقي ونفسه عن هذه الأحداث في محاولة لأن يكون الكاتب محايدًا في عرض أفكاره وترك مساحة للمتلقي داخل النص في حالة تجريبية أخرى.
العلاقة بين السرد والعقلية الكتابية...
الكتاب يكتبون ما يعرفون. وشكل حضور الكاتب في النص لا تظهر حضور ذاته كاملة لكن يظهر وعي عقلي كتابي في حالة من الحكي المتخيل لعالم أو مجتمع متخيل فالكتاب يهتم بالحكي ويحيط نصه القصصي فنجد السرد لا يقف عند حد معين ولن يتم السرد إلا في وجود أيديولوجية خاصة تولد من وعي الكاتب. أيديولوجية تبحث عن الحرية والخروج عن الأفكار المقيدة العتيقة الجامدة التي لا تحدث أي تطور بل يصل إلى نقد خفي للعادات والتقاليد التي يمكن أن تحيط مجتمع ما بسور وهمي أو حزام ولو حتى كان هذا الحزام أخضر بما في اللون من دلالة النماء والأمل.
ومن هنا نجد تقنية تجريبية أخرى من تحايل الكاتب على الطبيعة السردية التي تنشأ مجتمع ليس له مكان محدد أو موقع جغرافي غير أنه يمكن اعتباره مجتمع قبلي صحراوي أرضه رملية جبلية دلالة أن هذا المجتمع له خصائص خاصة من الجدب وعدم صلاحية أرضه للزراعة في حالة من الإحالة أن هذا مجتمع جدب لا يصلح لزراعة أفكار متجددة وأمل وحريات جديدة أو للتطور. هو مجتمع مسلوب الإرادة والحرية. نقرأ "تغوص الأقدام في الرمال الكثيفة ولم يعد قادرًا على سحبها بسهولة" وكذلك " لم يرى اي أبواب إنها الصحراء الشاسعة جبال ورمال أمامه"
كذلك نجد من تقنيات التجريب وجود الصوت السردي الجمعي الذي يعطي لنا الحق في مساءلة بطل القصة أو إدانته والحكم عليه بل تصل إلى مساءلة الكاتب نفسه بوصفه يحاول تقديم أيديولوجية تحررية تقدمية تهدف إلى تحقيق عدالة اجتماعية وأنه بوعيه يحمل الوعي الجمعي ويكشف الفجوة بين طبقات حاكمة وشعب محكوم بيد من حديد في حالة من البحث عن دور المتلقي وماذا فعل وما يجب عليه فعله النص يحاول أن يعطي فكر تنويري ثوري ومعرفي. وكما نجد في النص مستويات دلالة مختلفة ومستويات لغة مختلفة نجد مستويات اجتماعية مختلفة داخل هذا المجتمع من حاكم غني يطمع في ثروات وسلطة أكبر مهما كلفه الأمر نقرأ "تزوجت ابنة شيخ القبيلة من أحد شيوخ القبائل الكبرى المجاورة وكان زواجها سبب خيرًا على شيخنا بضم قبيلة هوازع" ووجود أفراد منافقين منتفعين نقرأ "اكره معجزات زائفة تسوقها شرذمة نفاق من أجل حفنة دنانير من جيوب شيخ القبيلة" وهناك حالة أفراد يعيشون في سياسة القطيع يتبعون رئيس القبيلة ومن يخالف أو يخرج عن هذه السياسة تظهر حالة التعسف أو الظلم في حالة تثبيت سرد الفكرة وعدم الاحتكام إلى مستقبل مختلف في دراسة سيسيولوجية لهذا المجتمع بكل فئاته وأفراد. كل هذا جعل هناك مقومات سردية لبناء مجتمع عنده حياة وأفراد وسياسات فساعد ذلك على قوة التخيل وتصديقه والمضي في أحداث القصة بلا نفور من المتلقي. نقرأ " يطرد من ديار القبيلة ولا يدفن جسده في مقابرها بإجماع الآراء وكل مرة يطرد فيها أحد بإجماع الآراء." ورغم هذا التعسف الواقع على الفرد المستبعد إلا أنه ينبهنا إلى ما هو الوطن في وعي الراوي فى تنبيه للمتلقي نقرأ " الوطن ليس حدود وأبواب تخرج وتخرج منها الوطن لحظات وأحاسيس ومشاعر مختلطة ومتضاربة ومتناقضة ومتراشقة متنافرة ومتداخلة كتروس أحد الماكينات؛ تتراشق في لحظة ما وتتنافر في لحظة أخرى تتقابل وتتباعد في حركات متناغمة." نجد اختلاف الفكر بين بطل القصة الذي يبحث عن الإصلاح والتجديد والتجريب وبين المنتفعين والقطيع الذي يمشي خلف الحاكم مغمض العينين.
اسم بطل القصة المستبعد هو مصلح ولد مجرب نقرأ" قالها أمام الجميع مصلح ولد مجرب يطرد من ديار القبيلة "في دلالة أن هناك ما يلزم الإصلاح وأنه أراد تغيير وإصلاح هذا المجتمع من وجهة نظره ويمهد لنا أن هناك أخطاء يجب إصلاحها. وفيه مفارقة فهو لم يصلح شيئاً وكل ما جربه هو الاستبعاد.
بالنسبة للزمن في النص وهو غير محدد وذلك لجعل القصة حكاية أسطورية تحكي في اي زمان وكذلك للبعد عن المسائلة عن المقصود بهذا المجتمع وحكامه. فعندما يلجأ الكاتب إلى الكتابة العجائبية أو الواقعية السحرية فذلك لأسباب كثيرة منها كتابة التمويه أو للدلالة الأكبر أو للفت تفكير وذهن المتلقي. ولكن هناك وقت كتبه الكاتب وهو "مع بداية تباشير الصباح" في دلالة بداية مرحلة جديدة أو تغيير كبير محتمل سيحدث في حياة البطل عموماً.
في النهاية نجاح أي عمل يظهر فيما يتركه معنا من أثر ونتذكره رغمًا عن أي تشويش.

حنان ماهر
شاعرة و ناقدة مصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى