د. محمد متولي - رائحة الجوافة

اشتريت أمس «كيس جوافة» ويبدو أن ثمارها جديدة حديثة عهد بالأسواق.. فسَرَتْ رائحتها إلى عُمق روحي، حتى اقشعر بدني كله ودمعت عيني؛ لأن رائحة الجوافة في هذا الوقت من كل عام تعيد إلي ذكريات الطفولة ورائحة العام الدراسي الجديد..
فقد كان أمام بيتنا بعض أشجار الجوافة المرصوصة على حافة الترعة، تثمر مع مقدم الشتاء فتبدو الثمار ناضجة أو مائلة إلى النضج، مبللة بالندى في الصباح، لذيذة شهية، يلمع بياضها تحت أشعة الشمس عند الظهيرة، فيسيل لها لعاب الناظرين! كنا نتسلق الأشجار لنقطف هذه الثمار، والناس في بلادنا لم يكونوا يجدون بأسا في أن يأكلوا الخبز الجاف بالفاكهة، مثل البرتقال أو الجوافة! وقد كان للجوافة مع الخبز الجاف بخاصة مذاق شهي لا يُنسى!
رائحة الجوافة في مثل هذا الوقت تعيد إليّ رائحة الملابس الجديدة.. رائحة ياقة القميص القوية الحادة المكوية الشهية، حين يُلْبس للمرة الأولى. تشمها في ملابسك وملابس أقرانك من التلاميذ تعبق في الفصل كله. الألوان الزاهية والملابس الجديدة البسيطة والبسمات في الوجوه التي لم ترهقها الواجبات الدراسية بعد.. كل ذلك يجعل أيام الدراسة الأولى ألذ وأشهى من الأعياد!
إنها تعيد إلي رائحة الأقلام الرصاص عند شحذها بالبراية أو بشفرة الحلاقة!! ورائحة محو بعض ما خطَّتْه تلك الأقلام بالممحاة الجديدة.. فلذلك كله رائحة زكية يزيد فيها حسن تقدير المعلم بالقلم الأحمر لما كتبتَ بإحكام في أوائل الصفحات.
إن رائحة الجوافة تعيد إليَّ سطوة المعلمين القاسية عِصِيُّهم! والخوف الشديد الذي كان ينتابنا منهم، ويدفعنا دفعا إلى إنجاز الواجبات المنزلية، وعدم التقصير في كتابتها مهما كانت كثيرة ومرهقة!! حتى لقد كنت أقَدّم إنجازها في بعض الأحيان على تناول الطعام، فكنت أكافئ نفسي وأدعم صبرها، أثناء الكتابة أو بعدها، بثمرة جوافة تسد جوعها!
تلك الروائح الشهية تعودني في هذا الوقت من كل عام.. وتعيد إلي أبيات أبي القاسم الشابي التي درسناها صغارا في الشهادة الابتدائية، والتي كانت تصف حالي، في سعادتي ونشاطي وحرصي على تسلق النخيل، وأشجار الجوافة وغيرها للظفر ببعض ثمارها:
أيام كانت للحياة حلاوة الروض المطير
كانت أرق من الزهور ومن أغاريد الطيور
أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور
وبناء أكواخ الطفولة تحت أعشاش الطيور
نبني فتهدمها الرياح فلا نضج ولا نثور
ونظل نقفز أو نثرثر أو نغني أو ندور
لا نسأم اللهو الجميل وليس يدركنا الفتور
حقا رائحة الجوافة تعيد إلي ذلك كله، ولعل في استعادة آثارها المبهجة القديمة تذكيرا بما يلاقيه المرء اليوم من أثر تقدم العمر وانطفاء زهرة الطفولة والشباب، وتضخم الطموح وصعوبة الإنجاز، وضبابية المستقبل، هذا المستقبل الذي كنت أراه في الطفولة أبيض ناصعا كحبة جوافة بيضاء تنعكس عليها أشعة الشمس عند الظهيرة في غصن شجرة خضراء مفعمة بالحياة!!
حين كنت صغيرا درست أبيات الشابي الجميلة هذه بعنوان «مباهج الطفولة»، فلما كبرت وطالعتها في ديوانه عرفت أن لهذه القصيدة اسما آخر هو «الجنة الضائعة»، وأن واضعي المناهج ربما أخفوا عنا حقيقتها حتى لا ينغصوا علينا جمال الطفولة!!
إنني وإن كنت درست الشطر الأول من القصيدة صغيرا فأظن أن الأوان قد آن لدراسة شطرها الثاني، لأنه يعبر اليوم عن حقيقة الحال:
واليوم أحيا مرهق الأحشاء مشبوب الشعور
متأجج الإحساس أحفل بالعظيم وبالحقير
تمشي علي قلبي الحياة ويزحف الكون الكبير!
يحدث ذلك كله وتبقى رائحة الجوافة!!
لكنها ليست الجوافة البيضاء الناصعة.. المدلاة من أغصان أشجار مرصوصة على شاطئ الترعة في أخريات القرن العشرين، تنتقيها بيديك وتلتذ بطعمها مع الخبز الجاف.. وإنما هي جوافة هذا القرن الجديد.. وهذه الأيام العصيبة.. جوافة خضراء غير ناضجة . . تأكلها مضطرا ولا تملك رفاهية انتقائها!! وتبقى فضيلتها الوحيدة أنها تعيد إليك تك الرائحة القديمة..



أعلى