سعيد فرحاوي - سفر تأملي في عوالم مدن الملح لعبدالرحمان منيف.

ج1.
مدن الملح هي مجموعة روائية تتشكل من خمس روايات موزعة على الشكل التالي:
الرواية الأولى سماها ( التيه) ؛ تتوزع في 624 صفحة حسب الطبعة السادسة عشر للناشرين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر؛، بيروت؛ ودار التوزيع للطباعة والنشر؛، لبنان)؛ المنشورة في سنة 2018.اما الرواية الثانية؛ حسب نفس دار النشر؛، سماها (الأخدود) ؛ وهي في هندسة معمارية تحمل نفس صفحات الأول( 624 صفحة)؛ أما الثالثة هي( تقاسيم الليل و النهار) اختار لها الروائي 400 صفحة كحجم ملائم لمستوى أحداثها؛ ثم الرواية الرابعة الموزعة في 592 صفحة اختار لها اسم (بادية الظلمات) ؛ ثم أخيرا رواية (المٰنبٍث؛) كرواية خامسة وأخيرة.
مدن الملح شاء لها صانعها أن تصلنا في الفين وأربع مائة وأربعة وستون صفحة ( 2464. ص )؛ وهي كما تعلمون ذات نفس روائي تتطلب قارئا جبارا صبورا ؛ لا ترهقه رحلة مرافقة عوالم منيف المليئة بالمفاجآت؛ كما هي عوالم مؤسسة على عدة رموز تحيل على قضايا متنوعة ومتنافرة؛ تتطلب قارئا صعبا يستطيع فك كل الطلاسيم المربكة التي تجر المتتبع إلى مالا يحمد عقباه.
عبدالرحمان منيف من مواليد 1933؛جنسبة سعودية؛ حاصل على دبلوم الدوكتوراه في المجال الاقتصادي؛، الذي يهتم بالحقل النفطي. الأب كان تاجرا ينتقل في القوافي لممارسة التجارة المتنقلة؛ مات بعد ثلاث سنوات من زيادة منيف الابن؛ ربته الأم اللبنانية؛ التي كانت تميل إلى الادب؛ فزرعت فيه حبه لهذا القطاع منذ نعومة أظافره. تنقل منيف عبر مجموعة من الدول العربية؛ الأردن؛ لبنان ودمشق؛ العراق؛ مصر؛ مارس السياسة فكانت سببا لمنعه ان يستقر بها،فذهب إلى مصر؛ ثم بلغراد؛ عاد إلى العراق؛ كان من اكبر المعارضين لسقوط بغداد واحتلالها من طرف الامريكان رغَم أنه كان يعارض حزب البعث العراقي في عهد صدام حسين؛ اعتزل السياسة في 1964؛،فاشتغل في مجال الصحافة التي منها كان يمارس قناعاته السياسية؛ زاد من تعميق تمرير. مواقفه الايديولوجية من داخل الاهتمام بالرواية؛ التي استهلها بأول رواية(الأشجار واغتيال مرزوق)؛ لكن فيما بعد سيؤلف اكثر من 71 عملا؛ يعتبر من الروائيين العالميين الَمائة المشهود لهم بالجودة والاثقان. سنتعامل مع مجموعة عبدالرحمان منيف في هذه السفرية؛ بالتقاط كل مانراه مثيرا؛ يستدعي وقفة متأنية؛ للمساءلة؛ للتشريح؛ للتحليل؛ ولتحديد خصائص توظيف تقنيات السرد لبناء الحياة في الأعمال الروائية. هي خطوة منهجية إجرائية رأيناها مسعفة تَمكننا من عدم تجاوز كل مايمر مهما يستدعي التوقف؛ لأن العمل الطويل تبقى مسألة التحكم فيه عملية صعبة ومعقدة ؛ خاصة إذا ماتركنا المعطيات الموظفة تمر دون الوقوف عندها حسب توظيفها؛ لهذا اضطررنا ان نساير الروايات بتوفقات عدة ؛ متقطعة تسعفنا في التحكم؛ الجمع؛ ثم المعاشرة المواكباتية لكل توظيف حسب زمن التوظيف والاشتغال؛ سواء عن وعي او لاوعي الروائي ؛ ونعود في الأخير لنقوم بعملية جمع كل القراءات الجزئية التي واكبت وسايرت الروايات.
بعد وقوفي عند أول عمل روائي من مدن الملح(التيه)؛ أثارت انتباهي خاصية توظيف المكان (وادي العيون). يستهل الرواية بأول كلمة في الصفحة 9 قائلا :
إنه وادي العيون...
وهي إشارات قوية بتوكيد مثير (إنه)؛ مما يلزمنا ان نطرح أول استفهام يناقش هذا التوكيد ويتساءل حول إلزامية هذا الافتتاح الذي ركز بقوة على مكان بإشارات مشفرة.
من جهة هو وادي ومن جهة أخرى جاء مرتبطا بمعجم لا يقل أهمية(العيون) ؛ وهما معا يحيلان على دلالة مشتركة تلتقي بالحياة /الواد والإشراق/ البصر؛ كصور ايجابية تفيد ان المكان المعني هو دال بكونه ينتمي إلى حقلين إيجابين في النظر إلى القادم؛ في إطار علاقته بالسابق. يزيد من قيمة هذا المكان عندما يقول:
فجأة؛ في الصحراء القاسية العنيدة تنبثق هذه البقعة الخضراء؛ وكأنها انفجرت من باطن الأرض او سقطت من السماء؛ فهي تختلف عن كل ماحولها؛ او بالأحرى ليس بينها وبين ماحولها أية صلة .) ص 9 ؛ رواية التيه؛ هي إشارات عميقة لا يمكن المرور عليها دون تفكيك دلالتها العميقة؛ التي شكلت لغزا عميقا أخفاه الروائي؛ ما يفيد ذلك عدة إجراءات بنائية؛ أولا يؤكد على إلزامية. وضرورة الإنطلاق من هذه الخاصية البؤرة (النواة) /المكان؛ ثم يزيد أنه مكان استثناء في أرض قاحلة؛ وبعدها يضعه في موقع سامي قدسي وكأنه سقط من السماء أو إنولد من عمق الأرض؛ فيضفي عليه طابع التعالي الملائكي الصوفي. .
من هنا نتساءل بصيغ أخرى؛ لماذا هذا الاستثناء الذي شاءه الروائي اختيارا في رواية التيه ؛بأن جعل من وادي العيون منطلقا قدسيا؛ مما سيجعلنا نقف أمام مكان غير هندسي؛ تزييني؛ يؤدي وظيفة أسمى من وظيفة المكان التي تقع فيه الأحداث فقط؛ بل سيصبح. شخصية محورية لها وظيفة قيمية تحرك الفضاء عامة وتبني العمل الروائي بشكل حداثي مغاير عن دور المكان في الرواية التقليدية.
ذاك ما سنراه في الجزء القادم.



========
2

==============



الجزء الثالث.
سفربات تأملية في رواية مدن الملح لعبدالرحمان منبف.
وظيفة المكان في صناعة الحياة داخل رواية مدن الملح لعبدالرحمان منيف.
لا اريد أن أسائل الواقع العربي من خارج مدن الملح؛ كما لا ارغب في ان ابحث عن تجليات الذات المنكسرة بتاويلات لا تبث بصلة لعالم الرواية من الداخل ؛ كما تكلم عنها الكثير من فكك الواقع الذاتي والموضوعي للتاريخ العربي المهزوم وتفكيك محيط الصحراء والأمل المفقود بطرح إشكالات تاريخية واخرى اجتماعية مقارنة مع ما اشار إليه منيف في مدن الملح؛ رغم ايماننا ان الروائي اختار الأسلوب شكلا تعبيريا لتمرير قناعاته السياسة والايديولوجية؛ وما يراه ممكنا في اطروحته الفكرية؛ بقدر ماكنت اسعى أن أفكك بنيات الخطاب من داخل مدن الملح نفسها ككتابة أولا؛ لامست عن عمق مجموعة من الظواهر وجب الوقوف عندها و التساَؤل معها من الداخل؛ بعيدا كل البعد عن الإسقاطات؛ وهذا ما جعلنا نحدد وظيفة المكان وطريقة اشتغاله ومدى قدرته على تحريك مزاج الشخصيات و هي تتفاعل معها ؛ لا بصفته مادة تزيين الفضاء؛ ولا لأنه مكان تقع فيه الأحداث؛ ولكن بكونه خرج من الجامد ليتحرك ويحرك كل مايحيط به من كائنات؛ وليس كما ذهب ادوين هوبر عندما قال تقع الأحداث في الزمن وتتحرك الشخصيات في المكان؛ لأن عبدالرحمان منيف تفاعل مع المكان وجعله مخترقا الاحداث؛ داخل الزمن صنع ديناميات مركبة لتحريك الشخصيات؛ لذلك وجدناه يقول:
(وخلال فترة قصيرة يتحول الوادي إلى خلية من النشاط والحركة) ص18.
هنا تصبح للوادي روح تعمل كما تعمل روح الشخصيات؛ تتفاعل؛ تشعر؛ تتحرك؛ مثل باقي الشخصيات؛ لهذا لم يترك المكان مادة جامدة؛. بل جعل منها حياة متفاعلة مع حركات الشخصيات. وهي إلزامية دافعت عنها بشدة بعدة أساليب أحيانا بقوة القرار وأحيانا بلغة التوكيد؛ باعتماد أسلوب التوكيد اللفضي والمعنوي؛ نجد ألفاظا متعددة تؤدي نفس الوظيفة؛ نجد( الكثير الكثير؛ إنه؛ نفسه؛ عامتهم؛ كلاهما؛)؛ وغيرها. طبعا مع هيمنة أسلوب فعل المضارع دلالة على الزمن القادم من زوايا مختلفة وَمتنافرة ؛ وهي كلها مقدمات مهمة تقود نحو حركية الوادي ودينامية السكان فيه /الشخصيات؛ التي تفعل في الزمن المعاش وفي الواقع القادم؛ يقول:
(رغم الخيرات الناس مهووسين بالهجرة.) ص20.
للوادي عدة دلالات ؛ وعدة وظائف ورموز؛ وهي كلها لها دلالات واحدة تفيد ان الاستمرار في الوادي هو رهين باستمرارية الحياة فيه وله كما يقول؛ نقول فيه لأنها حركية تلزم ضرورة التفكير في السكان كوجود مادي ومعنوي لازم لبقاء الآخرين؛ اما له لأنه/الوادي يشكل الأرضية الأساس التي توجب ما تبقى من عناصر لخلق حياة مشتركة بين كل القوى المتفاعلة والفاعلة فيما تبقى من عناصر أخرى أجنبية قادمة(القافلات مثلا)؛ هنا يطرح قيمة الوادي وماهية تكوبنه وتجليه كروح حية فاعلة؛ يقول:
(فلا بد ان تصطنع مناسبة ما لكي يذبح جمل ويأكل الوادي كله... وعن ذاك تتغير الحياة) ص 17.
هنا الوادي يصبح كائنا حيا متحركا وحركيا؛ وهي إشارة تعيدنا إلى مناقشة ماقاله لوتمان عندما اشار أنه يمكننا الكلام عن الحد بصفته يشكل ضفة طوبولوجية هامة. تصبح وظيفة الحد في التمكين من تقسيم فضاء النص إلى فضاءين غير متطابقين؛ وفق شرط أساسي هو انعدام قابلية الاختراق. هنا سنصبح أمام أماكن مباحة وأخرى محضورة. فالقصر مثلا هو مكان محضور على الفقير؛ اما بيت الفقير فمسموح للغني؛ ومن الصعب على الفقير اختراق القصر. مايحدد ذلك ويقوي شرط هذه المفارقة هو ماقاله عبدالرحمان منيف في الصفحة 16 :
(مايميز اهل الوادي انهم في المكان الذي اختاروه سكنا لهم.).
يصبح المكان مجالا فضائيا مريحا مسعفا لحياة َممكنة وملائمة لسكان الوادي؛ وبالتالي يستحيل ان يجدوا مكانا آخر اكثر منه رحمة و رأفة .

=========


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى