سامح عسكر - العلمانية عند الفارابي..

للفيلسوف الفارسي "أبو نصر الفارابي" المتوفي عام 339هـ كتاب اسمه (التنبيه إلى سبيل السعادة) قسّم فيه العلوم إلى اثنين رئيسية وخمسة فرعية..
العلوم الرئيسية عنده هي
أولا: (النظريات) وفيها "علم التعاليم" أي الرياضيات والموسيقى والفلك..وغيرها و"العلم الطبيعي" – أي التجريبي كالطب والمعادن والنبات والحيوان.. وغيرهم - و"ما وراء الطبيعي" – أي الكلام وعلوم الغيب..
ثانيا: (المدنيات) وفيها علوم "الأخلاق" و"السياسة"..(رسائل ابن حزم 4/ 15)
وبهذا التقسيم يظهر أن الفارابي كان يرى العلم الديني الذي هو (ما وراء الطبيعي) بلغة أهل زمانه، أو الميتافيزيقا بلغة العصر هي (منفصلة عن السياسة) التابعة لأصل المدنيات التي كان يسميها "بالحكمة العملية"، وكذلك فالعلم ما وراء الطبيعي (الدين) منفصل عن الأخلاق، وبالتالي فالأخلاق عنده وليدة مجتمع مدني..
ويظهر كذلك أن الفلسفة هي (وسيلة) لفهم كل ما سبق، لذلك فهو يصف كل هذه العلوم مجتمعة بالفلسفة، فيقول فلسفة السياسة..فلسفة الأخلاق..فلسفة الطب والفلك..إلخ
كان هذا أول تقرير فكري واضح للعلمانية من فلاسفة مسلمين، أثر لاحقا في رؤية فلاسفة المشائيين بعده كابن سينا وابن رشد، ومن خالفوهم كانوا يخلطون بين علوم الغيب الإيمانية وبين علوم الدنيا فقالوا بالخلافة والشريعة وصنّفوا في وجوب اتباع الفقهاء وعدم الاعتراض على كبار زعماء المذهب..بينما عند ابن سينا مسائل السياسة خاضعة كليا (للدنيا) ومعيارها الأوحد هو المصلحة..
الفارابي هنا التزم النموذج المشائي الفلسفي المأخوذ عن الفلسفة اليونانية، فالإغريق كانوا يفصلون بين الإلهيات والسياسة، ومعظم فلاسفة اليونان كانوا على هذا النحو، فالدين شئ خاص بالمعبد والسلوك الاجتماعي وغايته إرضاء الرب، بينما السياسة خاصة بالحكم والانتخاب وغايتها المصلحة، بينما سائر الفقهاء والقساوسة والأحبار الذين يؤمنون بالحكم الديني قالوا ذلك لخلطهم بين (الإلهيات والسياسة) كمصدر، حتى صار لديهم الملك ممثلا للإله في الأرض..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى