أ. د. عادل الأسطة - أمـيـركـا فـي روايـة «حـلـيـب الـمـاريـنـز»

"حليب المارينز" (2008) هي رواية للعراقي عواد علي النشيط في الحركة الأدبية في العراق، فقد بدأ إصداراته في العام 1988 بكتاب عنوانه "المألوف واللامألوف في المسرح العراقي" وصدر في بغداد، وما عادت كتبه اللاحقة تصدر في العراق، وإنما في بيروت والقاهرة والأردن، وهو إلى جانب اهتمامه بالمسرح، فقد كتب عن البياتي الشاعر، وتعد روايته هذه هي الأولى، وقد أصدر بعدها روايات أخرى منها "نخلة الواشنطونيا" (2009).
ويلفت عنوان الرواية دارس صوت أميركا في الأدب العربي المعاصر، وتحديداً الرواية، فالمارينز مقترنة بأميركا، وبالتالي فإن الدارس سيجد نفسه سوقاً لقراءة الرواية وهو يبحث عن صوت أميركا، فكيف إذا كان الكاتب عراقياً، وإذا كانت الرواية صدرت بعد العام 2003، عام سقوط بغداد واحتلال العراق وتخريبه، بل وتدميره.
هل تعكس الصورة المقدمة لأميركا في الرواية تصور عواد علي نفسه؟ ما كنت، ربما، لأثير هذا السؤال لولا فقرتان وردتا في الرواية، يعترف فيهما المؤلف الضمني في الرواية، وهو سامر، بأنه يسقط ما في نفسه على بطله. يرد في الصفحتين 122 و123 ما يلي:
"فضلت أن أنهمك في الكتابة لعلّي أفكك خيبتي، فشرعت في كتابة الفصل الأول من روايتي، بعد أن أجريت في ذهني تغييراً جوهرياً على موضوعها، بدأته متسائلاً على لسان بطلها وساردها جلجامش، وأنا ما أزال تحت تأثير مخيلة هؤلاء الهنود العجيبة، التي لا تفصل مطلقاً بين ما هو واقعي وما هو خارق.
"هل كانت لعنة الآلهة عشتار سبباً في عودتي خائباً من مملكتي، ماذا كان سيحدث لو أنني اكتشفت أن خلود أوتونابشتم محض هراء؟ هل كنت سأبكي لحظتها بحرقة بكائي حينما ذاب أملي كما تذوب حبة برد بين أصابع ساخنة؟!؟.
إلاّ أن هذه التساؤلات بدت لي كأنها نابعة من ذاتي أنا أكثر مما تكون نابعة من بطل الرواية نفسه....".
وما أورده المؤلف الضمني ـ سامر ـ على لسان بطله وسارده، وما قاله لاحقاً من أن التساؤلات التي وردت على لسانه/ السارد/ البطل بدت للمؤلف كأنها نابعة من ذات المؤلف، يمكن أن يتوقف القارئ أمامه ليقول إن ما ورد على لسان المؤلف الضمني/ سامر هو ما يعتمل في داخل المؤلف الحقيقي/ عواد علي، وإن كان ثمة ما هو مختلف بينهما، فالمؤلف الضمني يقتل في الرواية فيم يستمر المؤلف الحقيقي على قيد الحياة، ويُتم روايته، خلافاً للأول.
سامر المؤلف الضمني عراقي غادر العراق واستقر في كندا، وبعد سقوط بغداد في نيسان 2003، يختطف أخوه الأصغر ساهر، ويطالب المختطفون بفدية مقدارها خمسون ألف دولار، ويعمل سامر على توفيرها ويعود إلى العراق، حتى يسلمها للخاطفين وينقذ أخاه، وتكون النتيجة أن سامراً يُقتل، وهكذا تنتهي الرواية بموته.
والسؤال هو ما هو موقف سامر من النظام العراقي مجسداً في شخص الرئيس صدام حسين، ومن الاحتلال الأميركي لبلاده؟
سامر في أوتاوا في كندا متزوج من عشتار، وهو مريض بالكلى ويبحث عن علاج، وتوصف له نبتة هناك قد تشفيه، فيبحث عنها، كما بحث جلجامش عن نبتة الخلود، وهكذا يتخيل نفسه أحياناً جلجامش، وفي تلك البلاد قد تغويه سيدوري.
ولسامر مجموعة من الأصدقاء العراقيين، وهم ذوو ديانات وطوائف مختلفة، بل إن منهم فنانة يهودية عراقية ولدت خارج العراق هي روزا، ويعيش هؤلاء معاً وتربط بينهم أواصر صداقة ومحبة، كأنما أعادوا تشكيل العراق قبل سبعين عاماً، حين كان عراقاً للعراقيين كلهم ـ فيما بعد ستكتب أنعام كجة جي روايتها طشاري، وسيعمل أحد أبطال الرواية على تجميع قبور العراقيين في المنافي في مقبرة واحدة ـ، ولا يعني ما سبق أن سامر يرسم صورة وردية للعراقيين، فثمة صورة لقسم منهم ترى فيها بعض الشخصيات عراقيين أوغاداً وبؤساء ورعاعا، وتتجسد هذه الصورة في شخصية شاهين الذي يقيم علاقة مع الكندية آنياً، فيلاحقها ويغتصبها جنسياً، بشذوذ، ثم يقتلها لشدة الغيرة ولإعراضها عنه.
دائرة العراقيين المتآلفة تبدو منسجمة ولا تلتفت إلى الطائفة أو الديانة وهي دائرة تهتم بالثقافة وتحب العراق وتحن إليه، وترى في احتلال أميركا له كارثة كبرى.
وليس العراقيون هؤلاء وحدهم من يشيطنون أميركا، هناك شخصية فرنسية، ضمن الدائرة تشيطن أميركا، وترى فيما تقدم عليه، حين ترسل جيشها إلى الخارج، عملاً إجرامياً.
العنوان هو "حليب المارينز"، فهل كان حليب المارينز حليباً أبيض نقياً صافياً شافياً يقدم لوجه الله تعالى، وعطفاً على الشعوب التي تعاني من تسلط حكامها؟
أشير، ابتداءً، إلى أن أحداث هذه الرواية، خلافاً لروايات أخرى مثل "أميركا" لربيع جابر، و"شيكاغو" لعلاء الأسواني، و"أمريكانللي" لصنع الله ابراهيم وروايات أخرى، لا تجري في أميركا، وإنما في كندا وفي العراق، والحديث عن أميركا فيها يقتصر على احتلالها للعراق، ولا يأتي على الطبيعة الأميركية أو الطعام الأميركي أو الأميركيين العاديين في المنزل والمطعم والمؤسسة والحافلة والميناء.... إلخ.
ثمة وجه واحد لأميركا يبرز فيها هو وجه المارينز، وليس عبثاً أن يكون العنوان "حليب المارينز".
إنه عنوانه يحدد جانباً من جوانب الحياة الأميركية، ويقتصر عليه، واختلاف العنوان له دلالته.
في الفصل الخامس من الرواية، الفصل الذي يسرده سامر ـ وفيه يأتي على عراقيين في كندا فينعتهم بالحثالات ـ يأتي على حوار، جرى بين أصدقائه، ومنهم الفرنسية ناتالي التي تجيد عدة لغات، يبين موقفهم من الحرب التي كانوا ضدها، ويظهر رأيهم في أميركا، وفيم يقول سرجون إن صدام كان بإمكانه أن يجنّب بلاده الحرب لو تخلى عن الرئاسة وترك العراق وغادره، تجيبه ناتالي التي كانت تتبنى الموقف الرسمي الفرنسي معترضة "لأن أميركا حين ترسل جيشها إلى مكان لا ترسله لنزهة.. ولو حدث أن تخلى الرئيس عن السلطة، وترك البلد للجأت إلى إشعال نزاعات دموية بين مكوناته لتسوّغ لنفسها احتلاله".
وتخاطب ناتالي سامر قائلة: "خذها عن لساني يا سامر.. إن المارينز لم يدخلوا بغداد حاملين مشعل الحرية، ولم تذهب أميركا إلى العراق كي ترضع شعبه من ثديها المدرار بالحليب المجاني، بل لتهبه صندوق باندورا المشؤوم".
عبارة "حليب المارينز" عبارة تلفت نظر عشتار زوجة سامر، فتفكر أن تجعلها عنواناً لإحدى قصائدها، (ص53)، وحين تقرأ بعض قصائدها على مسمع من سامر ودلشاد ويشار وشيلان ورشيدة وجانيت، والأخيرة شاعرة نسوية، تقترح هذه العنوان "حليب المارينز" ليكون عنواناً للديوان الذي تنوي عشتار إصداره وبدلاً من أن ترضع أميركا العراقيين حليباً أبيض صافيا نقيا، وتحمل لهم مشعل الحرية ضربت العراق ودمرته. وفي الفصل 21 (سامر) نقرأ الفقرة التالية: "لماذا لم تتحسب أميركا لحدوث مثل هذه الظواهر قبل أن تشن الحرب؟ هل خططت لمرحلة ما بعد الاحتلال، وماذا خططت؟ إن الفراغ الأمني الذي أعقب احتلالها تتحمل وحدها مسؤوليته، ها قد مضت سنة كاملة فأين هي الحرية التي وعدت بجلبها لنا؟ هل ألوم الآن ناتالي على قولها إن المارينز لم يدخلوا بغداد حاملين مشعل الحرية، ولم تذهب أميركا إلى العراق كي ترضع شعبه من ثديها المدرار بالحليب المجاني، بل لتهبه صندوق باندورا المشؤوم؟" (ص175).
حين تبصر عشتار المتحف العراقي ينهب على مرأى من الجنود الأميركيين تقول: "هل كان هدف المتسللين من الأطراف، ووراء الحدود ذوي الوجوه الثعلبية هو تحقيق الثروة أيضاً، أم دفعهم حقدهم الأسود، ورغبتهم في الانتقام، إلى إعادتنا إلى العام صفر، وتهشيم ذاكرتنا الجمعية، وتحويلها إلى صفحة بيضاء يسهل على الطارئين استبدالها بذاكرة جديدة؟" (ص25).
وتبدو صورة المارينز مرعبة، فهم يقتلون بلا رأفة، وتبدو صورة قيادتهم سلبية في المطلق، فحين يبصر سامر صورة رامسفيلد ويصغي إلى كلامه يعقب: "ـ ألم أقل لك إن معرفة ابن القحبة هذا بمجتمعنا لا تتعدى معرفة جدتي بالجغرافيا؟" (ص57)، وجدته جاهلة بالجغرافيا.
عموماً فإن رواية "حليب المارينز" لم تكتب عن أميركا من داخل أميركا، وإنما أتت على ما فعله المارينز في العراق، وبالتالي فإنها تعطي تصوراً جزئياً عن أميركا، خلافاً لما يقرؤه المرء في روايات ورد ذكرها، ولعلّ هذا يتضح في مقالات أخرى!!



2015-01-20

أ. د. عـادل الأسـطـة




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى