وداد سكاكيني - رحلة أسوان

جئت مصر من الشام في يوم وبعض يوم، تخب بنا مراكب الحديد، وأين منها مطايا البيد! حتى بلغنا القاهرة فطالعتنا مواكب النخيل على لمحات النيل، وقد غمرت الآفاق شمس حمراء مازالت منثورة الغرر، وهاجة الضياء، حتى ألقى بنا القطار على محطة باب الحديد.

دخلت مصر يتنازعني الوجوم للغربة، والشوق لبلدة طالما هفا الخيال إليها، واستقرت بها نواي وقرت بها عيني، فتغمرت من النيل، واستذريت بظل المقطم كما قال الشاعر، وقد طوفت بحدائق مصر ومغانيها، وما فاتتني مفاتن الجزيرة ومباهج الطبيعة فيها، ثم وددت أن أملأ العين من ريفها، وأستمتع بنيلها الذي يفيض على جنباتها، فمضيت في رحلة فنية إلى أسوان، أنشأها المعهد العالي لمعلمات الفنون، وهو بنية مجد للمرأة العربية، وجامعة ثقافة للمصريات، أضفت عليه عميدته الفضلى السيدة عائشة إقبال راشد من اسمها ونفسها رشداً وإقبالا.

غادرنا القاهرة مع بضع عشرة فتاة من قسم الفنون الجميلة بالمعهد، تحدوهن صديقتاي الأستاذتان إنعام سعيد وعزيزة يوسف، وهما في طليعة من أنجبت مصر من بناتها اللاتي ضممن في الجوانح حب الوطن إلى ثقافة الغرب الذي نزلن معاهده سنين للقانة الفن ونباهة الفكر، ثم عدن إلى الكنانة يطبعن الفتيات المتعلمات بمياسم التجديد، ويكشفن عن مواهبهن بالتوجيه والتسديد.

فهذه محطة باب الحديد تلقاني مرة ثانية، تحت عشية غير مبتئسة ولا واجمة، منيرة بمصابيح تكسف الشمس بسطوعها، فأين نفسي الفرحة في هذه الأمسية من قلبي المحزون حين بلغت مصر منذ عام الوحدة مهيمنة علينا؟

الآن أدرك عظمة المكان، واحسبني لولا العمائم البيض تلوح بها الهامات، والجلابيب الضافية تخفق فيها القامات، لكأني أبرح عاصمة في ديار الغرب، فقطار يؤج ويعج، وناس يغلي بهم الزمن يخفون إلى الركوب أو ينزلون من التوديع.

ودق ناقوس الرحيل فوجف القطار ثم سار تحت جنح الليل، وباتت مصر خفية في طي الدجى عنا، وتغورت المصابيح كلما ابتعدنا، حتى عطفت بنا الدروب وهدهدنا في مجاثمنا دوي القطار وهدير آلاته، وكاد النعاس يأخذ بمعاقد جفوننا لولا أنس الرفيقات. ولولا مرح الطالبات واستفاضة النكتة على أطراف ألسنتهن، لغططنا في سبات عميق كما يغط الطفل حين يترجح به السرير.

وكنا نتلفت بين الفينة والفينة، فنطل من المنافذ، والركب يسري كسهم نزعه العلم عن قوس الحضارة، فنمسك رؤوسنا عن صفقة الريح، ونحبس شعرنا عن التشعيث، وهاج فينا الحنين لمرأى النيل حين سكب القمر عليه شعاعه، فانسحب كسيف من فضة مسلول على أرض مصر ليدفع عنها عاديات المحن.

وأسفر الصبح على رؤوس النخيل يلتمع الندى على أوراقه الخضر، وتستدير سعفه فتبدو من بعيد كالقباب الصغيرة، ومن قريب كالمراوح المنشورة أو المظلات المرفوعة، وصاغت لنا ذكاء وجه النيل بالذهب فتألقت تلاميعه وتلوت على حواشيه، ولاح كمرآة مجلوة تتمرى بها الطبيعة على نشيد طيبة الذي كان رقراق الماء يردده لحناً مكروراً منذ الأزل باقياً على الأبد.

وأخذ يشارفنا الريف بصوره المتشابه وألوانه الكابية، وقد انطبعت بيوته بطوابع الروح المصري القديم، فلاحوه سمر الوجوه عراض المناكب، سكبوا على الأرض عرق الجبين، وعركوها بكدح الأيدي، وطفحت شفاههم بالمباسم لصباح وضاح لا يسأم القروي الفرحة بلقائه، ولو لقي هذا الفلاح من سيده بسمة الشاكر ورحمة المالك وكان أبي الخنوع، مطبوع الميل للنظافة متقبلًا للإصلاح، لعد أعز أمثاله في الدنيا، لأن ضفاف مصر الخيرة أجود أرض للزرع والإنبات

أما نساء الريف فوديعات الوجوه منتصبات القامات، يستقبلن وجه النهار غاديات بالجرار على رؤوسهن ثم رائحات من مسارب النيل، وهن يشاركن الرجل في خدمة الأرض والأنعام، وكلما وقف بنا القطار على ديار ذكرني بأرض بلادي، فمن مشارف الشام إلى مرابع بيروت يقف أولاد القرى تلقاء القطار في المحطات، بأيديهم سلال أو قصاع ممتلئة بالفواكه، ينادون على بيعها، وصنوف الباعة طوافون بخبز وأدام على سفر بغير زاد، ولم أجد مثل هذا في مسيري على درب أسوان. وجزنا أرضاً في جوارها الأقصر الحافلة بالآثار، فأمعنت التحديق في تلك الجنبات التي عاشت في تضاعيفها وجوفها خيالات الأقدمين وأطيافهم، وبقيت روعة الأطلال والآثار تدل عليهم، وقد برزت من بعيد تلك العمد الفرعونية ولاحت من بين أعمدة النخيل فقلت: يا لله كأني الساعة أمضي بقطار حلب فأمر ببعلبك، وأرى عمد هيكلها الروماني تتراءى من بعيد من بين أشجار الجوز والمشمش، ورحت أذكر أرضاً على وجه الشرق تعاورت عليها الأمم من رومان وإغريق وفراعنة وفينيق، حتى بسط عليها الإسلام جناح الأمن والرحمة ووهبت لها العروبة لغة القرآن، فكان عليها خير أمة أخرجت للناس، وما نقلني من تهاويل هذا الخيال سوى بشرى الرفيقات باقتراب الوصول إلى أسوان.

وأسوان بلدة دون سعة صيداء - لبنان، تساير ضفاف النيل في مبانيها وحدائقها، وإنها لشعرية الطبيعة، هادئة المقامة، هفهافة النسيم.

على رؤوس رجالها عمائم بيض لاثوها كأنهم الهنود، ونساؤها ملتفات بالسواد ضاربات على وجوههن بخمر مصرية، سجنت الخدين وأطلقت العينين.

هنالك دعينا إلى متنزهات على النيل، فبدا ثمة نهر مصر كما يسميه أهلوها بحراً رحيب الصفحة مترامي الساحة، وحملنا ذات صباح مركب بشراع مال بنا مترنحاً على خطرات الريح، فذكرت تحت شراعه وصف شوقي (النيل نجاشي والفلك حمامة بيضاء بجناح واحد) وسألت نفسي كيف يزهد شعراء مصر وهم غنية الأدب يوصف هذه المباهج والمغاني كما زهد شعراؤنا بالشام في وصف طبيعتها ومفاتنها، وما مصر سوى النيل الذي وهب لها البركة والحياة وكتب لها المجد والخلود، فلو أحصى ما قال الفرنسيون عن نهر السين وحده لجاء أكثر من ديوان، وما نظم القدامى والمحدثون من أمم الحضارة والثقافة في وصف بلادهم تضيق به الأسفار الضخام.

ذلك دأبنا نحن الشرقيين، فننا في جيوبنا دفين، وشعورنا في جمال أرضنا وسمائنا مكبوت أو كمين. ذكرت هذا في السفينة الشراعية التي نقلتنا إلى جزيرة الملك بأسوان، التي اشتملت على حديقة واسعة فينانة، ذات أدواح باسقة عتيقة، وأشجار لفاء مثمرة حديثة الزرع أفريقية المنشأ، وقد التفت غصونها وتكاثفت أوراقها، وحشدت في الحديقة أفواف الزهر ونسقت مغارسها يد صناع، وفي هذه الجزيرة الغناء تناثرت طالبات الفنون على حفافي النيل وفوق مجاثم الصخور بأيديهن الألواح والتلاوين، وطفقن يستوحين الطبيعة المصرية الجالبة ويتنافسن في رسم صورها الرائعة مرضاة لمواهبهن المتفتحة واكتساباً لتشجيع رئيستهن الفنية النابغة السيدة زينب عبده.

ولاحت لنا من على عدوة أسوان قبة الهواء تتناوح فيها الريح فوق جبل أسندت فيه رشيقات الأجسام ممن احتملن نقل الأقدام على الرمال حتى أشرفن على النيل وطوفن بمقابر الأمراء ثم صعدن في الروابي والشرفات.

وزين لنا الإلمام بالقبائل التي اعتزلت في ضاحية من أسوان كأنها الصحراء، فرأينا فيها رقص بناتها وترنح شيخاتها، وإنها لزمر تسكن المدر وتعيش على الفطرة نائية عن الحضارة، وفي ضاحية ثانية تقام كل خميس سوق عامة كسوق الجمعة في صالحية دمشق، يبسط فيها للبيع كل أوعية ومتاع، ويتنافس الباعة من نسوة ورجال في عرض بضاعتهم المزجاة، ويزدحم المساومون حولها.

ثم كان يومنا الأخير في أعز ما عند أسوان وهو الخزان، فركبنا سفينة تجري بالبخار، حملتنا في مؤنس الضحى على متن النيل إلى مجثم الخزان، فإذا هو متحبس ماء جبار رابض في قاع من جلمد الصخر، شيدته معجزة العلم الحديث بين ضفتين شاسعتين ومرتفعات راسخة، حصرت الماء الذي رأيناه منبثقاً من خلال الخزان، وكأنه أسنان مشط يرجل ضفائر عروس النيل، فكان الزبد يعلو ثم يهوي فيتفجر دقيق الرؤوس ضخم الأجسام ثم تتناثر منه الأقدام برذاذ كأنه ضباب أو دخان.

وتولع بنا صبية عوامون في النيل حول الخزان، وما راعنا إلا صغير منهم أسود الأديم قفز من ارتفاع عشرين متراً فهوى إلى الماء جنبنا وكأنه بأشق حالك، ولما غاص في الماء ثم عام أخذ يتقلب وكأنه سمكة سوداء.

وكذلك عدنا من أسوان، بمسيرة يوم، معنا لذكراها أوعية من القش موشاة بالألوان ومراوح منسوجة ذوات طرر، وقلائد من العاج سآخذها معي إلى الشام لأذكر بها أسوان كما ذكرتها من قبل إذ قرأت كتب العقاد،

(القاهرة)

وداد سكاكيني




مجلة الرسالة - العدد 614
بتاريخ: 09 - 04 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى