مسعد بدر - مستويات توظيف اللغة في قصائد بادية سيناء

القصيدة بناء لغوي، والشاعر يستخدم الكلمات نفسها التي يتداولها الناس؛ فأي فرق بين استخدامه لها وبين أي استخدام آخر؟ كيف يخلق الشاعر (شِعرًا) من هذا الكلام الشائع بين الناس؟
إن الشاعر الجيد هو القادر على استغلال كل إمكانات اللغة في أن ينقل إلى المتلقي خبرة جديدة منفعلة بالحياة. والشاعر يستخدم اللغة استخداما خاصا؛ لأن له شخصيته الخاصة، وقدرته الفذّة على التعبير عن تجربته التي يعيشها.
1- توظيف اللفظ المفرد:
وأول المهارات اللغوية لدى الشاعر الجيد تظهر في حُسن انتقائه للكلمة المفردة المعبّرة عن مراده تعبيرا دقيقا، نتأمل هذه الأشطر من قصيدة الأستاذ محمد عبد الكريم:
(يا ونّتي ونّيتها من لواهيب/ البارحة ليلي قضيته تناحيب/ أذكر زمان أول وادوّن مكاتيب)
فإذا لاحظنا الكلمة الأخيرة في الأشطر الثلاثة وجدناها أوزانها على التوالي: فواعيل/ تفاعيل/ مفاعيل، وكلها جموع للكثرة، بل هي من صيغ (منتهى الجموع) التي لا جمع بعدها ولا أكثر منها. وتواترها على هذا النحو دلالة على مهارة الشاعر في انتقاء اللفظ المفرد المعبر عن قسوة الآلام وشدة النحيب وكثرة المكاتيب.
2- تأليف لفظ مع لفظ:
والمهارة الثانية أن يضع الشاعر اللفظ المناسب بجوار اللفظ المناسب، بحيث تأتلف الكلمة مع الكلمة وتُنتج المعنى المطلوب، ليس المعنى العقلي البحت، ولكن المعنى المؤطّر بإطار مؤثر من العاطفة. يقول الشاعر أبو نوره:
فيني من العزة ما يكفي العالمين
يوم الردي يشري المذلة ويقترض
يتحدث الشاعر عما حباه الله من عزة النفس، ثم يلتفت إلى الشخص الرديء الذي يحرص على أن يظل ذليلا، فإذا حاد عن المذلة أو حادت عنه المذلة فإنه (يشريها)! وهذه لفظة واحدة عميقة الدلالة على حرص هذا الشخص على الذل والهوان اللذَينِ جعلتهما لفظة (يشري) سلعة نفيسة يطلبها الذليل بثمنها؛ فإن لم يجد الثمن فإنه (يقترض)! وترتيب الألفاظ (يشري - يقترض) ليس إلا ترتيبا للمعاني النفسية؛ فإن الشاعر يحتقر الشخص الرديء، ويزداد احتقاره له يوم يراه يشري الذل ويدفع فيه الثمن، ثم يبلغ الاحتقار أقصاه في المرتبة الثالثة حين يراه يكلّف نفسه مشقة الاقتراض ليكون، أو ليظل، ذليلا! وهذه براعة لافتة في وضع اللفظ المؤتلف مع لفظ آخر مجاور.
3- التركيب اللغوي:
والمهارة الثالثة من المهارات اللغوية لدى الشاعر المُجيد هي تركيب الألفاظ في عبارات، وهذا هو المجال الأكبر لإبداع الشاعر الذي لا يخلق مفردات جديدة؛ فهو يستخدم الكلمات نفسها التي يستخدمها الناس، لكنه يخلق منها تركيبا يناسب انفعاله وفكرته؛ فليس هناك حد فاصل بين حالة العقل والتعبير اللغوي. بعبارة أخرى ليس هناك انفصال بين الجملة النحوية أو البنية النحوية للجمل وبين الجملة الانفعالية. يقول إبراهيم فايد:
فرّقني الوجد ، والأشواق تجمعني
أموت وأحيا وأنا بَعده على ما ني
في الشطر الأول جملتان: الأولى فعلية مكوّنة من فعل ماض دال على الثبوت والتحقق وانتهاء الأمر. وقد بدأت بفعل التفريق لأنه هو الأهم في وجدان الشاعر. والجملة الثانية اسمية مكوّنة من اسم وفعل مضارع، وكلاهما يدل على الاستمرار ودوام تتابع الفعل؛ فكأن التجميع بعد التفريق المرير يحتاج إلى جهد متصل وعمل مستديم يناسبه التعبير بالجملة الاسمية. وقد بدأت هذه الجملة الثانية بـ(الأشواق)، ثم هي تتكرر مرة أخرى في صورة ضمير مستتر بعد (تجمعني)، وفي ذلك دلالة على التعلّق النفسي بالأشواق؛ فهي التي بقيت للشاعر، وهي الأمل في التجميع بعد التفريق، رغم أنه مجرد أمل، ورغم أنها مجرد أشواق لا تغير من كوني (أنا بعده على ما ني).
وهنا لفتة بديعة أخرى، وهي التوازي والتقاطع بين دلالة الألفاظ في الشطرين، حيث نجد (فرّقني) نظيرا لقوله (أموت)! و(تجمعني) نظيرا لقوله (أحيا)، وهذا مستوى عال من تشكيل الكلمات يجعل من القول المألوف شعرًا.
وعلى هذا المحور يقول أبو يحيى التيهي مخاطبا المحبوب الذي هجر:
ألقَـــى وَتـلْـقــى غيـر منّـي بـدالـي
حُبَّـك تبخَّـر وانْـتهي وْبَـعْـدهـا ذاب
إن نظم الكلمات وترتيبها هو التعبير الخارجي لحالة شعورية وفكرية داخلية؛ فمتى صدق التعبير الخارجي وأدّى في أمانة شرح الحالة الداخلية كان نظما جيدا. وأبو يحيى يقول: ألقى أنا، وتلقى أنت بديلا لي. وهذه هي مهارة النظم التي جعلت البحث عن بديل مقرونة بضمير المخاطب (أنت) في إشارة إلى أن الحبيب هو من بدأ القطيعة والسعي وراء البديل. ثم تظهر مهارة النظم مرة أخرى حين بدأ بفعل المتكلم، فعل الشاعر نفسه (ألقى أنا) الذي سبق فعل المحبوب في نظم الكلمات (ألقى وتلقى) للدلالة على كبرياء الشاعر وسرعة انصرافه عن المحبوب حين بدا له الصدود؛ فقرر أن (حبك تبخّر وانتهى). لكني أعتقد أن صديقي الشاعر أساء النظم حين جعل لهذا الشطر ذيلا لا قيمة له هو قوله (وبعدها ذاب)، وهو ذيل أساء ولم يُحسن إلى التعبير السابق الرائع الرائق؛ فكيف يذوب الحب بعدما تبخّر وانتهى؟!



___________
أفدنا في هذه المقالة من:
*عز الدين أسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي - الباب الثالث؛ الفصل الثاني. والتفسير النفسي للأدب - الباب الثاني؛ الفصل الأول. والأدب وفنونه - الفصل الأول.
*أحمد أمين، النقد الأدبي - الباب الأول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى