د. صلاح هداد - قراءة نقدية في عسف العسس مجموعة قصص قصيرة للكاتب الهادي علي الراضي

عسف العَسَس :مجموعة قصصية

للكاتب السوداني الاديب الاعلامي ( الهادي علي راضي)

قراءة للنصوص القصصية


مقدمة :

تقع المجموعة القصصية في (64) صفحة ،وتحتوي على ثمان قصص قصيرة وهي :أدخنة متصاعدة، عسف العسس ،مونولوج أنثى خائبة، مناضد ملونة ،تحور زوار الليل/تقرير حالة اختفاء ،لجن نشيد الثورة ،الطائر المعدني .. تتميز نصوص المنثور في هذا السفر بفلسفة عميقة ،وتناول يتسم بالنضج والعمق الثقافي ،كما يضج العمل الإبداعي بالحركة والتكثيف والرمزية المدهشة في اطار من التجريب الواعي تتجلي في قدرته في حشد تقنيات السرد ببراعة ليكون المنتج في نهاية المطاف عمل في غاية الإنسانية والابداع مما يؤكد أن الكاتب يمتلك مشروعا كبيرا في عالم الادب مما مكنه من صنع رؤية سردية تختلف نوعا وسمات مجترحا طريقا متفردا في اقتناص اللقطات والنادرة والحية وقدرة مذهلة في تصوير المشاهد فضلا عن لغة تعبيرية شعرية عالية .

في ظلال صورة الغلاف و العنوان:

لوحة الغلاف التي رسمت بشفافية ومزاج عال تدل على رؤية مستنيرة تظهر المدينة وكأنها كومة من العذابات والابعاد الخاوية من الجمال والانشراح رغم وجود بعض الوجوه ساقطة على الجدر بلا معنى ولا مدلول ..وبرز الشارع فارغا مستوحشا ومرعبا ،لا شيء ينطق بالحياة ،ربما تعكس لوحة الغلاف حالة بيوت الاشباح واوكار التعذيب التي تستغلها السلطة القمعية في تصفية خصومها ، وقد انعكس الجو المأساوي على تفاصيل المجموعة فهي تكاد تكون وثيقة تدون لسنوات الذل والهوان والصراع وسلب الحريات وقهر الشرقاء.

كالعادة استوقفني العنوان الغرائبي وتركيبه الإضافي المبهم والذي ينتزعك من سكونك ويسكب في شرايين ذاكرتك عقار الاثارة والانتباه والتحريض لاستكناه مغزى العنوان ،ولكم أنا مفتون بصياغة العتبات الأولى للنصوص فهي المفتاح للولوج في دهاليز العمل الابداعي ،وفي محاولة مني لاستدراك المعنى من العنوان(عسف العسس) عمدت الى البحث في معاجم اللغة فوجدت أن مفردة الفعل عسَفَ / عسَفَ يَعسِف ، عَسْفًا ، فهو عاسِف ، والمفعول مَعْسوف عسَف فلانًا :ظلمه، أخذه بالقوَّة والعنف، وجار عليه، اما كلمة عَسَس مفردها عَسَّ. والعَسَس جمع وهم جُندٌ كانوا يطوفون في الليل يحرسون ويكشفون عن أهل الرِّيبة. كما تعني عَسَفَ الْحَاكِمُ: ظَلَمَ، جَارَ.. باستكمال مقاربات الدلالة والمعني انطلقت صيحة أرخميدسية "وجدتها " فهذا العنوان المنتقى بعناية وفلسفة يترجم حالة الظلم والتسلط والقهر والاحادية والقمع والبطش الذي يكابده المرء في زمن ما ، ومن الطبيعي وانت تستعرض العنوان الذكي تشعر كأنك في بيون الأشباح ودوائر التعذيب وزوار الفجر وكل الواح الاقصاء والقتل والتشريد تستنشق رائحة الموت والدماء في مأساة كونية طالت ارجاء واسعة من العالم ولم يكن السودان استثناء فهو كان بحق نطع كبير تستباح فيه أرواح الأبرياء فيما يسمى بالأرض المحروقة والتجريف المتعمد للإنسان والتاريخ لاسيما حينما يسند الأمر لغير اهله فتضج الأرض بالظلم والجور والفجور والفساد .

وانا اجيل النظر بين السطور تعتريني حالة من النشوة والمتعة السحرية التي تحقنك بحيوية قدرة مستبصرة لالتهام النصوص ،وتتسارع الخطأ وأنا اطالع المباهج في كل فصول وتفاصيل المجموعة ،ففي القصة الافتتاحية (أدخنة متصاعدة ) يدهشنا الكاتب برسم لوحة جاذبة تبدا بعصر الادخنة تعبير مبتكر ،ثم ينقلنا الى عالم دخان الحشيش ثم دخان الند ويواصل تجوال الادخنة ليصل الى سفر الادخنة ، ففي الزحمة من الادخنة المتباينة كما ونوعا نلحظ كيف ان الكاتب يعمد الى تنويع تجربته ليختط لنفسه طريقا مختلفا في الطرح والتناول والتأويل والحضور .

فعندما يقول ص11:"وإذا رأيته ـ صباحا ـ بجانب السور المتهالك متكئا ،شاخصا نحو اللاشيء ،باسما بلا معنى ،أدركت تماما أنه قد أعلن انفصاله عنا ،وأنه الآن يتسكع في حواري بلدة شوارعها من زجاج وماؤها حليب ،نساؤها عاريات إلا من قبعات بيضاء صغيرة تغطي أحد النهدين ، رجالها طوال ضخام يرتدون السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمين ،يطاردون النساء العاريات ،يطاردهم شرطي يحمل هراوة " ندرك تماما أن الكاتب الكشف عن عوالم مليئة بالنفاق والتسفل الأخلاقي الذي يزكم الانوف فيهرع الى حيل نفسية خادعة في تجريب الحشيش للخروج من طقس القرف والاباحية ...ولعل كل ذلك الواقع المأساوي هو الحرب غير المبررة جعلت من الصبايا سبايا ومحظيات للمتدثرين بثياب الدين ...وفي سفر الادخنة يقول :"الأدخنة تتحد وتصعد إلى أعلى " في ص13 يقول: ذراعي انفصلا ونبت مكانهما جناحان منتشيا أحلق في الفضاء الفسيح وفمي منقار .." أخال ذلك حالة من الخيال الجامح أو الحلم المستغرق أو ربما حالة من الانفصال عن الواقع هروبا من راهن منغلق تحاصره أجندات ظالمة لا ترضى بالندية ولا بالعيش والتعايش مع الاخر .

عسف العسس :

وهذا عنوان المجموعة ..تبدأ القصة بتعبيرات رشيقة جديدة "كان الوقت شتاء والكون يزف الشمس إلى مخدعها الليلي ،وعند الشاطئ الآخر كان الحال ..مسغبة تنهش الأحشاء ،زمهرير يسد مسامات الدفء ،أبواب مؤصدة وخوف وضياع " ص16/17، لوحة يصور فيها بدقة مشاهد مأساوية معيشة في الواقع ...وعندما اقتحم العسس منزل اولجا الخواجية وجدوا الكتاب الأحمر :"المجد للشيطان ..معبود الرياح ..المشهد يكشف عن البعد الأيديولوجي للسارد والذي يميل لليسار والتمرد والغضب ويعبر عن حالة الضيق من حالة التوتر النفسي التي يؤجج سعيرها أولئك الأندال من زوار الليل والعسس ،تفرق الاصحاب وتقطعت بهم السبل في فجاج الأرض ،وهكذا قبضة الامن والدولة البوليسية تنشر في الأرض الفساد والفزع والانفصام والهروب والغربة والاغتراب ...فهم أي العسس رمز القهر وسياط الجلاد الموجهة لقمع الاحرار وذوي الوجدان السليم والضمير الحي . (جاء أناس مريبون، ليسوا بعسس، لكنهم يقومون بأعمال العسس…)

مونولوج أنثى خائبة:

المونولوج حوار داخلي ينبثق من شخص واحد معبرا عن حالة شعورية ، وفي هذه القصة يقدم السارد او الكاتب قصة أنثى مأزومة كرهت كونها ، اتسمت القصة بنوع من الحركة الدرامية في تنقلاتها بين ما يبثه التلفاز من مواد مملة واكاذيب عن بطولات زائفة .

كأنما يريد الكاتب ان يقول في زمن الاستلاب الثقافي والاقصاء السياسي تتبدل كل الأشياء وتتحول الى كائنات بلا روح ، تمشي في الأرض وتمارس حياتها بمنتهى الضيق وفقدان الشهية نحو الاستمرار أو الانغماس في تفاصيل الحياة .

.ختاما يمكننا القول بأن المجموعة القصصية الرائعة التي بين أيدينا مجموعة تتسم بلغة أدبية شعرية مطرزة بقناديل من البلاغة والوانها الزاهية ،وفي ذات تحمل رسائل مضيئة وواضحة لعكس الواقع وإمكانية تقويمه والانتقال من دائرة الاقتتال والحروب الدامية الى عالم يحتفي بالتنوع وقبول الاخر ، فالمجموعة تحشد افانين من التقنيات الحديثة والمبتكرة من نحو الاسترجاع والتداعي الحر والاخيلة الخصيبة واللغة الانيقة و التكثيف والرمزية والاسطورة في قالب انيق يفيض بالعذوبة والمتعة ،وكان الكاتب موفقا في السياق والسرد المتنوع وربط العلاقات في منظومة واحدة متشابكة لتخرج لنا في المحصلة النهائية عملا ابداعيا لن تنتهي مدهشاته وروائعه لذا نقول قد اتعبت من يأتي بعدك لله درك أيها الرجل .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى