د. صلاح هداد - قراءة في المنجز الإبداعي رواية (شهوات النعناع) للكاتب الشاعر والقاص والروائي (أسامة الطيب)

مدخل او تهيئة :
بداية اعترف تماما أن العنوان قد اثارني لحد كبير واخذني بكلياتي لاعمال فضولي لكشف تجلياته وتفكيك مكنوناته وهذا بدوره دفعني للبحث عن تفسير أوقل تاويل المركب الإضافي ودلالاته على مستوى اللغة والعلاقة الافتراضية بين ما هو مدون على غلاف النص وبين الحكاية المدرجة داخله بالطبع هى علاقة جدلية، تدور في كثير من الأحيان حول طبيعة النص السردي في مركزيته الموضوعية وما يدور داخلها من وقائع وأحداث ،وما يحتويه العنوان من معان مكثفة وملهمة مستمدة مما يدور داخل النسيج السردي الحكائي.
كما أن هناك شبه تواصل جمالي بين العنوان وبين دلالات النص خاصة إذا كان هذه الدلالات تمتح من رؤية الكاتب ونسق تفكيره ومتخيله الخاص في التعبير عن واقع خاص وبأحداث محددة، والعالم الروائي لأي من كتّاب الرواية هو العالم الذي يمنح عنوان النص في بعض الأحيان بعضا من مشروعيته وألقه في التواجد والحضور.

لمحة عن الكاتب المهاجر:
اسم المؤلف :أسامة معاوية الطيب
تاريخ الهجرة:2000م وحتى 2004م لم يكتب سوى الشعر الذي يسكنه جينيا ووجدانيا منذ نعومة الصبا ،ثم خاض غمار القصة القصير فأبدع وأينع وأثمر ،وظل قلق الابداع يلازمه حتى يستكمل مشروعه الإبداعي ،فدخل عالم الراوية تحول الى الرواية ،وكانت باكورة انتاجه رواية (شهوات النعناع) حكايا الأغنيات المهاجرة، كابد ويلات الغربة في مهجره الاختيار في الشمال الأوربي
وعلى ضوء بطاقة التعريف أعلاه ، يجدر بنا ان نتداول اثر الغربة في فكر ومشاعر الانسان بشكل عام والمبدع صاحب المشروع بشكل خاص ...وهنا قد ينبع تساؤلات كبيرة حول تأثر الغربة والاغتراب والهجر والتهجير والتهجار والتسفار كل تلك المحمولات الشعورية تشي بمدلولات وتأثيرات في البناء الفني والمشروع الإبداعي .
لا جدال أن الغربة وكل مشتقاتها تجربة مريرة وصعبة لا يعرف كنهها الا من كابدها ،ولكل وجهة نظر ورؤية فلسفية تدفع نحو استيلاد دلالات نوعية تحول لواعج الغربة الى فعل إيجابي يتجه كليا نحو بناء صورة إنسانية وجودية مغايرة ، ومؤكد أن تغير الأمكنة لها أثر وتاثير قوي في انتاج المبدع وومنجزاته الفكرية والقافية نوعا وكما على مستويات متعدد تبرز بجلاء في لحظة التقاط الصورة أو الفكرة والسياقيات الحوارية مما يفجر طاقة المبدع
وهناك نماذج كثيرة لكتاب ابدعوا في مغتربهم رغم الانفصال الجسدي عن محاضنهم الأولى واثروا سوح الادب بافكار كونية مستنيرة ،ومنهم كاتب راوية ( شهوات النعناع ) أسامة الطيب موضوع دراستنا ، واتصور انه كان وفيا لبيئته رغم بعد المسافات يمتح من بئر مخزونه الثقافي وذاكرته المليئة بشتى الصور والاخيلة للامكنة والازمنة والشوارع وتفاصيل الحياة اليومية في محاولة مستبصرة للخروج من دائرة التنميط والتاطير والانكماش مستلهما ارثه ومستثمرا شاعريته لاخراج عمل ابداعي يستحق القراءة والمناقشة والمدارسة.
محاولة تفكيك العنوان :المالات والتأويلات والمعالجة
بالرجوع إلى المظان والمراجع المعجمية في اطار البحث عن تأصيل المفهوم واستنباط المدلول من العنوان ،وجدت من المهم تسليط الضوء على المركب الإضافي (شهوات النعناع) ،حيث جاء في المعجم الوسيط أن :
و [الشَّهوةُ]: تعني الرغبة الشديدة.،و القوَّة النفسانية الراغبة فيما يشتُهَ، و ما يُشْتَهَى من الملذَّات المادية.(والجمع): شَهَوات، وأشهيةٌ، وشُهًى.
وفي التنزيل العزيز: {زُيِّنَ لِلنَّاس حُبُّ الشَّهَوَاتِ من النِّسَاء والْبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران: 14].
والراجح عندي أن الشهوة تدور في فلك الرغبات النفسية وما تهوى الذات ، وكما اتضح بالبحث أن النعناع ،حيث يُعتبر نبات النعناع نباتاً عشبياً معمّراً، له رائحة قوية ومحببة لدى الكثير من الناس، ويتميز بمجموعة من الفوائد الصحية والجمالية، وهو من أكثر الأعشاب الخضراء التي لا تكاد تخلو البيوت منه، وخاصة في فصل الصيف، بحيث يستخدمه الكثير من الناس لإعطاء نكهة رائعة للشاي، أو يشربونه وحدَه بعد غليه في الماء .
وعلى ضوء تلك التفسيرات ، ماذا يقصد الكاتب بهذا العنوان؟ وما دلالة ذلك في السرد والمحتوى ؟ شهوات النعناع ... جملة ناقصة مكونة من مضاف ومضاف إليه ، ومبتدأ بلا خبر، ومجيء العنوان جملة ناقصة على هذا النحو يثير التساؤل بغية الوصول إلى تمام المعنى. فهي جملة خطابية تشير إلى دلالة معينة ومعرفة مقصودة ، لكنها غير منصوص على نوعها أهي شهوات إيجابية أم سلبية ؟! ولعل هذا ما يجيب عنه المتلقي خالي الذهن عند مواجهة مثل هذا العنوان للوهلة الأولى، ما هذه الشهوات ؟ وما مصدرها؟ وهل هي مقبولة ام مرفوضة ؟
عليه ونحن نستقبل هذا السفر الانيق بحفاوة وحيرة واندهاش وفرح يتحتم علينا عكس ما انقدح في اذهاننا من تفاصيل النص ،ولكن لا يتسنى لنا كشف اللثام عن المقاصد والدلالات من هكذا عنوان حتى نغوص في ثنايا النص الذي خط بعناية وفلسفة وعمق ،وحقيقة كنت اتمنى أن يكون العنوان (حكايا الأغنيات المهاجرة ) بدلا من شهوات النعناع ربما هو في تقديري الاقدر على إعطاء إشارات للولوج نحو النص الروائي ،ويقينا أن الكاتب (أي كاتب ) يجد عنتا ومشقة كبيرتين في اختيار العنوان المناسب ،ولذلك كان انحياز الكاتب للاستهلال بذلك المركب الإضافي ليستثير المتلقي ويهيج فضوله وذلك أسلوب ونمط من التحايل او قل الذكاء لاستدراج القارئ واجباره لمعرفة ما وراء العنوان المحير و المبهر في آن واحد .
ذلك وعند استعرض المحتوى بعد جولتنا في العنوان يجدر بنا أن ندلف نحو خصوصيات الكاتب و تمرحله في مقامات الابداع بدا بالشعر الذي كان يمتلك عليه كل حواسه ورؤاه وما زال ميراثا من اسلافه مرورا بكتابة القصة القصير ة ...وصولا الى المحطة الأخيرة وهي الدخول في عالم التجريب في فن الراوية .....دون كثير جدال قد اخلص الكاتب في السيطرة على تفاصيل النص من خلال السرد الذي تفوح منه رائحة الشعر والشعرية مما اضفى بعد من الجمال والصفاء والالق مما يجعلك تقرأ بمتعة ونهم غير مسبوقين ،ربما أن القلق الإبداعي وحالة الحيرة والارتباك والفوضى التي تنتظم مفاصل الراهن تستوقفك كثيرا لتأمل حصيلتك من الحصاد والكسب الحضاري ....تقع الراوية في (220) صفحة تتوزع بين أربعة فصول ، ولكل فصل عنوان خروجا عن النمط السائد في الكتابة ،وقد كانت الفصول ،أغنيات الحنين والبشارة ،و الرحيل، والجسارة، وهنا يحضرني صوت فيروز وهو يدغدغ المشاعر برائعة جبران خليل جبران المقتبسة من قصيدته المواكب ،وصدحت بها فيروز (شجرة الأرز اللبنانية)حيث يقول:
أعطني الناي وغنِّ .. فالغنا سرّ الخلود.....وأنين الناي يبقى .. بعد أن يفنى الوجود
ولعل أكثر ما يربط المنافي والاغتراب هو الحنين المستمر للمكان واتصور انه لا يمكن الفكاك من اثر لسعات المنافي سواء القسرية او الاختيارية الا عبر خلق اليات تخفف من وطأة التأزم والازمة بما توفره الأغنيات من سلوى لحين ما ،ولذلك أرى أن الكاتب كان متفردا في اختيار أسماء فصول روايته ...ويجدر بنا ونحن نحاول القراءة من جوانب مختلفة ان نقول في حق الراوية والراوي أن كليهما يحملان مصابيح الاستصباح بغية انارة العتمات وتعبيد وعثاء الطريق ،ولذلك ونتيجة للمعاناة التي تواجه المغترب تتناسخ وتتوالد الأفكار الإبداعية كترياق للعنت والعناء، نقول من الصعب الحكم بأن الراوية وبما تميزت به من لغة شاعرية سامقة ورائعة وباهرة أنها رواية سياسية او تاريخية ،وإن كانت قد مست شيئا من ذلك ،لذلك هي رواية تكشف عن قلق المبدع ،وأقول وأنا على ثقة من أن الراوية استحوذت واستوفت كل المتطلبات الفنية من(صحة اللغة، وجدارة الفكرة، عمق الشعور، خصوبة الخيال، توظيف الرمز، درجة التكثيف)، كما نجد الكاتب وهو يأخذنا ببراعة للتأمل وإعادة القراءة فهو كالجواهرجي ينتقي كلماته ومفرداته وينظمها في عقد نضيد ،وكأنه يجمع اللالي في نظم واحد فريد تتجلى فيه جماليات السرد وسمو اللغة المبهجة وحسن التعبير.
الشخصية من أهم عناصر الراوية وتنبع تلك الأهمية من قدرتها التأثيرية في نمو وتنامي وتطور الاحداث هذا من جهة ومن جهة أخرى تلعب الشخصية دورا بارزا في القدرة الاقناعية والامتاعية والتأثيرية كوسيلة ونافذة يعبر من خلالها الكاتب عن أفكاره ورؤاه بغض النظر عن التأطير ماذا كانت الشخصية ورقية ام إنسانية ام رمزية او رقمية ،فغالبا لا يكون للشخصيات وجود واقعي في الحياة إنما هي كائنات ورقية ،ولقد استطاع الكاتب اختيار شخصيات الوراية بذكاء .

نجد من أهم الشخصيات التي كانت بمثابة مرتكز للراوية شخصيتان (تاج السر وسيف) ،أما تاج السر ،وهذا الاسم يحمل دلالات روحانية وعرفانية ،كما أن (سيف) اسم يحمل دلالة رمزية للمضاء والتحدي والتصدي ،وبذلك كانا يمثلان المرتكز الأساسي للرواية ،وبعيدا عن اصباغ أي صفة للراوية الا اننا مفهوم التناص يلوح في النص فلو سلمنا جدلا بان التناص هو: أحد مميزات النص الأساسية التي تحيل على نصوص سابقة عليها أو معاصرة لها. وعلى هذا فإن النص ليس انعكاسا لخارجه أو مرآة لقائله، وإنما فاعلية المخزون لنصوص مختلفة هي التي تشكل حقل التناص ومن ثم فالنص بلا حدود، نلحظ أن غالبية الرواة بشكل او باخر يتدثرون بجلباب شيخ الراوية السودانية الراحل الطيب صالح في رؤيته للهوية وصراع الاضداد وفلسفة الموت ولكن الكاتب المتفرد يضيف بأصالة ويطور معالجته للأحداث بلغته الخاصة .
عند الفصل الأول تصدمك فكرة الموت وما يتصل بها من أحزان ، وبياض الأسرة وأطقم الاستشفاء وطلاء الجدران ...ونقتطف ما يلي "الفرق بين الموت والحياة يظل يذكر بما يأخذ، والحياة تظل تشغلك بما تعطي"ص14 .."لماذا لا يرحل الأصدقاء " ص15....ولعل أن علم الأبستمولوجيا(الدراسة النقدية للمعرفة العلمية) يشير بجلاء في تعريفه للمادة السردية (قصة أو رواية) يكون في إعادة صياغة الكون باللغة حيث يتطلع الكاتب من خلال المنجز الادبي الى خلق عالم خاص به عبر اللغة ،ومن خلال ذلك يصنع رؤيته للحياة والكون والانسان والمجتمع ، ويأتي الموت كحقيقة يقينية في الحياة وان كان ثمة توهم انه نقيض للحياة ،فجوهر الحياة يكمن في كونه ضد الموت ،وفي هذا السياق تولد الراوية ،فالموت هو الوجه الاخر للحياة انطلاقا من فكرة الثنائيات والأضداد المتباينة التي ترفدنا بطعم قيمة الأشياء والأشخاص والأفكار في بعد تجريدي ملهم وشبه مطلق ،ونحن نتناول فلسفة الموت في الراوية باعتباره أي الموت اكثر الموضوعات اثارة للجدل لما يشكله من علاقات معقدة وعصية الفهم تترتبط بحياة ومغزى حياة الانسان في تجلياتها ومستوياتها الفلسفية والاجتماعية والوجدانية والسايكولوجية والماورائية ،وجماليات الموت تتبدى في اطار التحولات والنقلات الأفقية والرأسية للخط السردي زمانا ومكانا فرحيل سيف البطل الثاني في الرواية يعطينا فكرة عن وحشية النظم الشمولية وقدرتها القاسية في تصفية من يخالفونها الرأي بطريقة في منتهى البشاعة ،وفي وسط هذا الموت العبثي يقف العلم والحضارة والتقنيات كلها في منصة الفشل والعجز في فهم السر وفك شفرات اللغز ...في تقديري استطاع الكاتب السيطرة على تفاصيل الراوية من خلال استكماله للابنية الفنية والجمالية للنص وكل ذلك يبدعه الكاتب بطرائق ووسائل تكنيكية فارهة تتسمم الأخيلة المدهشة والالتفاتات الذكية والتجديد والتعابير التجريبية ،وذلك ذكاء من المؤلف لشد القارئ وجذبه وامتاعه بأساليب مختلفة ومواكبة للواقع حرصا منها لتخطي التحديات التي تجعل القراء يعزفون عن القراءة ..ولعلنا نكتفي بقول جون كيتس(الموت يصنع التاريخ ،والتاريخ يصنع الموت)، ومن خلال السرد نصل إلى أن سيف من ضحايا التعذيب تم ازهاق روحه في اقبية سجون الشمولية الدكتاتورية ،لذلك يمكن أن نقرر أن الراوية ليست تاريخية بالمعنى الاكاديمي انما هي ومضات لرسم الشخصيات من تفاصيل التاريخ وما علق بالذاكرة لمعالجة الحاضر و استشراف المستقبل

وملاحظة أخرى وفي التفاتة استرجاعية ياخذنا الكاتب الى عهد التركية السابقة (معركة القيقر) كانما يشير للاقتتال القبلي ..وهذا يفتح نافذة انطولوجية وجودية لمسـألة الهوية تتناسل فيه إشكالية الهوية وصراعها غير المحسوم فمنذ حمزة الملك طمبل ومحاولاته لاجتراح لمفهوم الهوية ظل الصراع في أوجه حتى جاءت مدرسة ابداماك ومدرسة الغابة و الصحراء والعودة الى سنار محمد عبدالحي للبحث عن مفهوم متفق عليه عن حقيقة الهوية السودانية ،في بلد كالقارة تتمازج فيها عناصر متعددة الأنواع كان الاجدر بالنخب حسم الامر منذ امد بعيد ولكن للأسف ترك هكذا مما خلف الغبن والاحتقانات والاحساس بالدونية عند قوم وبالاستعلاء عند اخرين ،وأرى أن المخرج هو الاقتناع بان السودان عربي افريقي أي الايمان بفكرة(السوداناوية)حتى يمكن صنع هوية واحدة تتعايش فيما بينها في ظل الحد الأدنى من القواسم المشتركة .
ختاما أقول ان الراوية بما طرحته من معالجة متفردة وفريدة من حيث البناء الفني والجمالي والاخيلة الخصيبة والالتقاطات البصرية الباهرة فلقد غطت متطلبات الفن الروائي الذي الذى تمتع به الرواية عن سائر أجناس الأدب، وهو السرد، بمكوناته: "الأشخاص، والصراع، والحبكة، والعقدة، والحل)، واتكأت الراوية على عدد من التقنيات المتعلقة بفن الراوية لعل من أهمها تقنية الاسترجاع ـflash back)، والرمزية ،والبناء الفني)
في الواقع أن الراوية اجتماعية بامتياز مما يبشر أن المؤلف سيكون رقما كبيرا في عالم الراوية خاصة اذا تحدثنا عن اللغة السردية الشعرية التي انتظمت النص بفرادتها وحيويتها وحداثتها علاوة على خلو الرواية من الأخطاء اللغوية والصوتية والصرفية الاسلوبية والنحوية والترقيمية والمعجمية والدلالية والإملائية الا ما ندر وربما يكون لظروف مطبعية .
عليه يتوجب على الكاتب أن يقدم رؤيته في المشكل الاجتماعي والسياسي والتاريخي وليس بمطالبات بوضع خارطة طريق صماء وإنما بإرسال اضاءات بانورمية ناضجة تنير زوايا العتمات

د/صلاح الدين أبوبكر هداد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى