محمد فتحي المقداد - المُفارقات السُّلوكيَّة في رواية "ملابس عسكريَّة" للروائيِّ الأردني عصام أبو شِندي

الأعمال الروائيّة عُمومًا مرآة عاكسة للواقع، ومن خلالها يستطيع القارئ رسم المشهديّة في ذهنه بكافّة أطيافها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، برصد المُفارقات الصغيرة وغير المرئيّة، والمسكوت عنه ليس لإثارة المشاكل والنَّعرات والخلافات، بل بلفت الانتباه من أجل إصلاح، أو تعديل مسار، وتقويم سُلوك. الرواية تطرحُ الأسئلة، وهُناك من هو مطلوب منه الإجابة، والعمل على الإصلاح.

الجانب التربويِّ ذو البُعد الأخلاقي في رواية "ملابس عسكريّة" اتّخذ خطًّا ظاهرًا واعيًا مُترفّقًا بالطّرح، ولم يذهب الروائيُّ إلى المنهج الخطابيِّ الوَعظيِّ، عندما أشّر بعين المُعلّم والتربويّ والمُربّي، وليس بغريب هذا الكلام عن الروائي "عصام أبو شندي"، خاصّة إذا عرفنا أنّ عمله في ميدان التعليم في المدارس، ومادّته هم الطُّلّاب. لذلك كان يُلامس بحذر شديد هذه القضايا الحسّاسة بمُقاربات مُلتزمة الخطّ الأخلاقيِّ، بعيدًا عن الإسفاف والهُبوط دَرَكَات من هبطُوا إلى ما دون المُستوى الأخلاقيّ من خلال السّرد الروائيّ.

جغرافيا الرّواية انطلقت من بيئة المدينة الثَّانية "الزرقاء" في الأردنّ من حيث الكثافة السّكانيّة، وتنوّعها بخلائط بشريّة مُختلفة المنابت والأصول؛ فشكّلت مُجتمعًا متعايِشًا مُتآلِفًا مُتناغمًا مُتنوِّعًا، بأبعاد ثقافيّة صبغته باحترام خصوصيّة الآخر، هذا الثراء خلق حالة اجتماعيّة فريدة.

ومن ثمّ انطلقت رواية "ملابس عسكريِّة" إلى بيئة مُختلفة تمامًا، خارج خارطة التفكير المُعتاد، انطلاق من المدينة إلى الصّحراء لفتح باب رزق جديد لأحد أبطال الرواية. من الزرقاء المدينة ذات الثِّقل السُكّانيِّ ، وكما يُقال: "الرزق عند تزاحُم الأقدام"، يبدو أنَّ التزاحُم الشّديد، وكثرة العرض وقِلّة الطَّلب، دفع به إلى منطقة "الصّفاوي" التي تقع إلى الشرق من مدينة "المفرق" مركز المحافظة، قرابة السّبعين كيلومتر، قريبًا من حدود العراق والحدود السّوريّة في هذه المنطقة، وهي جزء من صحراء بادية الحماد القاحلة، وكتجمّع سُكّاني فلا يتعدّى من يسكنونه الثلاثة آلاف شخص أو يزيدون قليلًا، وهم بغالبيّتهم من البدو الذين يمتهنون رعي الإبل والأغنام والماعز، ربّما ما نشّط الحركة التجاريّة فيها، مرور الخطّ الدوليِّ القادم من بغداد.

كلّ ذلك قريبًا من بيئة الروائيَّ "عصام أبو شندي" في مدينة "الخالديّة" التَّابعة بدورها إلى محافظة المفرق. وهو ما يأخذنا إلى عوالم الروائيِّ اللّيبيّ "إبراهيم الكوني" أديب الصحاري وعاشق الرّمال، الذي صنع منه آيات جماليّة أضاءت فيافي الصّحاري الغامضة، من خلال أعماله التي أخذت عاشقي القراءة إلى هذه العوالم في رحلة خياليّة، لكنّها إضافة معرفيّة لدواخل بواطن الصّحراء وواحاتها وشعوبها. هذه التشابكات المُتشابهة خلقت عوالم جماليّة، ودليلًا معرفيًّا جُغرافيًّا.

نماذج بعض السُّلوكيات:

1-تلوّن السّلوك بين الظاهر والباطن:

الشاب المتدين في الظاهر، يلك هذا الطريق بعد خروجه من السجن، وهو يعمل في مطعم في مدينة الزرقاء. لكنه فاسد ومنحرف له سلوك باطن مختلف تمامًا؛ فهل يجتمع فساد وصلاح في نفس واحدة سويّة، فإذا كان ذلك فلا بد من الحكم بأن هناك مشكلة نفسية بحاجة لمعالجة إذا أمكن ذلك، مؤكد أنه شخص غير سوي بكلّ المعايير الأخلاقية المعروفة. ولكن من خلال المتابعة، نجد أن الانحراف باتجاه التدخين والسرقة والمخدرات والخمر. مستنقع قذر يقع فيه الشباب.

-(خبرت معشر النساء في هذه البلدة جيدا؛ فإن تمنعت الفريسة التي أهم باصطيادها عن الاتصال بي بالفيديو، واكتفت بالاتصال أو الدردشة كتابة؛ فهي في الأغلب من ساكنات هذه البلدة) ص6.

-(عادت رسائل الواتس أب للظهور مرة أخرى في جوالي صوفيا وهذا الاسم هو الذي اخترته لها، لأن علاقتي بها لا تزيد عن ساعات فقط، كتبت لي في أولاها : من؟. - أين أنت ؟) ص9.

-(السنوات توالت وبدأت الصفة الأبرز في شخصيتي تنضج وهي الفشل )"، فمنذ التحاقي بالمدرسة وأنا فاشل في دراستي وفاشل في علاقاتي مع زملائي ومع المدرسين وعلاماتي متدنية وعلاقاتي مع زملائي سيئة، اعتدت على سرقة مصروفات زملائي من المال من حقائبهم وجيوبهم، وما وجدت حلفا من أحلاف الشر إلا وانخرطت فيه، مرة أقع ضحية شقاوتي فأنال عقابي من الإدارة والمدرسين ومرة، أنجو، وما أكثر ما تعرضت للعقاب جلدا وشتما وطردا . ومع بلوغي مرحلة المراهقة انخرطت في فريق جديد من فرق السوء، ذلك أن أحد الرفاق دلنا على متعة جديدة وهي لف نوع من السجائر، في البداية ظنناها سجائر تبغ، ولكننا مع استمرار مشاعر اللذة وتماديها في المراحل القادمة اكتشفنا أن ذاك الشيء ليس تبغا بل حشيشة، هي شكلها التبغ ولكنها حشيشة، ومن الطبيعي أن يلاحظ الأهالي في البيوت اختلافا على طباع أولادهم المراهقين المنغمسين في مثل هذا النوع من الرذيلة، أولاد صغار قد يصل الأمر بالواحد منهم أن يكون مصدر أذى في بيته) ص10-11.

-(تقاطر الناس متجهين إلى المسجد بعد أذان المغرب، فقمت ودخلت إلى الشق الخلفي من مطعمي الذي سميته باسمي " مطعم الشيخ زهدي " والجزء الخلفي منه مفصول عن الجزء الأمامي بحاجز خشبي وبينهما باب خشبي يشكل جزءا من الحاجز، والجزء الخلفي هو منامتي التي أنام فيها بعد الانتهاء من العمل) ص12.

-(قضيتُ حاجتي، وتوضأت وأنا أنظر في المرآة إلى وجهي ولحيتي السوداء والعلامة الداكنة في وسط جبهتي التي أكرمني بها ربي بعد توبتي) والتزامي بديني، علامة تقوى من الله بها علي ولا ريب، ومن ثم مددت سجادتي على البرندة أمام المطعم وطفقت أصلي المغرب وأنا أستمع إلى صوت الإمام وهو يصلي في المسجد المجاور، ثم انقضت الصلاة، وعاد الناس إلى أعمالهم) ص12-13.

- (صديقي أمين لا يبعد عني في الشكل، وأقصد بالشكل المظهر الخارجي، فقد تعرفت عليه في المطعم الذي كنت أعمل فيه داخل موقف الباصات الرئيس في مدينة الزرقاء، فكانت صحبتنا صحبة مشايخ نعتمر الثياب القصيرة ونطيل لحانا ونضع الطواقي البيضاء على رؤوسنا، ونحضر دروس تحفيظ القرآن والأحاديث وعلوم اللغة العربية في مجالس العلم في مدينة الزرقاء، كان ذلك في الفترة قضيتها هناك في الزرقاء قبل قدومي إلى الصفاوي وافتتاحي لهذا المطعم) ص 13.

-(فما إلا ساعة حتى ملأنا الأقداح لتتحول إلى كؤوس ممتلئة خمرا، فشربنا منها وشربنا حتى تضاعف الضغط على الأمعاء، عندها راح شاكر) هذا يفرغ لنا ما في جوفه من شكوى من زوجته وتسلطها عليه الذي يصل إلى حد الضرب أحيانا، ونحن نضحك، وأنا على ثقة أنني وأمين وفهاد وسلمان لم نضيع تركيزنا ولا عقولنا بسبب الخمر، أما شاكر هذا فيبدو أنه جديد في هذا الكار، حتى إنه أظهر خوفه من أن ينال جزاء قاسيا من زوجته بسبب سهرته هذه معنا، الأمر الذي أدخلنا في موجة جديدة من الضحك والسعال
)ص15.


2-العسكري على حدود الوطن:

أ-فعلة اللّواط: المشينة المُنافية للأخلاق والأديان والعادات والتقاليد، بفعلها المشين، وخاصّة من رجل حارس لحدود الوطن، مرة بصفة فاعل، وأخرى بصفة المفعول به. الضحايا لا ينسون آلامهم أبدًا، تبقى تحفر دواخلهم بامتعاض وندم وأسف وخيبة أمل مدى حياتهم.

-(اسمع يا هذا، أريد أن أفتح لك الباب لتخرج وتأخذ حماما تنشط به جسمك وتنظف به جثتك العفنة، لكن إن أتيت بأية حركة غدر فسألحقك بالجيفة التي تركناها هناك.. وأشار بيده، ففهمت من كلامه أنه يقصد بلفظة " الجيفة " صديقي أمينا، فشعرت بوخزة ألم في صدري، ولم ينتظر الرد مني حتى استدار وفتح الباب وتنحى جانبا مفسحا الطريق لي للخروج من االغرف) ص48- 49

-(وصل الأمر إلى مرحلة امتهان ذكورتي ورجولتي بكلام داعر، أحسست بوهن كبير ينتاب جسمي، وقدماي لا تقدران على حملي، وبت أشعر برغبة كبيرة في البكاء) ص51.

-(نزعوا الجزء السفلي من ملابسي وبدأ الضابط في نزع إنسانيتي وكرامتي ورجولتي مني، وعندما بدأت بالفطرة والغريزة أقاوم هذا الفعل، راح يهمزني في جنبي وطرف فخذي خاصة بأداة حادة مؤلمة جدا، فصرت في صراع بين تحمل ألم الأداة الحادة أو القبول بامتهان الكرامة.. نعم إنه صراع الكرامة مع اللاكرامة، صراع الإنسانية مع اللاإنسانية، صراع الإنسان مع الحيوان، صراع النظام والاعتدال والاستقامة مع اللانظام واللااعتدال واللااستقامة .. امتهنت الكرامة وأمسيت في بضع دقائق فاقدا لرجولتي) ص51.

-(ليس لدي من مال لأقدمه رشوة للعسكر، وحتى لو كان لدي مال فهل يصدق عاقل أنهم سيأخذونه مني ومن غيري من السجناء رشوة ) لا أظن إلا أنهم سيأخذونه منه عنوة، ولدى خروجي من دورات المياه مرة شكوت إلى العسكري الذي أوصلني إلى هناك، فقال لي : " عليك بالوبش فقلت له : " ومن الوبش ؟ "، ففهمت من حواري معه أن الوبش هذا أحد العرفاء من السجانين، وما المقابل الذي يمكن أن أقدمه له هو!. نعم فهمت أنها القذارة مرة أخرى .. يا إلهي فإذا كنت قد خسرت كرامتي هناك، فهل علي أن ألوث نفسي في هذا المستنقع مرة أخرى! إن هذا الوبش مستعد أن يفعل لك كل ما تريده مقابل أن تعبث بمؤخرته) ص72.


وحديث أحد الضحايا لصديق له:

-(ما رويته له هو جو التراجيديا، لسوء ما مر بي من مواقف لا سيما بعدما وقعت في أسر سجانينا هؤلاء، حاولت ألا أكذب عليه بقدر المستطاع، وكنت صريحا معه في معظم ما قلته باستثناء ذلك الموقف الذي فقدت فيه رجولتي) ص97.

پ-الرشوة: فما الذي يُرتجى ممن هو مؤتمن على حدود الوطن بحراستها، ويتعامل بالرشوة والسرقة.. (دفع رشوة عددا من آلاف الليرات السورية لضابط مخابرات ليتهم محمودا بأنه متعاون مع الجماعات المسلحة، وإذن فقد أفلح ذلك الجار في حرمان العائلة من ابنها الثاني بعد أن القدر من ابنها الأصغر) ص100.

ج-امتهان كرامة الإنسان: عندما وضعوا السجين في حظيرة الحيوانات بلا طعام ولا شراب، وقد اضطرّه للبحث عن بقايا حبوب الشعر في بقايا روث الحيوانات وجمعه، ثم يتناوله، وتنقذ عطشه ماعز رضع حليبها جيء بها من المُصادرات المُهرّبة عبر الحدود، فكان حليبها بديلًا للماء.

-(طفقت أجمع حبات الشع الشعير حبة حبة أو أحشدها بباطن يدي استغرق الأمر وقتا طويلا حتى صنعت كومة استسغتها وأقنعت نفسي أنها خالية من الشوائب ورحت ألتهمها وأطحنها بأضراسي، وما أشد فرحي بها وأنا أجبرها على أن تكون حشوة لمعدتي، حتى وصلت إلى حالة من الاكتفاء وراح ينتابني شيء من .. القرف والتقزز منها) ص53.

-(ثمة فرق بين هذا السجن وذاك السجن عند البئر، ليس فرقا واحدا بل قل فروقا عدة، فهنا يقدمون الطعام لنا نحن السجناء في مواعيد يمكن القول إنها ثابتة إفطارا وغداء، أما العشاء فيمكن أن يجودوا به علينا ويمكن ألا يفعلوا ذلك، فهي مزاجية إذن مزاجية الظالم تجاه المظلوم مزاجية) ص69.


3- تحويل مدرسة إلى سجن:

في ظروف الحرب تنعكس الرُّؤى وطريقة التعامل مع البشر والأئياء، وتفقد الحياة كثيرًا من معانيها النبيلة، وقِيمَها الأخلاقيّة والروحيّة، وتنعدم الحالة الإنسانيّة عند الكثيرين، وبذلك فلا غرابة ممّا يحصل على كافّة المُستويات الحياتيّة للأفراد والجماعات والمؤسّسات الحكوميّة والمجتمع المدنيّ. وفي مثل هكذا ظرف، أن تتحوّل دور العلم والمدارس والمنابر إلى ثكنات ومتاريس تُداس ببساطير الجنود والعسكر، الذين يدوسون غير آبهين بالحياة أبدًا، وبتحويل المدرسة إلى سجن تتجلّى الحرب والوضع عمومًا، بأسوأ المعاني والصُّور، وكلّ قول بعد ذلك هو عبيثيّ:

-(دخلت بنا السيارة في فناء المدرسة، مؤكد أنها مدرسة، فاسمها المكتوب على بوابتها واصطفاف عدد من الغرف بجانب بعضها والرسوم التي تمجد الزعيم على الجدران، كل ما حولي يقول إنها مدرسة، وكثرة عدد العساكر ملحوظة هنا، إذ بمجرد وقوف السيارة تلقفتني أيديهم واقتادوني إلى إحدى هذه الغرف .. يا رب يا إلهي ما الذي يحدث معي وما الذي يجري في هذا الكون ؟! سأفهم شيئا فشيئا، وبالرغم من أنني لست راغبا في الفهم لكن مؤكد أنني سأفهم، لا غرو أن هذه مدرسة تم تحويلها إلى سجن في هذه الظروف التي تعيشها هذه البلاد، وهذه البلدة بالرغم من أن نبض الحياة ملموس فيها إلا أن إحدى مدارسها حولت إلى سجن) ص63.

وصف الرواية والخاتمة:

يمكن وصف رواية "ملابس عسكريَّة" عمومًا بأنّها من المدرسة الواقعيّة، وتُصنّف في خانة أدب الثورة السوريّة، علمًا أنّ الكاتب "عصام أبو شندي" هو أردنيّ الجنسيّة. هنا يجب التوقّف حتمًا عند مفصليّة ذات أهميّة كبرى، وهو ما أستطيع تسميته ب"دكتاتوريّة الجغرافيا"، فالجغرافيا تُرفَضُ شروطها مؤقّتًا من خطوط الحدود بين الدُّوَل، وما الحدود السياسيّة إلّا حالة هشّة، تحاول جاهدة وبمشقّة عظيمة الاحتيال على دكتاتوريّة الجغرافيا، ولكن بلا فائدة. والزمن وحده هو الكفيل لتجاوزها، والعودة للأصل بوحدة الشعوب المُقسّمة لتستطيع النهوض من جديدة في مواجهة التحديات والمخاطر القديمة والجديدة، فلا يمكن فصل الشعوب عن بعضها، فهي المتأثر الأهم على كافة الأصعدة.

كما أنّ الرواية كانت مرآة حقيقيّة، عكست واقع الحرب والموت والدمار؛ لتنضمّ إلى قافلة روايات كُتبت عن الثورة السّوريّة، التي ناهزت الخمسمئة عمل روائيّ ويزيد، من كُتّاب وأدباء سوريين وعرب وغيرهم. جميعها عالجت القضايا الإنسانيّة، ومخالفات ومُخلّفات الحرب ومُخرجاتها، ونتائجها برؤى تقاربت في كثير، لكنّها تباعدت أيضًا في القليل الخاصّ بالكاتب الأيديولوجي وغيره، كلّ ذلك له بعد وطني أصيل، ولا بدّ من الإشارة للبعض ممّن عزف على أوتار الطائفية المقيتة.



عمان – الأردن

10/ 12/ ٢٠٢١

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى