أ. د. عادل الأسطة - القدس في حكايتين صهيونية وفلسطينية

في قصيدة محمود درويش " قال المسافر للمسافر لن نعود كما " من ديوانه " لماذا تركت الحصان وحيدا ؟ " ( ١٩٩٥ ) يكتب :
" فكتبت : من يكتب حكايته .. يرث
أرض الكلام ويملك المعنى تماما "
وقد أخذ الفلسطينيون ، منذ فترة ، يكتبون حكايتهم وحكاية مدنهم ومنها القدس ، وقد ازدادت وتيرة الكتابة في العقود الأخيرة ، وتحديدا بعد نكبة العام ١٩٤٨ ، حيث فقدوا مدنهم الرئيسة والأساسية ، وتعاظم الفقدان إثر حرب حزيران ١٩٦٧ ، ففقدوا ضمن ما فقدوا من مدن ، مدينة القدس .
كانت المدن التي ركزوا عليها في أدبياتهم قبل حزيران ١٩٦٧ ، هي يافا وحيفا وعكا ، وبعد النكسة انضمت إليها القدس ، وبمرور الوقت تضاءلت الكتابة عن المدن السليبة الأولى ، وكثرت الكتابة عن القدس . أهو الإقرار بأن فلسطين غدت الضفة الغربية وقطاع غزة ؟ وأن مناطق العام ١٩٤٨ غدت أندلسا ثانية ؟ أم هي القناعة بشعار " إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، حتى لا تغدو فلسطين كلها ، بما فيها القدس ، أندلسا ثانية ؟ أم هو الالتفات الديني إلى المدينة في زمن صحوات دينية منذ أيام الخميني وزمن تهويد المدينة المقدسة ؟
ثمة صوت سماوي ناشد محمود درويش بأن يكتب حكايته ، حتى يرث أرض الكلام ويملك المعنى تماما . أيكون هذا الصوت عائدا إلى إمعان الشاعر في أدبيات الآخر التي ركزت على كتابة الحكاية حتى يرث أرض الكلام ؟
كان ( ثيودور هرتسل ) حين كتب روايته " أرض قديمة جديدة "(١٩٠٢) كتب أسفل عنوانها الرئيس عنوانا فرعيا آخر هو " إذا أردتم فإنها ليست خرافة " وكتب حكايته ، وما هي إلا عقود خمسة أو أقل قليلا حتى غدت الكتابة حقيقة واقعة . ورث أرض الكلام وامتلك المعنى ، فكل ما كان يربط اليهود بفلسطين عبارات وردت في العهد القديم وتاريخ كان مثل العاديات ، وبعثت الكتابة أرض الكلام ، وورثها الإسرائيليون وامتلكوا ، حتى اللحظة ، المعنى ، وبدأ الفلسطينيون يكتبون المعنى . ترى ماذا كتب ( هرتسل ) عن فلسطين في روايته ، وتحديدا عن القدس ؟
زار ( هرتسل ) القدس ويبدو أنها لم ترق له ، ولا عجب في ذلك ؛ فقد كان يقيم في أوروبا في فترة نهوضها ، فيم كان الشرق يغرق في تخلفه على الأصعدة جميعها ، فالدولة العثمانية التي عسكرت الدولة لم تأبه ، خلافا لأوروبا ، لجوانب أخرى غير العسكرة ؛ لم تأبه للاقتصاد وتطوير العلوم وبناء الدولة الحديثة ، وهكذا بقي كل شيء على حاله ، بل ويسوء عما كان عليه ، وكانت المدن ومنها القدس ، بدأت تتآكل أبنيتها ، حتى بدت الحياة فيها على قدر من السوء إذا ما قورنت بما كانت عليه في حينه المدن الأوروبية التي اهتم بها فأخذت تتطور ، وقد عبر ( هرتسل ) عن خيبته مما رأى عليه فلسطين بعامة والقدس ويافا بخاصة ، قياسا لفيينا وبرلين وحي الريفيرا في باريس ، وهي المدن التي كتب عنها في روايته انموذجا لما ستكون عليه المدن الفلسطينية ، حين تسيطر الحركة الصهيونية على فلسطين .
تبدو خيبة ( هرتسل ) مجسدة في روايته من خلال بطله اليهودي ( فينبرغ ) وتابعه المسيحي ، فحين يقتربان من القدس ، بعد أن نزلا في ميناء حيفا الذي بدا لهما بائسا وفقيرا وحقيرا . لم يريا في طريقهما إلى القدس " غير مناظر اضمحلال رهيب ، فاراضي السهل كلها تقريبا رمال ومستنقعات " ، وما إن يريا القدس حتى يهمس ( فينبرغ ) :" أورشليم " ، وحين يريانها في الليل ويدخلان إليها في ضوء النهار تبدو لهما أقل سحرا مما بدت عليه لهما حين رأياها في الليل :
" ففي أزقتها الضيقة التي تعلوها طبقة الطحلب ترتفع الصرخات والروائح الكريهة ، وهناك الكثير من مختلف الألوان وخليط من الناس البائسين ؛ شحاذون مرضى ، أولاد جياع ، نساء يرفعن عقيرتهن بالصياح ، وباعة متجولون تتعالى أصوات صياحهم .. إن أورشليم ذات الماضي المجيد لم يكن في الإمكان أن تنحدر إلى أحط من هذا "( ص ٤٥ ) .
أهذه هي المدينة التي ظل يحن إليها اليهود الفي عام وأكثر ؟ هذا هو لسان حال اليهودي في الرواية ، وصورتها في الواقع غير صورتها التي عرفها من الكتب المقدسة ، وهي الصورة التي ظل اليهود لأجلها يكررون عبارتهم " لتنسني يميني إذا نسيتك يا أورشليم " ، ومقابل هذه الصورة ستبرز في رواية ( هرتسل ) صورة أخرى مشرقة لما غدت عليه المدينة في الرواية وفي الحلم بعد عشرين عاما من عودة اليهود إليها :
" قبل زمن بعيد جاء فريدريك وكينجر كورت أورشليم ليلا من جهة الغرب ، أما الآن فقد قدما إليها وضح النهار من جهة الشرق . يومذاك شاهدا على هذه الهضاب مدينة كئيبة متأخرة ، أما اليوم فإنهما يشهدان مدينة تجدد شبابها بنشاط ، وبشكل فخم . لقد كانت أورشليم يومذاك مدينة ميتة ، أما اليوم فقد بعثت من جديد ودبت فيها الحياة " ( ص١٧٧ ) .
وسيرسم ( هرتسل ) للقدس صورة مختلفة كليا عن الصورة التي رآها عليه . سيرسم لها صورة راودته وحلم بها . كيان ضخم ينبض حيوية . يحافظ فيها على المدينة القديمة بين الأسوار والتي يظللها وقار الشيخوخة ، يضاف إليها عدد من المباني الضخمة ، منها هيكل السلام . وسيخيم على القدس الأمن وسيسود البلدة القديمة الطمأنينة ( ص١٧٧) ، وستشقها قطارات كهربائية ، وستكون شوارعها واسعة مغروسة بالأشجار " سلسلة منشابكة من الأبنية لا تقطعها إلا البساتين المؤنقة وحدائق النزهة "( ص ١٧٧ ) . وأما بيوت البلدة القديمة فلن تعود بيوتا خصوصية ، وإنما هي بيوت للحجاج من أبناء جميع الأديان والمؤسسات العامة ، وستغدو البلدة القديمة أشبه بأرض دولية ، وكأن كل الشعوب ترى فيها وطنا لها .
الصورة الكئيبة للقدس ، الصورة التي رآها عليها بطل الرواية اليهودي ( فينبرغ ) ومن ورائه ( هرتسل ) ستبرز في بعض الأدبيات الفلسطينية التي أنجزت قبل العام ١٩٤٨ ، وتحديدا فيما يخص أحياء اليهود ، وهنا يمكن التوقف أمام نصوص كاتبين هما نجاتي صدقي وجبرا إبراهيم جبرا .
نجاتي صدقي :
كان النثر الفلسطيني قبل العام ١٩٤٨ ضعيفا ، فقد كان يلامس بدايات القصة القصيرة والرواية ، وهاتان كانتا فنا حديثا طارئا على الأدب العربي ، ولم يكن النثر يعنى بالمكان عناية لافتة قدر عنايته بالموضوعات وجدل الأفكار ، وربما خلا الأدب كله من شعر ومن نثر من التركيز على المكان ، والقدس جزء من هذا ، ولعل أشهر بيت شعري ركز فيه صاحبه على القدس هو بيت الشاعر عبد الرحيم محمود الذي خاطب فيه الزائر السعودي قائلا :
المسجد الأقصى أجئت تزوره
أم جئت من قبل الضياع تودعه
وأما ما كتب من قصة ورواية ، وهو قليل ، فلم يشكل حضور القدس فيه أمرا لافتا ذا بال ، وهذا ما توصل إليه د. عبدالله الخباص في رسالة الدكتوراه التي أنجزها في العام ١٩٨٧ ، وقد توقف أمام روايات عديدة صدرت قبل العام ١٩٤٨ ، ورأى أن حضور القدس فيها بدا باهتا .
ونحاتي صدقي واحد من الكتاب المؤسسين لفن القصة القصيرة ، وقد كتب عددا منها أعاد نشرها في مجموعته " الأخوات الحزينات "(١٩٥١) ، وفي إحداها وصف حيا يهوديا في مدينة يرجح أنها القدس ، وكان صدقي أقام في القدس في فترة ما .والقصة عنوانها " شمعون بوزاجلو " ولم يبد حي اليهود فيها حيا مزدهرا عمرانيا . لقد بدا حيا بائسا كئيبا ، وبالتالي فلم تختلف الصورة عن تلك التي أظهرها ( هرتسل ) في روايته . ووصف الحي ، كما ورد في القصة يغني عن الشرح والتأويل . يرد في بداية القصة :
" في مدينة .. حي لليهود يرجح تاريخ إنشائه إلى الحرب العالمية الأولى ، يعرف بحي التنك ، لأنه مبني من الأخشاب والصفائح القديمة ، ويؤلف هذا الحي بمجموعته بناء طويلا تتشابك فيه أسطح بيوتها الحمراوية اللون تشابكا متينا ، لتحمي ساكنيه من الأمطار والرياح والشتاء ، ولتجلب لهم الفيء والبرودة صيفا ، وينتصف البناء الطويل مدخنتا الحمام والفرن العموميبن ، فيبدو للناظر إليه من بعيد ، كما لو أنه مصنع لتصليح السيارات أو معمل للتبغ أو مدبغة للجلود ..
وتنبعث من حي التنك هذا روائح كريهة ، لأن مجاريه تمتد على وجه الأرض لا تحتها ، ومن مناظره الدائمة : الغسيل المنشور على حبال تتصل بين النوافذ ومزاريب المياه .. الخ ( ص٧٥ ) .
هذه الصورة لهذا الحي اليهودي لا تختلف كثيرا عن تصور ( هرتسل ) ليهود البلاد ولأحيائهم ، كما رآها وكما وصفها . فهل اختلفت صورة القدس في أعمال أخرى لكتاب فلسطينيين آخرين مثل جبرا ابراهيم جبرا ؟
جبرا إبراهيم جبرا :
في سيرته " البئر الأولى " (١٩٨٦) يأتي جبرا على مدينة القدس ، فيكتب عن زيارته لها طفلا مع أمه ، ثم الإقامة فيها في سنوات لاحقة حيث تركت العائلة المدينة التي ولد فيها الكاتب ، وهي بيت لحم ، ليقيم في القدس .
كتابة جبرا في سيرته عن القدس هي كتابة من الذاكرة ، فقد ترك القدس منذ عقود وأقام في بغداد ، ولعله لم يزر القدس بعد العام ١٩٦٧ إطلاقا ، بل إنه لم يزرها ، ولا أعرف إن كان زارها ما بين ١٩٤٨ و ١٩٦٧ أيام كانت تحت الحكم الأردني .
قبل أن يستعيد جبرا القدس في سيرته كتب العديد من الروايات التي أتى فيها على المدينة ، وأهمها " صيادون في شارع ضيق ،(١٩٦٠) و" السفينة "(١٩٧٠) و " البحث عن وليد مسعود "(١٩٧٨) ، وقد توقف د.عبد الله الخباص في كتابه " القدس في الأدب العربي الحديث ، فلسطين والأردن "(١٩٨٧) أمام صورة القدس في هذه الروايات ، وخصص لها بضع صفحات ( ص١٩٠ - ١٩٢ و ٢٠١ - ٢٠٤ ) ، ففي " صيادون في شارع ضيق " يعبر جميل فران ، ومن ورائه جبرا ، أنه لم يستطع أن يتذكر ملامح أية مدينة زارها إلا القدس . لقد زار مدنا عربية وعالمية ، ولكن القدس فقط هي التي تركت أثرا في حياته :
" وقد أتيت بغداد وعيناي ما زالتا تتشبثان بها .. القدس ( ص١٩١ ) ويأتي على الفرق بين رؤية المسيحيين الغربيين للقدس ورؤية المسيحيين العرب لها :
" الأرض المقدسة عندهم أرض في عالم الجن ولقد اخترعوا " أورشليم " زاهية لهم وحدهم ، وجعلوها مدينة أحلامهم ... عندما ينشدون عن القدس في ترانيمهم فإنهم لا يقصدون مدينتنا ، قدسهم جنة ، وقدسنا نار جهنم .. مدينة بلا سلام . كذلك لم تعد قدسهم مدينة المسيح بل مدينة داوود ، فماذا يهمهم إذا تهدمت بيوتنا ... "( ص ١٩٢) .
وأما مدينة القدس لوديع عساف في " السفينة " فهي " كل ماضيه النضالي ، وتشكل كل أحلام مستقبله ، فلسطين هي واقعه ، أما حاضره فليس سوى فاصلة بين الحاضر والمستقبل " وقد غدت له القدس ، وهو في المنفى " أجمل مدينة في الدنيا على الإطلاق "( عن الخباص ص ٢٠١و٢٠٢ ) وستكون القدس مدينة وليد مسعود في " البحث عن وليد مسعود " ، ولن تختلف صورتها عنها في الروايتين السابقتين لها ، ويخلص الخباص إلى ما يأتي :
" إن ذكريات وليد مسعود في القدس ومن قبله جميل فران في " صيادون في شارع ضيق " ووديع عساف في " السفينة " ليست - في ظننا - إلا ذكريات جبرا نفسه " ( ص ٢٠٤ ) .
في " البئر الأولى " يأتي جبرا على علاقته بالقدس ، لا من خلال شخوص رواياته ، وهم كما يرى دارسون كثر ليسوا سوى شخصية واحدة هي جبرا ، وإنما من خلاله هو نفسه دون قناع يرتديه ، وقد أنجزت " البئر الأولى " في ١٩٨٦ - أي بعد ٢٦ عاما من كتابة " صيادون .." و ١٦ عاما من كتابة " السفينة " و ٨ أعوام من كتابة " البحث عن وليد مسعود " ، ونحن هنا أمام زمنين مختلفين ؛ زمن إقامة جبرا في القدس وزمن استرجاعه المدينة من خلال الذاكرة ، وهذا لا يختلف عن رواياته إلا في أمر واحد هو المدة الزمنية الفاصلة بين الزمنين : الزمن المعيش والزمن الكتابي . وإذا كانت المدة في حالة الرواية الأولى " صيادون .. " تبلغ ١٢ عاما تقريبا ( ١٩٤٨ - ١٩٦٠ ) وفي الثانية " السفينة " تصل إلى ٢٢ عاما ( ١٩٤٨ - ١٩٧٠ ) وفي " البحث .. " تصل إلى ثلاثين عاما ( ١٩٤٨ - ١٩٧٨ ) فإنها في السيرة " البئر الأولى " تصل إلى ٣٨ عاما ( ١٩٤٨ - ١٩٨٦ ) ، والسؤال هو :
- كم من التغيير طرأ على هذه الصورة بعد ترك جبرا القدس وعدم زيارته لها لفترة طويلة ؟
أكان وصفها في الروايات وفي السيرة كما رآها أم أنها اختلفت بتأثير عوامل عديدة أهمها البعد والفقدان والمنع من الوصول إليها ، بخاصة بعد حرب حزيران ١٩٦٧ ؟
يكتب جبرا في " البئر الأولى " عن زيارته الأولى مع أمه لمدينة القدس ، فقد اصطحبته لتشتري له حذاء بدلا من الحذاء الذي باعته العائلة لتشتري بثمنه طعام العيد . تسير الأم وابنها معا في شوارع القدس ، بخاصة في حارة اليهود التي يصفها جبرا بالآتي :
" وقمت بأول رحلة إلى المدينة الرائعة - القدس ، ورأيت باب الخليل لأول مرة ، وقد ازدحم بالبشر والدواب ، ونزلنا في " السويقة "، وأنا أكاد لا أصدق أن في الدنيا حوانيت وأناسا بهذه الكثرة وبذا الصخب . " .
و :
" سرنا في الطرقات المعقودة الضيقة ، وكلما انعطفنا ، تغيرت المرئيات شكلا ، وتغيرت الروائح ، وتغيرت الأصوات .. إلى أن دخلنا زقاقا فيه الدكاكين المفتوحة على مصاريعها متلازة من الجانبين ، وكلها - فيما بدا لي - ملأى بالاحذية المستعملة ... كان ذلك أول حارة اليهود والريحة فيها نفاذة : عفن وعطن غريبان . وبعض الأبواب المفتوحة أرى منها داخل الدور ، وفيها رجال يلبسون السواد وقبعات فرائية عجيبة .. ونساء وأطفال كثيرون يعبث بين ارجلهم الدجاج ورائحة روث الدجاج طاغية في كل مكان " ( ص ٧٤ و ٧٥ ) .
والمرء يقرأ الوصف السابق يتساءل إن كانت صورة القدس في " البئر الأولى " المكتوبة في ١٩٨٦ والمسترجعة من العام ١٩٢٩ تقريبا ، وربما أسبق بسنتين أو ثلاث سنوات تختلف عن صورتها في رواية ( هرتسل ) المكتوبة في ١٩٠٢ ، وعن صورة حي اليهود في قصة نجاتي صدقي المكتوبة في ١٩٤٧ . إنها صورة لبعض أحياء المدينة وحاراتها في النصف الأول من القرن ٢٠ . وقد يدفع هذا التصور المتشابه للمدينة ، من صهيوني ومن يساري فلسطيني ومن مثقف فلسطيني ليبرالي أقام في العراق إلى التساؤل :
- هل بالغ ( هرتسل ) في تشويه صورة يافا وصورة القدس ؟
سيكتب جبرا عن القدس أكثر وأكثر ، بعد أن انتقل ليقيم فيها ، وذلك في منتصف ٣٠ ق ٢٠ ، وتحديدا في ١٩٣٧ . وسيأتي على البيت الذي أقامت فيه العائلة في جورة العناب ( ص١٦٥ ) ، وهنا يكتب عن مدرسته ومعلميه وما درسه ، كما يكتب عن علاقته بالمكان .
كانت القدس مركزا ثقافيا تعلم جبرا فيه الكثير ، وهناك تفتح وعيه على هذه الدنيا ، وحين يمارس هواية الرسم سيرسم " تلك القبة " التي عشق بناءها :
" كان الصحن الفسيح الذي تحتل فيه قبة الصخرة الوسط منه ، يوحي بسلام وهدوء رائعين ، بعد ضوضاء وصخب الأحياء التي نقطها عبورا إليه ، وكلما غادرت قبة الصخرة ، عودة إلى الدار ، غادرت معها السكون والدعة ... عودة إلى قلب الأشياء الخانق بضجيج البشر .. "( ص ١٧٢) .
في الفصل ٢١ الذي يختتم فيه سيرته يلخص جبرا حياة المدينة / القدس على النحو الآتي :
" وهكذا دخلت سنتي الثالثة عشرة ووقفت مع عتبة الكشوف التي سوف تتحقق سراعا في السنوات القليلة التالية : سنوات المراهقة . كانت هناك مدينة القدس الجميلة ، اكتشفتها حيا حيا وحجرا حجرا ، القديمة منها والجديدة ، تاريخها وحاضرها . وكانت هناك المجلات المصرية تأتينا كل أسبوع بالمعرفة والفكاهة وصراعات القاهرة السياسية ومعاركها الأدبية . وكانت هناك الكتب نستخلصها بالمشقة والحيلة والتضحية ، السير القديمة والقصص والروايات ودواوين الشعر والتواريخ ، وكان هناك الأساتذة الجدد يعودون من جامعات العالم ويضخون فينا عشق المعرفة ، وكانت هناك الفتيات الشهيات جعلت أراهن في كل مكان كالسائرات في حلم لا آخر له ، أم أنني أنا الذي كنت معهن كالسائر في حلم ، وأحرم النوم ، فأكتب الرسائل الطويلة محاولا أن أزاوج بين الحلم والحقيقة ، دون جدوى "( ص١٩٢) .
هكذا تبدو صورة القدس في ١٩٣٧ كما استرجعها جبرا في ١٩٨٦ ، وهي لا تختلف عن الصورة التي استرجعها للمدينة في ١٩٦٠ و ١٩٧٠ و ١٩٧٨ .
ترى هل كانت تلك الصورة صورة زاوج فيها بين الحلم والحقيقة أم أنها صورة خيالية فقط أم صورة حقيقة فقط ؟
وربما يجدر أن يعود المرء إلى يوميات السكاكيني وإلى سيرة إدوارد سعيد أيضا " خارج المكان " ليواصل إمعان النظر في صورة القدس في حكاياتنا عنها ! ربما!


( نشرت الدراسة في مجلة " مشارف مقدسية " في ربيع ٢٠١٥ )
يتبع



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى