مبارك وساط - أندري بريتون والسّورياليّة

وُلِد أندري بريتون في تِنْشِبْراي (بمقاطعة أورنْ- منطقة النّورماندي) يوم 18 فبراير 1896. كان الطّفل الأوحد لأبويه، وعاش طفولة وادعة. في نحو السّادسة عشرة، بدأ يهتمّ بكتابات بودلير ومالارمي... وانطلاقاً من 1913، نشأت بينه وبين الشاعر پول ڤاليري صداقة أدبيّة، ستبقى على قوّتها زمناً.

في سنة 1913 تلك، شرع بريتون في دراسة الطّبّ بباريس، واستُدْعِيَ للخدمة العسكريّة في بداية سنة 1915، وفي هذا النّطاق، عُيِّن للاشتغال بالعديد من مراكز العلاج العصبيّ- العقلي. في أثناء ذلك، بدأ يطّلع على أفكار سيغموند فرويد. كما أنّه، خلال سنتي 1917 و1918، أقام علاقة وثيقة بالشاعر غيّوم أپولينير.

نَشَر بريتون أولى مجموعاته الشّعريّة سنة 1919، تحت عنوان: "مصرف التّسليف بالرهن"، وخلال نفس السنة، أسّس، رفقةَ لويس (لوي) أراغون وفيليب سوپو، مجلّة "ليتّيراتور" (أدب). وقد شارك بريتون في أنشطة "مجموعة دادا" (المجموعة الدّادائيّة)، خلال سنوات 1919- 1921، وكانت الدادائية، بالنسبة إليه، نوعاً من الجسر نحو السّوريالية.

والدّادائية هي حركة ثقافية، أدبيّة وفنّية، تشكّلتْ خلال بداية القرن العشرين، وتتميّز بإعادة نظر جذريّة في الأعراف والإكراهات الإيديولوجيّة والجمالية والسياسية. والمرجّح أنها ظهرت إلى الوجود في فبراير 1916على يد كلّ من الشاعرين الألمانيّين هوغو بالْ وريشار هولْسَنْبيكْ والفنّان الصّباغ مارسيل جانكو وصديقيه هانس آرب وتريستان تزارا ( الشاعر الرّوماني المعروف). وقد اعتبر الدّادائيّون أنفسهم «سلبيّين»، فهم لا يؤمنون بفكرة التّقدّم، ولا يهتمّون سوى باليوم الحاضر( وحتى هذا الاهتمام تُخالطه "روح التّسلّي")، وبالطبع، فهم يرفضون أيّاً من مظاهر الامتثالية في نطاق الأدب، ويعملون على التخلّص من كل رغبة في أيّ من النماذج الجمالية وفي ما يكرّسه الشعر أو الثقافة أو الذّوق في ذلك النطاق… إذن، فقد تميّزتْ الدّادائيّة باندفاعتها المتمرّدة الجامحة ورفضها لسلطة العقل والمنطق، وباستهانتها بالتقاليد. وعلى يد الشاعر الروماني الذي كتب أساساً بالفرنسية، تريستان تزارا، تمّت المواءمة بين الدّادائيّة والنضال اليساريّ. ويُنسَب اختيار تسمية "دادا" إلى تريستان تزارا، وهو نفسه يقول إنه فتح القاموس بشكل عشوائي، فعثر على كلمة "دادا"، وسمّى بها الحركة المذكورة.

وكان بريتون – قبل أن تظهر السّوريالية إلى الوجود- قد عمل على نشر الدادائية في باريس، ثم انتقل تزارا نفسه إلى العاصمة الفرنسية في أواخر 1919، لكن بريتون سيقطع علاقته لاحقاً بتزارا، بشكل مفاجئ اعتبره الكثيرون على جانب من "الفظاظة". بعد ذلك، سينتمي تزارا إلى الحزب الشيوعي ويستقرّ فيه لفترة طويلة نسبيّاً ، فيما سيكون بريتون بمثابة عابر سبيل في الحزب المذكور، إذ سرعان ما سيغادره، معلناً موقفه المعارض جذرياً للستالينية، كما أنه سيزور تروتسكي في المكسيك ويساند التروتسكية زمناً…

كانت السوريالية تمنح مكانة خاصّة للّاشعور وللأحلام في عملية الإبداع على العموم ( كما تجلّى ذلك، مثلا، في التحمّس السورياليّ – خلال فترة ما- لما نُعِت ب"الكتابة الأوتوماتيكية"). ومعلوم أنّها كانتْ قد هدفتْ إلى الجمع بين مبتغى رامبو ("تغيير الحياة") وهدف ماركس ("تغيير العالَم")، وإضافةً إلى هذا، فإنّ أندري بريتون، الذي كان قد افتتن بأفكار فرويد عن اللاشعور والحلم، استخلص منها ما يؤكّد وجودَ صلة عميقة تربط الواقع بعالم الأحلام، ووجودَ ضَرب من الاستمراريّة بين حال اليقظة وحال النّوم. وبالنّسبة لبريتون، فإنّ المماثلة بين الشاعر والحالم، التي كان بودلير قد أكّد عليها، أضحتْ مًتجاوَزة، إذ إنّ السّوريالية تبحث عن اتحادٍ للواقع والخيال، في ما يُشكّل « واقعاً مطلقاً »...

في سنة 1924، ظهر "بيان السّوريّاليّة"، بقلم أندري بريتون، ويجب أن نشير إلى أنّه كان، في طبعته الأولى تلك، تقديماً لكتاب بريتون الشّعري "سمكة قابلة للذّوبان".

في هذا البيان، يُشِيد أندري بريتون بالخيال الحُرّ كلّيةً، وبالعجيب والمدهش ممّا يبتدعه هذا الخيال وتحفل به الأحلام، بل ويؤكّد أن الجمال يكمن بالضّبط في ما هو مدهش وعجيب، كما يُبدي قناعته في أنّ التّنابذ بين الحلم والواقع آيلٌ إلى الزوال، ويدعو إلى الكتابة الأوتوماتيكية (التي تطلق العنان للاشعور وللخيال، رافضةً رقابة العقل). وقد قدّم بريتون التعريف التالي للسوريالية: «آلية نفسانية خالصة، تُعتَمد، إمّا كتابيّاً أو بأيّ طريقة أخرى، للتعبير عن الاشتغال الفعليّ للتفكير في غياب كلّ رقابة يمارسها العَقل، وخارج أيّ انشغال جماليّ أو أخلاقيّ».

فيما يخصّ مصطلح "سورّيالية"، فإنّه يعني، حَرفيّاً : "فوق واقعيّة". وكان أوّل من استعمله هو الشّاعرُ الفرنسيّ غيّوم أپولينير، فقد كتب في رسالة وجهها إلى أحد أصدقائه، في مارس 1917: « بعد تفحّص مليّ، أعتقد فعلاً أنّه من الأَولى اعتماد "سورياليزم" (سوريالية؛ فوق واقعية) عوض "سورناتوراليزم" (فوق طبيعية) الذي كنتُ قد استعملته بدءاً». وحسب "معجم السوريالية" لجان پول كليبير، فإنّ الشّاعر الفرنسيّ پيير-ألبير بيرو هو الذي اقترح على أپولينير، حين كان هذا الأخير على وشك إنهاء مسرحيته "ثديا تيريزياس"، أنْ يَخصّها بنعت "دراما سوريالية" (دراما فوق- واقعية)، عوض "دراما سورناتورالية" (فوق - طبيعيّة)...

وقد أكّد بريتون على التّوجّه السياسيّ الثوريّ للسوريالية، من خلال منشور "الثورة بدءاً ودوماً"، الذي ظهر سنة 1925. وصدرتْ له، بعد تلك السّنة، أعمال عديدة، نذكر منها: "نادجا" (1928)، "البيان الثّاني للسّوريّالية (1928)، "الأواني المستطرقة" (1932)، "الحبّ الجنونيّ" (1937)، « أنطولوجيا الفكاهة السوداء » (1940)، "اللمبة في ساعة الحائط" (1949)…كما أنه أصدر صيغة نهائية لكلٍّ من : "بيانات السّوريالية" (1962)، و"نادجا"، ( 1963 ). وكان قد أسّس مجلّاتٍ، منها : "الثورة السوريالية"، "السّوريّاليّة في خدمة الثّورة"، "السّورياليّة، نفسها"... ونظّم ، رفقة مارسيل دوشان (دوتشامب) المعرض الدّولي الثّامن للسّورياليّة، الذي فتح أبوابه بباريس، في شهر ديسمبر 1955.

نشير، أيضاً، إلى أن بريتون كان قد غادر بلده إلى أمريكا، سنة 1941، رفضاً منه لمواقف حكومة ڤيشي التي مالأت النّازية (وسيعود إلى فرنسا سنة 1946)، كما أنّه كان ضمن الموقّعين على "إعلان الحقّ في العصيان في حرب الجزائر"(1960). وفي صبيحة 28 سبتمبر من سنة 1966، رَحل أندري بريتون عن عالَمنا بأحد مستشفيات باريس.

٭٭٭٭

- مضمون هذه المقالة مقتبس، في قسم كبير منه، من التقديم الذي وضعتُه لكتاب "الأبديّة تبحث عن ساعة يد"، ويضمّ هذا الأخير مختارات شعريّة لأندري بريتون، من ترجمتي (1918، منشورات الجمل).



مبارك وساط




1640528332824.png

بنجامين بيري- بول إيلوار، أمامه: تريستان تزارا- أ. بريتون


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى