دور الأستاذ في تطوير القصيدة النبطية في سيناء (١)

(1)
تشهد القصيدة النبطية في سيناء صحوة يمكن وصفها بأنها (جيدة) على أقل تقدير، ومنبئة بخير كثير في أغلب الظن. وهذه الصحوة تتمثل في كل المحاور التي تُبنى عليها القصيدة: الإيقاع، والانطلاق من عاطفة جياشة، واللفظ، والتركيب، والفكرة، والصورة الشعرية المعبرة والمؤثرة. ونحن، في مقالتينا الأولى والثانية، سنقصر الحديث على الإيقاع في القصيدة النبطية. سوف نحدد الهدف؛ فإن تحديد الهدف أدعى لتحقيقه.
1- الوزن القديم، والرغبة في التجديد:
لم يعرف الشعراء الروَّاد الأعلام في بادية سيناء سوى بحر شعري واحد، جاء كل إنتاجهم في القصيد على وزنه، وهو (المسحوب)، وتفعيلاته: "مستفعلن مستفعلن فاعلاتن". هكذا جاء قصيد الشعراء الكبار، وهكذا اتصل الإبداع على هذا البحر إلى يومنا هذا؛ فإن بعضا من شعراء بادية سيناء المرموقين لا يزالون ينسجون قصائدهم على منواله، لا يحاولون غيره.
ثم خلف من بعدهم خلف طرقوا بحورا أخرى لم يعرفها الروَّاد الأعلام؛ فربما رأى الجيل الجديد أن (المسحوب) يضيق بهذه العوالم الشعرية الجديدة التي ارتادوها. وربما رغبوا في منافسة شعراء الخليج الذين برعوا في الأداء على بحور أخرى. وربما كان دافع الجيل الجديد مجرد المغامرة الفنية، والمغامرة من أسس الإبداع. أيا كان الأمر؛ فقد اتجه الخلف إلى ارتياد تجارب فنية على بحور شعرية لم يعرفها السلف؛ فكانت المعضلة. والمعضلة أنهم لا يملكون تراثا في بيئتهم يقتدون به في ارتياد الأوزان الجديدة عليهم؛ فاحتاجوا إلى أن يتعلموها، وتعلّمها يحتاج إلى دروس في العروض تبدأ من معرفة الساكن من الحروف والمتحرك، ثم معرفة السبب والوتد والتفاعيل، إلى غير ذلك من أسس علم العروض. وهنا كان الأستاذ (محمد عبد الكريم الدلح)، الذي شمّر في هذا المجال وجد واجتهد؛ فأبلى البلاء الحسن في تعليم زملائه الشعراء، متطوعا لا يبغي أجرا، وله الفضل والفضيلة والثناء الحسن.
2- الأستاذ:
تخرج الأستاذ في معهد المعلمين، قسم اللغة العربية. وبوصفه شاعرا عُني عناية خاصة بعلم العروض؛ فنبغ فيه نبوغا باهرا. ولقد قال لي وهو يحاورني: "لو لم أخرج من المعهد إلا بالعروض؛ لكفاني"!
إن المطلعين على أوزان الشعر النبطي في سيناء قليلون حقا. والأستاذ علامة مميَّزة بين هؤلاء القلة، ليس لأنه أسبقهم في هذا الفن، ولكن لأنه أفسحهم صدرا، وأكثرهم صبرا، وأقدرهم تبسيطا، وأشدهم حرصا على تعليم من أراد أن يتعلم، فضلا عن أنه جمع بين التنظير والتطبيق؛ فهو الشاعر الدارس الذي جمع بين الحُسنيَين.
3- عمق نظرة الأستاذ:
أعرف، بحكم علاقتي الوطيدة بالأستاذ، أنه لا يقرأ في النقد الحديث أبدا، لكنه يدهشني حقا حين يطرح، من تلقاء نفسه، آراء تتعلق بقضايا الإيقاع تتوافق مع آراء كبار النقاد؛ فإني كنت أسأله عن الوزن الشعري لأغاني العمل، كالحصاد أو نزع الماء من البئر، أو ما شابه؛ فكان لا يجيبني حتى يبدأ لي بشرح العلاقة بين إيقاع الجسد وإيقاع الكلمة، مُسهِبا في تفصيل كيف يكون التناغم بين حركة اليد العاملة وحركة الإيقاع في الأغنية، وما لذلك من أثر في تنشيط العامل وإثارة طاقته. ثم يطبّق هذه النظرية العلمية الصائبة التي توصل إليها من ذات نفسه على أغاني السامر، وكيف تتسق صفقة اليد مع حركة الجسم مع حركة الرجْل مع إيقاع القول في تفاعل حميم ونسق مدهش. ينتهي اتصالنا؛ فأقرأ للدكتور (شكري عياد) في كتابه (علم الأسلوب) قوله عن أغاني العمل: "إن الغناء الجماعي يساير طبيعة الحركة سرعةً وهدوءا، كما هي الحال في أغاني البنائين والصيادين. هناك إذن علاقة ثلاثية بين الإيقاعات الفنية وإيقاعات العمل والإيقاعات الجسمية، وكأن إيقاع الأغنية يساعد على تنظيم ضربات القلب وحركات اليدين والرجلين بحيث تؤدي الوظيفة المطلوبة منها". (ص53 و54) أقرأ ذلك؛ فأزداد اقتناعا بعمق نظرة الأستاذ التي اتفقت – بظهر الغيب – مع رؤية النقد (الأسلوبي) الحديث، والتي تتفق – أيضا – مع المنهج (البنيوي) في تحليل إيقاع القصيدة. نقرأ في كتاب (تحليل النص الشعري، بنية القصيدة)، للروسي (يوري لوتمان) قوله: "وقد أصبح من التقاليد المستقرة في البحث الأدبي... التأكيد على التطابق في النشاط العملي والطبيعي، والإيقاع في الأدب بعامة، وفي الشعر بخاصة". (ص70 من ترجمة الدكتور محمد فتوح أحمد). ثم ينقل (لوتمان) قول الباحث الكبير (شنجلي): "لنأخذ أي عمل مما يستغرقه الزمن من أعمالنا، ليكن – مثلا – التجديف (مفترضين أن هذا التجديف جيد، متوازن، متقن)؛ فسنجد أن هذا العمل موزّع إلى أجزاء، من تجديفة إلى أخرى، وفي كل جزء من هذه الأجزاء توجد نفس اللحظات بعينها: رفعة للمجداف لا تقتضي بذل أي جهد تقريبا، وضربة في الماء تحتاج إلى إنفاق كثير من الجهد. ومثل هذا العمل المنتظم الموَّزع على حلقات متوازنة في الطول، متراوحة في الضعف والشدة، يُسمّى عملا إيقاعيا، على حين يُدعَى ذلك الانتظام والتناغم الزمني بالإيقاع". (ص70)
إن ما يقوله هذان الناقدان الكبيران هو بالضبط ما قاله لي الأستاذ عن التناغم بين حركة يد العامل في الحصاد، أو حركة يد الذي ينزع الدلو من البئر، وبين إيقاع الأغاني المصاحبة للعمل. وهذه الأغاني يلاحظ الأستاذ فيها ملاحظة مدهشة؛ إذ يرى أنها لا تتكئ كثيرا على المعنى، وإنما الهدف الأول منها إيقاعي صِرف، يُنشّط ويستحث العاملين؛ ليلتقي مع النقد (الأسلوبي) مرة أخرى في قول الدكتور (شكري عياد) عن أغاني العمل: "فنحن نلاحظ أن المعاني لا تكاد تكون لها قيمة – أو ليست لها قيمة على الإطلاق – في تلك الأشكال الأولية من التعبير الشعري؛ فاللغة هنا لا تُستخدم إلا من أجل قيمتها الصوتية الإيقاعية". (ص54).
ونحن نُعنَى بالاقتباس من كبار الدارسين؛ لكي نوضّح جملة من الأمور، منها براعة الأستاذ في النفاذ إلى فلسفة الإيقاع، وقدرته على فهم الوظيفة المثالية له، وتوافق أرائه مع آراء الكبار دون أن يقرأ لهم. ومنها أن هذه القامة العلمية قادرة، بل استطاعت أن تخدم صحوة القصيدة النبطية في سيناء خدمات جليلة قائمة على العلم الوسيع والفهم الدقيق لأوزان الشعر وبحوره. ومنها بيان مدى أهمية الحفاظ على الوزن الشعري، ومدى حرص شعراء سيناء النبطيين على أن يكون إنتاجهم موزونا وزنا دقيقا.
4- الواقع الحالي، وموقف الأستاذ:
يمكن أن نميّز بين ثلاث فئات من الشعراء النبطيين في سيناء، وَفق موقفهم من قضية الوزن:
الفئة الأولى: وهي جماعة من الشبان أتقنوا الأوزان الشعرية المختلفة، ومهروا في النسج على منوالها. وهؤلاء إما تلاميذ للأستاذ، أو أصدقاء أصفياء يرجعون إليه في بعض شئون الوزن. وكلهم يعرف للأستاذ فضلة، ويقدّر له فضيلته.
الفئة الثانية: شعراء مُجيدون لزموا البحر التقليدي الموروث (المسحوب)، لا يبغون عنه حِوَلا، ولا يغامرون بتجارب على غيره. ورأي الأستاذ في هؤلاء – وأنا هنا أذيع سره؛ فليغفر لي، لكنها أمانة العلم – رأيه أن ضعف ذائقتهم السمعية قعدت بهم دون ارتياد البحور الجديدة والغوص فيها.
الفئة الثالثة: لا تقيم للوزن اعتبارا، وإنما إنتاجها كلمات متجاورة كيفما اتفق، ثم يختمونها بقافية. والأستاذ يرى – كما يرى القدماء – أن الشعر كلام موزون. ويرى – كما يرى (لوتمان) – أهمية "التعويل على البنية الوزنية في تمييز الشعر مما ليس بشعر". (ص83) وهو يحاول أن يقنع هؤلاء بأن الشعر ليس مجرد تفاعيل جافة يحفظها المرء ويرص اللفظ بمقتضاها رصًّا، بل هو يحاول إقناعهم أن يكون أداؤهم منتظما على مقاطع صوتية متساوية ومنتظمة، وأن (يُنشدوا) ما يكتبون؛ فما شعروا بأن إنشاده سلس ومستقيم؛ فهو الشعر الموزون، دون أن يضعوا التفاعيل نصب أعينهم. وهذه لفتة فنية بارعة نجدها عند (لوتمان) حين يقول: "إن من أهم الوظائف الفنية للبنية الوزنية – الإيقاعية ما يتجلّى في توزيع النص إلى وحدات متكافئة... هكذا يتشكَّل البيت الشعري، من تعاقُب وحدات صوتية، تتجلّى كما لو كانت توجد موزَّعة مستقلة بعضها عن بعض، وفي ذات الوقت [يتشكّل البيت الشعري] من تعاقب الكلمات التي تتجلّى باعتبارها وحدات متماسكة تتكّون بدورها من التأليف بين تلك الوحدات الصوتية". (ص84)
هكذا يقف الأستاذ ندًّا لأحدث النظريات النقدية، مطبقا لها وللنظريات القديمة، في تعليمه الأوزان لمن أراد أن يتعلم من الشعراء، متطوعا لا يبتغي جزاء ولا شكورا. ثم لا يكتفي بذلك، حتى يقدّم تحليلا للوزن الشعري يتوافق مع اللهجة المحلية في بادية سيناء، ويقدم طريقة مبتكرة في رسم الحروف رسما قائما على الكتابة العروضية، فضلا عن ترجمة هذا كله في قصائد شعرية بديعة. وهذا كله موضوع مقال آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى