عبد الكبير الخطيبي - النقد والتسامح.. بين حقيقة المعرفة والأخلاق.. ترجمة: مراد الخطيبي

عبد الكبير الخطيبي (11 فبراير 1938- 16 مارس 2009) عالم اجتماع، وكاتب وشاعر وناقد فني. ولد بمدينة الجديدة المغربية. تقلد عدة مناصب أكاديمية منها تعيينه مديرًا للمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط. أقام عدة صداقات فكرية مع مفكرين ونقاد مرموقين أمثال جاك دريدا ورولان بارت وجان جينيه وغيرهم. من مؤلفاته: الذاكرة الموشومة (1971)، وكتاب الدم (1979) وفن الخط العربي (1976).
فاز بعدة جوائز من بينها: جائزة الأدب في الدورة الثانية لمهرجان "لازيو بين أوروبا والبحر الأبيض المتوسط" في إيطاليا، عن مجمل أعماله الأدبية وتجربته التي انطلقت أواخر الستينيات من القرن الماضي، وذلك لمساهمته في خلق لغة أدبية وطنية ومستقلة في مجال العلوم الاجتماعية، والتزامه بقضايا المساواة الثقافية والتنوع الفكري بالمغرب. وجائزة "الربيع الكبرى" التي تمنحها جمعية "أهل الأدب"، وهي جمعية ثقافية فرنسية عريقة يعود تأسيسها إلى عام 1838 من طرف أهم كتاب الأدب الكلاسيكي بفرنسا وأكثرهم شهرة في الوقت الحاضر، أمثال الروائي الفرنسي أونوريه دو بالزاك والشاعر فيكتور هيغو والروائي أليكسندر دوما.
والمقال هو في الأصل محاضرة ألقاها الخطيبي بكلية الحقوق بالرباط بتاريخ 25 نونبر 1981 تكريمًا للبروفسور محمد لحبابي الذي كان رهن اعتقال حينذاك. وتمحورت المحاضرة حول تصور عبد الكبير الخطيبي للنقد بشكل عام، ورؤيته الدقيقة حول مفهوم الباحث الناقد. هذا المفهوم يتطلب عدة شروط لتحققه، كما أنه يتمدد ضمن أرضيات ومجالات معرفية عديدة.
النقد والتسامح
هذه المداخلة أعتبرها مساهمة غير مباشرة في دراسات وأعمال ذاك الذي أعتبره هنا "الغائب"، هو نفسه الذي كنت أقدر فيه دائمًا النزاهة الفكرية واستقامة الطبع. سوف تكون مداخلتي حول المثقف، أو بالأحرى حول الباحث باعتباره موضوعًا، برهانًا في تقاطع مع مفهوم آخر هو التسامح. سيكون حديثي بين النقد والتسامح، لنقل بين حقيقة المعرفة والأخلاق. بمعنى بالنسبة لنا، أدبيات كل عبارة، كل فكر حر، الذي يغامر بحريته باعتبارها إلى حد ما قابلة للكبح.
بداية، مشكل معجمي، كلمة "ناقد" قبل الذهاب بعيدًا. يحتوي هذا المفهوم كما نعلم جميعًا على فكرة ظلت دائمًا مهملة، وهي الوضع في مأزق (أزمة). النقد باعتباره وضعًا في مأزق، مأزق سواء بالنسبة له وسواء أيضًا بالنسبة للموضوع الذي يتناوله.
بهذا المعنى، فهو دائمًا مزدوج. سواء كان مرجعنا في النقد هو التصور الكانطي، الهيجلي أو الماركسي، فعليه أن يتأسس، أن يضع أسسه مع تفعيلها (ولكن ليس بأي طريقة) داخل عنصر تكوينه، خطابه، منطقه، ابستمولوجيته وكل جهازه الاستراتيجي في نظام المعرفة الذي يعده وفي إطار الوضعية المادية التي تحدده تاريخيًّا.
يبدأ النقد انطلاقًا من أسسه. هذه الأسس لا يجدها النقد فقط داخل نظام المعرفة الذي يسبقه، بل أيضًا داخل نظام الواقع، الذي يحصل كل واحد منا على تجربة منه. واقع شرس. بهذا المعنى كذلك، فالنقد مزدوج: نقد قانونه الذاتي والقانون المجتمعي.
نبدأ؟ ننتهي؟ تلك هي الكلمات المعتادة التي تبدو بسيطة عند التفوه بها. ولكن فلنكن ولو للحظة يقظين حيال أماكن البدايات والنهايات والغايات.
سأبدأ بالحديث عن المكان. عن الطوبوغرافيا، وهذا ليس صدفة بالمرة. عندما يكون النقد مُفكَّرًا فيه، فهو هندسة للعقل. سأوضح، ربما تعتبر صورة الدائرة الإغواء الأكثر استمرارًا للفكرة، طالما أنها تعود إلى نفسها باستمرار، فإنها تتحول في حد ذاتها كبداية لها وكنهاية لها. الدائرية: بداية لا نهائية حول أسسها، حول دستورها الأولي.
للذهاب بسرعة، سأميز، في هندسة العقل هاته، بين ثلاث حركات حاسمة:
- النقد الدائري.
- النقد المستقيم.
- النقد الدقيق.
ثلاثة أشكال مرتبطة إذن بالهندسة، بحيث يكون فكر العقل -في نماذجه الأساسية- صورة طوبوغرافية للعقل.
الأول (النقد الدائري) يقول الشيء نفسه، من خلال التطور الذي، عند الكشف عن ذاته، يعيد تتبع خطواته دائمًا، في إعادة التشغيل هذا، فإنه يرغب في الوقت نفسه توحيد المكان والزمان، عالمه الأصلي والعالم المحيط (الطبيعة، التاريخ، المجتمع) به في بيئة نقية من ذات إلى ذات، ولكن من خلال الاختلاف الدائري. إن تباين الثابت هو الذي يطارد كل فكر دائري. سواء في شكل نظام (النظام الهيجلي مثلًا) أو في شكل العودة الأبدية للذات (عند نيتشه مثلًا) أو الفكرة المذهلة للدائرة، التي تصبح فكرة مجنونة، تستمر في تجربتها بتدمير ذاتها، بالتفكير من خلال اللا مفكر فيه، سواء في أي شكل، شكل الدائرة، الدوران، من البداية اللانهائية والنهاية التي أعيد تشغيلها بلا حدود، يظل هذا الشكل، كما قلت، الإغراء الرئيسي للفكر، وبالتالي للنقد.
.. ..........



هامش:
1- محاضرة ألقاها الدكتور عبد الكبير الخطيبي بكلية الحقوق بالرباط بتاريخ 25 نونبر 1981 حول الأستاذ محمد لحبابي إبان اعتقاله.
.....




* جزء من المقال المنشور بالعدد (٣٤) من مجلة ميريت الثقافية أكتوبر 2021م.
#ميريت_الثقافية


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى