نصر جميل شعث - رباعيات صلاح جاهين: الغزل بوصفه شعارًا يُؤسس لسلطة الإثارة/الثورة

الشاعر المصريّ، الراحل صلاح جاهين جمع في رباعياته – وإن جاءت بالعامية- بين قصائد الطبيعة والأحياء الشعبية والمدينة. إذ تنمّ رباعياته عن فلسفة صادرة عن خلاصات تجارب في مدينة يسودها الضجيج والصخب والتفاوت والتناقض في مستويات وتفاصيل التجربة المعيشة، وعلي تخومها، وفي قلبها، تفاصيل الأحياء الشعبية التي لا تنفك تثرثر بفهارس مطاليبها وأوجاعها. ولنقرأ هذه الرباعية، كمثالٍ يَتصادي مع رباعياتٍ كثيرةً لجاهين: زِحام وأبـواق سيارات مـزعجة/ للي يطول له رصيف .. يبقي نجا/ لـو كنت جنبي حبيبي أنا/ مش كنت أشوف إنّ الحياة مبهجة/ عجبي!! . ولكن ما سنسلط الضوء عليه، في هذه المقالة، هو لجوء جاهين للطبيعة، وتوظيف كائناتها، في بنية مُغرية ومثيرة وحميمة؛ حتي لتكاد تكون رومانتيكية؛ وذلك خدمةً لغرض أو هدف ثقافي واجتماعي في رائيها أو موظّفها. إذاً، في هذا الإطار، نستشهد بهاتين الرباعيتين، وندعمهما بقراءة، لعلّ قارئًا يراها قدرةً علي التأويل المقبول. فلنقرأ هذه الرباعية الأولي:كان فيْ قمر كـَأنه فـرخ حمامْ/ علي صغره دقّ شْعاعْ شقّ الغمام/ أنا كنت حاضر قلت لـه ينصرك/ إشْحال لمّا حـَتبقي بـدر التمامْ/ عجبي!!وأما الرباعية الثانية، فتقول: الـنهد زي الفهد نـَطَ انـدلــعْ قلبي انهبش بين الضلوع وانخلعْ ياللي نهيـت البنت عَـن فعلـها قـول للطبيعة كمان تبطّـل دَلعْ عجبي!!وفي مقدورنا أن نري كيف تفضي التشابيه الجميلة، في هاتين الرباعيتين، إلي تداخل أهواء الشاعر التي تثير، في آن واحد، تساؤلات عما إذا كان ثمة إخلاص فطري عفوي، من جاهين، باتجاهه للطبيعة والتغني بجمالها لذاتها، أم تحت إهاب ذلك توجد محرّضات ظرفية ما انفكت تدعوه لتجنيد مفردات الطبيعة والعمل علي تقوية الغزل والمرح اللذين يظهران في الرباعية الأولي مرتبطين بالجدّ والأمل. إننا أمامِ”فَرَخ حَمَامْ علي الرغم من صغره إلا أنه كان مُحرضًا علي خلق صورة جمالية لافتة، ولم يكن أمام الأنا المشاهدة والمشاركة في تتلقي هذا الخلق، إلا التشجيع والنصرة. فما إن يتخيّل السامعُ صوتَ هذه الأنا ؛ يجد الصوتَ مجلّلاً بإيقاعات الدعم والحماس والمراهنة علي الاستمرار في النضج والتكملة. لكن، الأهم من هذا التذوّق السماعي، هو أنّنا نري الطبيعة، موضوع هذه الرباعية، فاعلةً ومتحوّلة، ذاتيّا، مثلما تقول لنا الصورة الشعرية التي تقف علي النقيض من الصورة الكاريكاتورية لدي برجسون، صاحب فلسفة الضحك.. فالكاريكاتور يقوم علي التشويه باعتباره نوعًا من التصلّب يصيب الشكل، ويرْجع إلي تَصلّبِ حركةٍ فقدَتْ مرونتها إلي حدّ أنْ تحوّلتْ إلي تجعيدة تجمّدت وسكنت سكونًا لانهائيًا، فكأنما”الطبيعة قد تَصلّبتْ في يدٍ بالمطلق!! إذن، تدافع الرباعيتين عن المدلول الإنساني الاجتماعي بأسلوب تقديم الطبيعة علي الإنسان، وجعلها تعبّر عن معنٍي تمسّه في الصميم. فالجوهر الفني، هنا، هو في تحويل الطفل كمعادل طبيعي نامٍ للحرية في حالات نموّها وتحوّلها المستمرّ، وقد تَجسّد ذلك في قمرٍ كان كما لو أنه فرخ حمام دقّ شعاعّا.. ، والشعاعُ، بدوره، قد شقّ الغمام . وهكذا يوظّف صلاح جاهين الطبيعة بحالاتها النامية والمتحولة الوثيقة بالبعد الثالث للزمن (المستقبل)، مازجا هوي التغزّل بتأمّل ثوريّ واجتماعيّ عميق، في قمرٍ كان علي الأرض هو الزعيم العربي الراحل: جمال عبد الناصر، الذي عاصرَه جاهين ونصرَه بالدعاء: أنا كنت حاضر قلت له ينصرك . لكن ينادي الشاعر، في واقع هذه الرباعية، بعدم الفصل في الحياة بين الغزل والأمل، أو الحبّ والثورة. وعند هذا التوظيف والمزج نميل إلي كشف رموز الغزل، بتسمية فرخ الحمام بالأنثي. ولم نسأل عن جنسه في البداية. ولكن سوف تؤسّس هذه الاحتمالية المؤوّلة والمعلنة، في التو، الصراعَ علي مستقبل يؤول حَمامةً سوف تنقسم، بوصفها قيمة تفكيكية، علي نفسها: حرب/ سلام. ومن جهة مقابلة ومعقّدة: عند الميل إلي ترجيج أنّ الفرخَ هذا ذكَرُ حمام؛ سوف نستحضر عملية التسافد بين الرجل الشجاع القويّ والحرب، كما فعل الرئيس المصري الراحل: أنور السادات، الذي صنع السلام علي أسس الشجاعة والقوة وحسابات السياسة الإقليمية، واستطاع، في ظلّ هذا التحوّل السياسي، تفريغ الأنا الناصرية من جذوتها في صدور الحالمين. أو أنْ نجد أنفسنا أمام معادلة الشجاع والهزيل، وهي المعادلة التي ستفضي إلي نتائج تتمخّض، وما تزال، عن علاقات الأمن والتهديد؛ تلك المبنية مع الحمامة السياسيّة، علي مبدأ الركاكة والحماقة والاصطياد. وهنا تقفز لأسماعنا، بالضبط، مقولة: سلام الشجعان للزعيم الفلسطيني الراحل: ياسر عرفات، ولطالما علّقها كـ لافتةٍ صوتية علي شفتيه، أمام الطرف الإسرائيلي والمجتمع الدولي. وقد كان يعرف هو ومن حوله أنه سلام الرجل العربي الهزيل!لقد رفعَ جاهين بفتوةِ جسدِه الواحد، بيدِهِ اليمين، لافتة: ثورة الجسد ، بموازاة يده اليسار التي انشغلت بحمل لافته ثقيلة من كثرة الأحلام الكبري، وهي: جسد الثورة . وتنضوي الرباعية الثانية تحت اللافتتين، لمَا تقود إليه مفردات، بعينها، مثل: النهد ، اندلع و انخلع ؛ ولاسيما المفردة الأولي التي تـُحوّل المجازَ المرسل من غزل إلي شعارٍ يؤسس لسلطة الإثارة/الثورة المترجمتين بردود أفعال الجسد: اندلع و انخلع . وهذا، كله، إنما يؤكّد، بالفعل، علي جذب الكاريزمية الجمالية لشعراء الرومانسية الثورية الحالمين. وهكذا الطبيعة تبدو الوعاء الوظيفيّ للأغراض والحجج والتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية. غير أنّ، الرباعية الثانية، ستثير التساؤل المشروع في إطار الجمال والأخلاق، حول طبيعة الإثارة المندلعة وتأثيرها الأخلاقي علي المجتمع؛ في ظلّ لغة الجسد التي استخدمها جاهين. فلوهلة أولي نسمعها تناشد بفتح الباب واسعًا علي استغلال الجسد، في ظل شيوع قيم البورنو . غير أن المعني لا يأخذ هذا البعد لدي جاهين، وإنما يقف ـ بالتأمل الأعمق ـ في مواجهة المنهيات الاجتماعية والثقافية. أي المناداة بالحرية كمعني لا يتساهل مع أي قراءة سطحية هنا. وفي حال القراءة السطحية، ستكون هناك مفارقة وهي: لهاث المدينة وفتحها الباب واسعًا علي قيم البورنو ؛ في مقابل تحفّظ الريف والحيّ الشعبي والامتناع عن الاستجابة لظاهر القول في رباعية جاهين.



6 - ديسمبر - 2007
أعلى