مسعد بدر - مقدمة ديوان (عطر الصحاري) لأبي زيد التياها

(عطر الصحاري)! وإن للصحراء عطرا ساحرًا، وعبيرًا أخّاذا!
وإنما يفوح هذا الشذا المعطار من كل مكوّنات الصحراء؛ فإن للأصالة عطرًا، وإن للتاريخ العميق عبقًا، وإن لتقاليد الصحراء عبيرًا، وإن للمطر فوحة ذكية فاتنة، وبئر الماء والأشجار والأعشاب والقهوة العربية، كلها لها روائح عطرية نفّاذة أخّاذة، تلقاك حين تأخذ في قراءة هذا الديوان (عطر الصحاري) للشاعر (أبي زيد التياها).
وأبو زيد هو عبد الرحمن فريج، من قبيلة (التياها)، ومولود في عام 1989 في مدينة (نِخِل) القائمة بشموخ في وسط سيناء.
و(نخل) مدينة لها تاريخ ممتد في عمق الزمان بحيث يصعب تحديد بداياته؛ فقد كانت هي المنزل الخامس للحجاج القادمين من مصر، وتمثل محطة رئيسة في درب الحج الشهير. وقد ظلت (نخل) عصرًا طويلا عاصمة لسيناء كلها قبل أن تجور عليها الحرب العالمية الأولى؛ فتُصبح العريش هي العاصمة.
والسكان المحليون يعللون اسمها هذا بأن فيها ترابًا يشبه نخالة الدقيق، ومنه أخذت (نخل) اسمها. لكن الأمر يبدو أعمق ثقافيًا وتاريخيًا من هذا التعليل الشعبي؛ فإن المستشرق الأستاذ (بالمر) يذكر لنا أن "وادي العريش هو (نهر مصر) المذكور في سِفر أشعياء والكتب المقدسة الأخرى". ثم يضيف أن "الأصل العبري لهذه التسمية nakhlmisraim)) لا يزال موجودا في قلعة نخل". وحديث (بالمر) يؤكد أن هذه البلاد هي بلاد عتيقة، ومعتقة أيضا.
أما قبيلة الشاعر (التياها)، فإنها تضرب بسهم بعيد في أعماق تاريخ القرون الوسطى، ذلك أن أصل هذه القبيلة يعود إلى قبائل (الهلالية) الذين مروا حوالي عام 440 هـ من هنا، من سيناء التي فضلها بعضهم على (التغربية) واختارها موطنًا له. وإن جد التياها آثر الإقامة في سيناء، منذ متى؟ قبل ألف عام!
هذه نبذة أرى أنها ضرورية للإشارة إلى أصالة المكان وعبق الصحراء، وأصالة الإنسان وقدرته على جعل الصحاري مكانًا يصلح للعيش، ويفوح بالأريج!
وإن هذه العوامل كلها انطبعت في نفس الشاعر الشاب؛ فجادت بها قصائده التي تنطق بالقيم العليا والمبادئ الراسخة والتقاليد الشريفة العالية والقوة الصلبة الشامخة التي كانت سلاح الإنسان في ترويض الصحراء.
وحين نتحدث عن الشعر البدوي في سيناء؛ فإن قبيلة الشاعر تتبوأ مكانا عليًّا في هذا الميدان. أوليس الشاعر الأستاذ مصلح بن عامر أحد أبنائها؟ أليس هو من أقدم شعراء بادية سيناء؟ لقد وُلد الأستاذ عام 1913 وتخرج في الجامعة أثناء فترة الخمسينات؛ ليكون الشاعر المبدع المثقف ذا المكانة المرموقة شعريًا واجتماعيًا في سيناء كلها. ومن هذه القبيلة الشاعر الكبير حسين بن عامر، وهو علامة مؤثرة في مجال الشعر التقليدي، أمد الله في عمره! ومنها الشاعر الجميل أبو يحيى التيهي أبرز الأصوات المجددة في شعر بادية سيناء، ولا تخلو قبيلة التياها من مواهب صاعدة أبرزها أبو زيد، صاحب هذا الديوان.
ولكي نضع شعر أبي زيد في مكانه من حركة وتحولات القصيدة البدوية السيناوية، ينبغي أن نشير إلى جيلين من الشعراء الذين يمثلون مذهبين فنيين مختلفين. والحديث هنا يدور حول شعراء القصائد فقط؛ فإن للشعر في سيناء فنونًا كثيرة وفيرة.
الجيل الأول هم الرواد الأعلام الكبار، وأقدمهم الشاعران: فرج سليمان الرميلات، وضيف الله سالم الأحيوات. لا نعرف تاريخ مولدهما، لكننا نقرأ بعض إنتاجهما لدى (نعوم شقير) قبل 1906، وقبل أن يولد باقي الشعراء المؤسسين: الأستاذ مصلح التيهي، وعنيز أبو سالم الترباني، وسليمان الزيت القراشي، وسلمي الجبري الحويطي، وفرج أبو خالد العيادي، وغيرهم من القبائل كافة.
من هذا الجيل أخذ أبو زيد محاور كثيرة من محاور بناء القصيدة، يظهر ذلك في ابتدائه القصيدة بذِكر القلم وأدوات الكتابة، وفي ختامها بالدعاء، أو الصلاة والسلام على النبي الكريم.
كما أنه يترسم خطى الأعلام الكبار في قصائد النصح والحكمة والفخر بالقبيلة ووصف الركوبة ووصف رحلة الصيد وسائر شئون حياة البادية وصفًا دقيقًا أمينًا. فضلا عن أن جُل قصائده نُسجت على البحر القديم المأثور، بحر المسحوب.
أما الجيل الثاني فهم المجددون، ولا أريد أن أذكر منهم أحدًا حتى لا أنسى منهم أحدًا، وكلهم أصدقاء. وقد سار أبو زيد مسارهم وصنع صنيعهم في طَرْق بحور شعرية جديدة، مثل بحر الرمل، وبحر الرجز، على سبيل المثال لا الحصر. كما تأثر بهم حين نحا بالتعبير منحًى ذاتيًا يصور خوالج النفس ودفقات الشعور، وإن كان هذا الملمح الأخير قليلا؛ فإنه موجود، وإنّا نرجو الشاعر أن يستهدفه في قادم إنتاجه، وهو قادر على إجادة هذا المذهب.
على أن أهم مصادر شعر أبي زيد هو تأثره بصديقه وابن قبيلته ومثله الأعلى، وأستاذه ربما، وأقصد به الشاعر أبا يحيى التيهي؛ فإن الشاعر يجاريه في هذا الديوان، ويتأثر به، ويرسل إليه قصائد، ويذكر اسمه غير مرة. وكثير من قصائد الديوان تشهد بذلك.
إن في بادية سيناء لهجات متعددة بتعدد القبائل؛ فقد يختلف نطق قبيلة لبعض الكلمات عن نطق قبيلة أخرى. من هنا وجدتُ صعوبة في ضبط الكلمات، وراجعت الشاعر نفسه أكثر من مرة، فيُرسل لي البيت في تسجيل صوتي. أو كنت أسال الأستاذ محمد عبد الكريم ترابين؛ فكان يسعد بسؤالي ويفتيني عن علم وبصيرة. لكن مجمل القول أن القارئ قد يستغرب وزن بعض الأبيات؛ لأنه ينطقها نطقًا مخالفًا لما نطق به الشاعر.
والحقيقة أن هذه قضية مهمة من قضايا شعر بادية سيناء، وحتى الآن لم يلتق شعراؤنا حولها على كلمة سواء؛ فالشاعر أبو نوره المسعودي يرى أن تكون للشعر لهجة موحّدة بقدر الإمكان. والشاعر إبراهيم فايد السواركة يفضّل أن يحافظ كل شاعر على لهجته الخاصة؛ تنويعًا لروح القصيد وإثراءً للحصيلة اللغوية.
في نهاية هذه المقدمة، يجب أن أشيد وأشير إلى حب أبي زيد للشعر، وتفانيه فيه، وحرصه على أن يتعلم. لقد أنفقنا ليلة كاملة – هو وأنا – في ضبط قصيدة بالمراسلة عن بعد؛ فهو في نخل وأنا في العريش.
ولا يفوتني أن أشد على يده، وأن أحاول دفعه إلى السير قُدُمًا ليقطع مسافات أبعد في أرض الشعر الشاقة الممتعة؛ فهو موهبة وإرادة تستحقان الثناء. وليكن الختام ببعض الصور الجيدة التي تبشّر بمولد شاعر شاب نرجو قريبا أن يكون كبيرا. يقول:
سـلام الـلـه عـلـى وقـتٍ مضى كنّه سبـاق ارقــام
ويقول:
وكتبت للغيداء جملة أساطير
مضمونها يجلى عن الروح علة
نقشت له قيفان ع صخرة البير
تشرح غلاة اللي بقلبي محله
ويقول:
وزوّد له البنزين يا القرم تزويد
ولا تعجل عند نقلة غياره

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى