عبد الغفار شكر - البنية الثقافية للنخبة المصرية(1)

(1 )

تتطلب دراسة البنية الثقافية للنخبة المصرية أن نتناول أولاً بالدراسة النخبة المصرية: ما هى؟ وما هى مكوناتها الداخلية؟ وكيف تشكلت تاريخياً؟ وكيف أثرت هذه النشأة على وضعيتها الراهنة؟ ومن ثم يصبح بالإمكان دراسة البنية الثقافية لهذه النخب أو بمعنى أدق النخب النوعية التى تشكل القوام الأساسى للنخبة المصرية، والمواقف والتوجهات الثقافية لكل منها. كما يصبح بالإمكان معرفة موقف النخبة المصرية من مسألة الدولة باعتبارها القضية الرئيسية فى التوجهات الثقافية للنخبة المصرية فى تجلياتها المختلفة سواء كانت نخبة حاكمة أو نخبة محكومة، نخبة مركزية والنخب النوعية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.. الخ.

أولاً: حول النخبة المصرية
النخبة مصطلح فرنسى من أصل لاتينى Elite ينطوى معناه الحرفى على عدة مفاهيم، منها الأقلية المنتقاه، أفضل جزء فى الشىء، الطبقة العليا. وهو من الناحية اللغوية اسم جمع يطلق على من يشغلون مراكز عليا فى المجتمع لما يتفوقون به على غيرهم من صفات حقيقية أو مزعومة، وقد استخدم هذا المصطلح فى أكثر من معنى مثل الطبقة الحاكمة، الأرستقراطية، الأوليجاركية، الطبقة السياسية (1).
بدأ استخدام مصطلح النخبة على نطاق واسع بعد عام 1930، من خلال نظرية النخبة لعالم الاقتصاد والاجتماع الإيطالى باريتو Vilfrodo Parito الذى أكد أن الديمقراطيات السياسية تخضع لأقلية مستبدة هى النخبة التى تخفى أخطاءها بإدعاء تمثيل إرادة الشعب (2). وقد تناولت العديد من الدراسات الأساس الاقتصادى للنخبة كما فعل رالف ميليباند Miliband من خلال عمله على تطوير نظرية الدولة عند ماركس وانشغل نتيجة لذلك بدراسة العلاقة بين الدولة والطبقة، وانتهى من دراساته إلى أن الطبقة الحاكمة تحولت إلى طبقة مسيطرة تنقسم من الداخل إلى عدد من النخب الاقتصادية تسيطر على إدارة الاقتصاد، كما تسيطر على إدارة الدولة من خلال نخبة أخرى هى نخبة الدولة State Elite وهى تتكون بدورها من نخب فرعية تعكس المؤسسات الرئيسية للدولة: الحكومة والإدارة والجيش والقضاء والحكومات المحلية والهيئات البرلمانية (3) وهناك اتفاق بين الباحثين من كل الاتجاهات الأيديولوجية بتعدد النخب، وأن الأهم فى هذه المسألة هو نمط السيطرة السياسية وليس الأفراد الذين تتشكل منهم النخبة، والذين يمارسون سيطرتهم على السياسية لا من خلال الحكم المباشر، وإنما من خلال آليات تمكن النخب السياسية والاجتماعية من تحقيق مصالحها، ويستمد مفهوم النخبة قيمته الحقيقية من كون النخبة جماعة اجتماعية تتملك وعياً اجتماعياً وقدرة على التماسك الداخلى لها علاقات بالطبقات التى تشكل المجتمع أو أنها تشير إلى الأفراد والجماعات التى تمتلك القوة وتمارسها (4). وتعتبر العلاقات الاقتصادية بين الطبقات هى القاعدة الأساسية التى يعتمد عليها سيطرة النخبة سواء كانت عسكرية أو دينية أو سياسية، من هنا تكتسب دراسة العلاقات المتبادلة بين أفراد النخبة الواحدة، وبين هذه النخبة والنخبات الأخرى فى المجتمع، ثم علاقات كل هؤلاء بالجماهير تكتسب أهمية خاصة للتعرف على الجانب الرئيسى فى هذه العلاقات، وكيف يساهم فى توليد مظاهر النفوذ والتأثير التى تمتلكها النخبة (5) ويعود تعدد النخب فى المجتمع إلى أن القوة السياسية فى المجتمع مجزأة وموزعة على عدد من جماعات المصالح والتنظيمات المتنافسة، وأن الحكم ليس فقط مسئولية السياسيين الرسميين، بل إن الأشخاص والجماعات الاجتماعية المختلفة لها أيضاً دورها الذى تلعبه وهى تؤثر فى السياسة بطريق مباشر وغير مباشر. وتعتمد كل نخبة من هذه النخب المتعددة فى المجتمع على ركائز مختلفة للقوة السياسية، فهناك رجال الأعمال الذين يرتكزون على الدعامة الاقتصادية، وهناك العسكريون الذين يسيطرون على أدوات العنف الرسمية، وهناك أعضاء الحكومة الذين يسيطرون على حق اتخاذ القرار أى السلطة السياسية.... الخ (6).
هكذا وانطلاقاً من حقيقة تعددية النخب فإنه يمكن تقسيم النخب فى المجتمع إلى نخبة استراتيجية Strategic elates ونخب فرعية اجتماعية وإقليمية ومحلية، كما يمكن تقسيمها من زاوية أخرى إلى نخبة حاكمة ونخب غير حاكمة، أو نخبة مركزية وأخرى فرعية. وتجمع هذه النخب بمختلف أنواعها بين أعضائها جماعات مهنية ومدنية، ورجال سياسة محترفين، وموظفين حكوميين، وفلاحين وتجاراً، ومثقفين.. الخ (7).

النخبة المصرية: تشكلت النخبة المصرية المعاصرة عبر تطور المجتمع المصرى خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما شهده المجتمع المصرى خلال هذه الفترة من تطور رأسمالى واستعمار بريطانى، فضلاً عن الانفتاح على الدول الرأسمالية المتقدمة فى أوروبا وبعثات محمد على التعليمية وما تلاها من بعثات تعليمية طوال القرن التاسع عشر والعشرين، والانفتاح على الثقافة الأوروبية، وانعكاس هذه التطورات على الصراع الداخلى بين الإقطاع والرأسمالية، بين أنصار التجديد والقوى التقليدية، بين دعاة التحديث والتمسك بالتراث، وولدت فى هذا السياق فئات اجتماعية جديدة واتسع نطاق الفئات الوسطى فى المجتمع ونشأ تحالف اجتماعى يجمع بين الرأسمالية وكبار ملاك الأراضى الزراعية وعرفت مصر كثيراً من مظاهر الحداثة كالأحزاب السياسية والنقابات والصحافة، وعلى أرضية هذا التطور الاقتصادى الاجتماعى وانعكاساته السياسية والثقافية تبلورت النخبة المصرية المعاصرة متأثرة بما يسميه الدكتور أحمد زايد "الحداثة الطرفية" ويقصد بها نمط البناء الاجتماعى والثقافى الذى يتشكل على أطراف النظام الرأسمالى العالمى، والذى يختلف فى ظروف نشأته عن البناء الاجتماعى والثقافى الذى تشكل عبر مشروع الحداثة فى الغرب. ويرى أن الحداثة الطرفية فى مصر كانت منتجاً من تطورات غير متساوية وغير منتظمة ناتجة عن اتصال غير متكافىء –استعمارى فى الأساس- بين أبنية تقليدية وثقافة حديثة، وفى حين أن الحداثة فى الغرب كانت ناتجة من تطورات داخلية أما فى مصر فإنها كانت ناتجة عن الاتصال بالخارج، ولم تتبلور عبر تاريخ مستمر من التطور الداخل، فقد فرضت على المجتمع المصرى علميات تحديث قسرى يتم من أعلى، وعمليات انتقاء عشوائى من التحديث، فضلاً عن التركيز على الأشكال الحداثية دون مضمونها، وكانت النتيجة بنية اجتماعية غير متجانسة، وبناء طبقى غير ناضج، وثقـافة ثـالثة تجمع فى داخلها القديم والجديد، تقاوم الجديد بقدر ما تبنى الصور المتطرفة منه (8) وقد لعب نظام التعليم فى مصر دوراً بالغ الأهمية فى تكريس هذا الوضع حتى الآن. فهناك ثلاثة نظم من التعليم تنتج ثلاثة أنواع من البشر تختلف أوضاعها الاقتصادية الاجتماعية ورؤاها الثقافية ومواقفها السياسية، فهناك نظام التعليم الحديث الحكومى الذى يقوم على تدريس العلوم النظرية والتطبيقية الحديثة (لغات أجنبية، فيزياء، كيمياء، جيولوجيات، تاريخ، جغرافيا، فلسفة.. الخ) وهو تعليم مجانى يقوم أساساً على التلقين ولا ينمى قدرات وملكات التلاميذ الإبداعية ويلتحق به أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة الذين لا يجدون فرص العمل بعد تخرجهم ولا تتوفر لديهم مؤهلات تمكنهم من الالتحاق بسوق العمل، ورغم هذه النواقص فإن خريجى التعليم الحكومى يشكلون القوام الأساسى لجهاز الدولة والقطاع العام وكذلك القوام الأساس لمهن الطب والصيدلة والهندسة والمحاماة والصحافة والثقافة والإعلام... الخ. وهناك أيضاً نظام التعليم الدينى فى الأزهر الذى يوازى التعليم الحكومى الحديث من مرحلة التعليم الابتدائى إلى الجامعة ويدرس العلوم الدينية استناداً إلى كتب من التراث ويقوم أساساً على النقل والالتزام بالنصوص والتفسيرات القديمة لها ورغم ما حدث من تطوير فى التعليم الدينى وإضافة العلوم الطبيعية والرياضية وإنشاء كليات للطب والصيدلة والهندسة به إلا أن ذلك لم يغير من طبيعته الثقافية ونوعية القيم التى يغرسها فى عقول التلاميذ مما ينتج نوعاً أخر من البشر ينتمى إلى الثقافة التقليدية الموروثة وقيمها ومثلها وأفكارها ويساهم هؤلاء فى تزويد النخبة التقليدية بأجيال جديدة. وهناك نظام التعليم الثالث وهو التعليم الأجنبى بمصروفات أو مدارس اللغات والجامعات الخاصة وفروع الجامعات الأجنبية. وهذا النوع من التعليم هو نظام متكامل مواز للنظامين الأخرين الحكومى الحديث والدينى، يبدأ من مرحلة ما قبل المدرسة إلى الجامعة، ويلتحق به أبناء الطبقات القادرة والفئات العليا والمتوسطة من الطبقة الوسطى، ويعتبر الوسيلة الفعالة الآن للحراك الطبقى إلى قمة المجتمع، ورغم مصروفاته الباهظة إلا أن الفئات الوسطى تحرص على إلحاق أبنائها به لضمان مستقبل مرموق لهم. وينتمى هذا النوع من التعليم قيماً أخرى لدى الدارسين به تبتعد بهم عن هويتهم الوطنية وتشدهم إلى ثقافة العولمة، وقيم مجتمعات أخرى حسب نوع التعليم الأمريكى، فرنسى، المانى..... الخ).
هكذا يساهم نظام التعليم فى مصر فى تكريس الانقسام الثقافى فى المجتمع ويعزز انقسام النخبة المصرية، بين نخبة عصرية ونخبة تقليدية ونخبة معولمة. كما ساهمت الحداثة الطرفية فى تحقيق هذا الانقسام والمقصود بها كما أوضحنا من قبل التحديث الذى تم فى أطراف النظام الرأسمالى حيث نمت الحداثة تحت ضغوط قوى خارجية وليس انطلاقاً من تطور داخلى مستمر. فمع السيطرة الاستعمارية لم تكن بالضرورة مهيأة للتحديث وتماشت معه خضوعاً لمشيئة السلطة الحاكمة التى اتفقت مصالحها والرأسمالية الغربية، مما أفضى إلى تمييز التحديث الصناعى والثقافة الملحقة به على إنتاج الثقافة المحلية، وعلى الرغم من الهيمنة الغربية، لم تختف الثقافة المحلية مع اجتياح حركات التحديث فى القرن الماضى حتى وإن ظلت حبيسة أو مهمشة لما وسمت به من تخلف فى التمسك بالطابع القروى الراكد المفتقد لدينامية المدنى وحضارة الرأسمالية الصناعية. أفضى ذلك أحياناً إلى تشدد المحافظين وتمسكهم بالخصوصية المغلقة المفتقرة إلى التعقل العلمى المفتوح على ثقافات العالم، حتى باتت الثقافة المحلية عائقاً يحول دون تحقيق الدولة القومية الحديثة، هكذا تعايشت الثقافة الحديثة الوافدة مع الثقافة التقليدية الموروثة وظهرت ثنائيات الأصالة والمعاصرة أو الاتباع والإبداع. وقد جاءت العولمة لتؤكد ردود أفعال ثقافية فى مواجهة الهيمنة الغربية بالارتداد إلى ماضى سابق على الحداثة تتحصن به قطاعات من المجتمع على أساس روحى ودينى له، وفى ظل هذا الوضع تعانى النخبة فى هذه البلاد ومن ضمنها مصر من الصراع بين القديم والجديد، الأصالة والمعاصرة، الحداثة والعلمانية والتقاليد الدينية، فهناك معركة لا تنتهى بين التوجهات الثقافية للنخب السياسية والاجتماعية (10).
وفيما يتصل بالوضع الراهن للنخبة المصرية التى نبحث بنيتها الثقافية فإننا سوف نكتفى بتناولها فى إطار تقسيمها إلى نخبة عصرية –نخبة تقليدية- نخبة معولمة.
فهذا التقسيم هو الذى ستيح لنا دراسة البنية الثقافية للنخبة المصرية، وأوجه الاتفاق والاختلاف بين التوجهات الثقافية لهذه النخب (عصرية- تقليدية- معولمة). هذا رغم تسليمنا بأنه يمكن بل قد يكون ضروروياً فى مجال بحث آخر تقسيم النخبة المصرية إلى:
-نخبة حاكمة مركزية: نخبة استراتيجية سياسية- نخبة استراتيجية اقتصادية.
-نخب وسيطة: نخبة رجال الأعمال- النخبة العسكرية- النخبة المهنية... الخ.
-نخب محلية: النخبة الحضرية- النخبة الريفية.




أعلى