رائد الحواري - رواية زمن الخراب والتباين مع الأدب السائد

مقالات في أدب محمود شاهين (11/1)



الكاتب يعرف روايته ب"رواية فكرية تاريخية اجتماعية" وهذا ما يجعلنا نتعاطى مع الرواية ضمن هذا التعريف، ومن يتابع الأعمال الروائية "لمحمود شاهين"، سيجدها أعمالاً تتباين مع ما هو سائد، فهو يعتمد على (الرواية الفكرية) التي يقدم من خلالها أفكاره ورؤيته عن الحياة والوجود والخلق والخالق، لكنه يبقى محافظا وملتزماً بطبيعة وشكل الرواية.

واللافت في الرواية أن الكاتب هو نفسه السارد، وقد أشير إلى هذا الأمر في أكثر من موضع في الرواية، فهو يزيل التباين بين الكاتب والسارد، ويجعلنا نتحدث بوضوح عن الكاتب وليس السارد، والأرض/الجغرافيا التي ينطلق منها الكاتب هي (عمان) ولكنه يستحضر دمشق والقدس في أكثر من موضع، وإذا كانت "عمان، دمشق" مدينتين عامتين للجميع، فإنه يتحدث عن المكان الخاص، البيت، الذي لم يكن فقط للمنام والراحة بل كان المرسم للوحات الكاتب، والمكتب لرواياته.

والرواية تتحدث عن أفكار غير مألوفة لنا، والتي سنأتي على تناولها لاحقا، كما أنه يقدم موضوعا اجتماعيا نفسيا (علاقة جنسية بين الأب وابنته) ويعالجه بطريقة غير معهودة، فبدا الكاتب وكأنه طبيب نفسي، استطاع أن ينهي تلك العلاقة المحرمة والشاذة ـ رغم طول الزمن الذي مُورست فيه، ورغم أنها أصبحت عادة عند الطرفين ـ من هنا نقول أننا أمام زمن الخراب، خراب المجتمع والحكومات وخراب الأفراد والأسرة.

المكان

كل من هجر من وطنه مكرها يبقى المكان عالقا في ذاكرته ووجدانه، وهذا الأمر أصبح سمة الأدب الفلسطيني، الذي يكاد أن يكون (ذكر وحضور المكان) عاما في كل ما ينتجه الفلسطيني من أعمال أدبية، قبل أن يلحقه الأدب العراقي والسوري، والكاتب يجمع بين ارتباطه بالمكان العام، المدينة، وبين المكان الخاص، البيت، فهما يأخذان عين المكانة والأهمية: "لم يفكر حتى حينه في ترك بيته مهما حدث، كان يفضل الموت على مغادرته، ففيه يكمن نسيج روحه ودفق مشاعره وأحلامه، عقله، ذاكرته وذكرياته، مؤلفاته ومخطوطاته، لوحاته ومنحوتاته، تحفه ومقتنياته، مكتبته الهائلة الزاخرة بأهم الكتب التي يحتاج إليها، ...دمشق المدينة التي فضل العيش فيها على أجمل مدن العالم، هل سيترك دمشق؟ محال! بل مستحيل.

.. آه يا دمشق، آه يا حزني الكبير، كانت دمشق بالنسبة إليه أمه بالرضاعة، كما كان يقول في بعض حواراته الصحفية، أما ا القدس فلم تكن إلا أمه بالولادة، لكنها لم ترضعه قطرة من حليبها، ولم يعرف طعمه، رغم محبته لها.

دمشق هي من ألقمته ثديها منذ أن لجأ إليها، ومنحته كل حنان الأمومة، وأغدقت عليه معرفتها الشاملة، حتى كونت شخصيته" ص4 و5، مقطع ليس بحاجة إلى تفسير/توضيح مكانة دمشق وعلاقة الكاتب/السارد بها، فقد أعطاها صفة الأم، وهذا لوحده كاف لتأكيد العلاقة الوطيدة التي تجمعهما، كما أنه يتحدث عن بيته، مرسمه، مكتبه، مكتبته، فالعلاقة حميمة ووطيدة، وفي نفس الوقت علاقة متنامية، فدمشق هي من صقلت وساهمت في تشكيل وبناء شخصية "محمود أبو الجدايل".

والكاتب لا يتعاطى مع المكان من الخارج، بل انه يعرفه بكل تفاصيه وأزقته: "خرج من عند الصراف ليعود إلى البيت، ولم يعرف كيف وجد نفسه يسير في اتجاه المسجد الأموي، مع أنه كان يجب أن يسير في الاتجاه المعاكس، حتى لم يدر وهو يجتاز الحريقة ويدخل البزورية مارا بقصر العظم، أنه يودع الأماكن التي عاش فيها وألفها، وربما يودعها لآخر مرة" ص10، اعطاء مثل هذه التفاصيل لم يأتي من عبث، بل جاء ليؤكد ـ العقل الباطن ـ للكاتب، العلاقة التي تجمعه/تربطه بالمكان، واعتقد أن استخدامه في هذا الفصل صيغة السارد/الآخر وليس أنا المتكلم تؤكد على هذا الأمر، فالكاتب لم يستطع أن يتحدث عن نفسه ـ كما هو الحال في بقية الفصول التي تتحدث/تتناول الأحداث، لكنه فقط عندما يتحدث عن المكان يستخدم صيغة السارد/الآخرـ لهذا وجد الحديث عن (الآخر) يمنحه شيء من الراحة والقدرة على كتابة ألم مغادرة دمشق والبيت.

وهذا ما أكده لنا في هذا المشهد:"...رغم أنه طوال عمره يحس ويعيش الحياة كفلسطيني، إلا أنه ولأول مرة راح يشعر بأردنيته، في مقابلات صحفية معه كما سبق، كان يذكر دمشق أكثر مما يذكر عمان "إذا كانت القدس أمي بالولادة فدمشق أمي بالرضاعة، فقد عشت فيها أكثر من أربعين عاما كونت فيها ثقافتي وشخصيتي وكتبت مؤلفاتي ورسمت قرابة عشرة آلاف لوحة، ولم أعش في القدس إلا قرابة عشرين عاما في بداية عمري، أما عمان فلم أعش فيها إلا أقل من ثلاثة أعوام"ص23، في هذا المقطع نجد استخدام صيغة السارد/الآخر وصيغة أنا المتكلم، وهذا يعود إلى الكاتب بعد أن غادر دمشق، لم يستطع أن يتحدث عنها بحيادية، فاستخدم صيغة السارد/الآخر، واقتبس من حديث صحفي، ما يشعر به تجاه الأمكنة، فجاءت المعلومة وكأنها غير متعلقة مباشرة بالكاتب، بل ضمن سرد السرد، وبهذا يكون "محمود أبو الجدايل" قد كشف علاقته الحميمة بدمشق، بطريقة مباشرة وغير مباشرة، بحيث تصل الفكرة للقارئ من خلال السرد، ومن خلال شكل وطريقة تقديم السرد.

عمان لم تكن دمشق، فالمدينة الغارقة في القديم، ليست مثل المدينة الحديثة، فأصحاب الدكاكين وسكان الحارات في دمشق القديمة كلهم يعرفون "محمود أبو الجدايل" ويعرفهم، لكنه في عمان غريب/دخيل:"أمضى محمود قرابة ساعتين دون أن يبيع شيئا .. أعاد اللوحات إلى حقيبتها وانصرف يجر شيخوخته وثقل أحزانه ولوحاته، بخطى متهالكة وصوت يصرخ في دخيلته:

"متى تدرك أنك مشرد في عمان ولم تعد في دمشق، متى؟" ص65، وكأن السارد يؤكد على تباين عراقة المدن، فدمشق التي يعمها السواح والمهتمون بالفن، تفتدها عمان، واللافت أن السارد عندما يريد أن يتحدث عن ألم مفارقة/الابتعاد عن المكان يستخدم صيغة السارد، وكأنه بهذا يريد أن يفصل/يبعد نفسه عن "محمود أبو الجدايل".

"شعر بأنه بحاجة لأن يمشي، لعله ينسى أو يتناسى ما يحدث في سوريا، لعله ينسى بيته الجميل في دمشق، البيت المتحف/ الأقرب إلى قلبه من كل بيوت العالم لما يحويه من فنون وتحف ومؤلفات ومكتبة زاخرة بالكتب القيمة" ص77، هل لهذا التكرار من مبرر؟ أم أنه جاء (زخرفة) زائدة للرواية؟، كما قلنا في البداية، إن العلاقة التي تربط الفلسطيني بالمكان علاقة غير عادية، فهو يجد نفسه وكيانه في المكان، بصرف النظر أن كان هذا المكان في فلسطين أو في دول الجوار، فهو والمكان الروح والجسد، لهذا نجده دائما يستحضره ويستعين به ليتجاوز أزمته، فندب المكان وحال الذي وصل إليه بطل الرواية، يمنح السارد/الكاتب شيء من الراحة ليكمل روايته، عمله الأدبي، من هنا نجد (تكرار) الندب والحسرة على البيت ودمشق.

الكاتب يستخدم الخيال في الرواية، وهو يعترف بأنه بالخيال يهرب من الواقع، فكلما تضيق عليه الحياة والمحيط يتجه إلى العالم المتخيل، لكنه أيضا في عالم المتخيل (يهذي بدمشق): "...وهامت في الكواكب الإنس أرواح وانتفض في الأجداث رميم العظام، وأطل على الأكوان نور نبي وأشرق في السحاب وجه يسوع وخيم على السماء جلال العذراء، وهتفت باسم دمشق الجراحات... فالتعجت في جروح دمشق اللواعج واعتلج في قلوب الملحدين المؤمنين والمؤمنين الملحدين اللعاج" ص105، إذن دمشق حاضرة حتى في هروب الكاتب من واقعه، وهذا ما يجعلنا نقول أن المكان/دمشق والكاتب هما كائن/جسد واحد، لا يمكن الفصل بينهما.

انتماء الفلسطيني وتعلقه بالمكان وبمن قدموا له العون لا يمكن أن يكون عابرا، حتى في حالة الفرح والنشوة نجده يستحضر الذين عاش بينهم ومعهم، عندما يكون "محمود أبو الجدايل ولمى" في جلسة ملوكية في احد متنزهات البحر الميت، وتحضر لهما مائدة ملوكية تكفي لعشرين شخصا، نجد "محمود أبو الجدايل" يستذكر سوريا وأهل سوريا: "أتذكر المشردين والفقراء، كلما عشت لحظات مترفة، وحزين جدا على الشعب السوري، لا استطيع أن أنسى مأساته، أصبحت تقلقني أكثر من المأساة الفلسطينية" ص293، وأجزم أن هذا الموقف يتجاوز الموقف (الإنساني) فهو يؤكد على اجتماعية أبو الجديل وانصهاره في المجتمع السوري، حتى أن الألم الحاصل الآن للسوري جعله يقدمه على وجعه وألمه القديم، ألم فلسطينيي الذين ولدو في فلسطين وانتموا إليها، هذا هو الفلسطيني وهكذا هو انتماؤه.



الفلسطيني

هناك مأساة للفلسطيني/للكنعاني تكررت منذ آلاف السنين، فكلما يأتي الخصب/البعل يلحقه الموت/يم ويزيل الخضرة عن الأرض ويحزن الناس، وكلما أنجز عملا يتبعه الخراب، يلخص لنا "محمود أبو الجدايل" هذه المأساة: "البطل الفارس، الذي يحارب بشجاعة ويحقق الانتصارات، لكنه يهزم ويستشهد في النهاية، وكأن القدر قد رسم له مسبقا هذه النهاية التراجيدية، وهذه هي حال البطل الفلسطيني بدءا من جليات التوراتي وانتهاء بياسر عرفات" ص26و27، فهو بهذا المقطع لخص تاريخ فلسطين ومسيرة الثورة الفلسطينية، منذ ثورة الظاهرعمر وحتى الآن، فرغم العطاءات العظيمة والانجازات، إلا أن النهاية تكون محزنة وبائسة، "فأبو الجدايل" الذي كان أحد أعلام دمشق ويعيش بواقع طبيعي/عادي ها هو نكرة في عمان، يعمل ليتقي شر التشرد والجوع، فالبناء والانجاز اللذان تحققا في دمشق انهارا، وكان عليه أن يبدأ من الصفر، هذا حال الفلسطيني/الكنعاني.

الأم والأب

غالبية الكتاب يقدمون الأم بصورة جميلة/ايجابية، بينما يقدمون الاب بصورة سلبية، أو يغيبونه ويهملون حضوره، "محمود أبو الجدايل ولمى" يؤكدان على هذا التقديم: "آه يا تعبي! آه يا أمي التي لم أرها منذ تهويد القدس! آه يا أمي التي رحلت دون أن أراها، دون أن تراني! ماذا سأفعل بحق السماء؟" ص17، الكاتب يستعين بأمه من خلال تذكرها وتذكر الألم الذي حصل له ولها، وهذا يشير إلى تعلقه ومحبته لها.

وهذا ما جاء حتى في التخيل، عالم الخيال: "همست الملكة له متسائلة عما بقى في ذاكرته، أجاب أنه لا يستطيع أن ينسى الحزن ووجه أمه" ص92، فالأم حالة خاصة واستثنائية بالنسبة ل"محمود أو الجدايل" فهي دائمة الحضور والذكر.

أما لمى فتحدثنا عن تفاني امها في العطاء فتقول: "..أمي الحبيبة يا محمود دمرنا أنا وأبي حياتها.. ضحت بنفسها، وكانت ترفض الذهاب إلى المستشفيات أو مقابلة أطباء حتى تسترعلينا ولا تفضح عارنا" ص285، بهذا العطاء كانت الأم.

بينما نجد الأب يقدم بصورة سلبية، تتمثل بقسوته وشدته: "...منذ أن أخرجه أبو الجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع الغنم" ص143، فالأب هنا لا يهتم بتعلم "محمود" ويجبره على رعي الأغنام، وقسوة الأب لم تقتصر على الأب فقط، بل طالت الأم أيضا التي كانت تعمل في الحقل وهي حامل بوليدها وفي شهرها: "كانت أمه تحصد في الحقل برفقة أبو الجدايل الأب وآخرين، حين داهمها المخاض"ص57،وتقدم لمى مأساتها مع ابيها بقولها: "...كم كنت أتمنى لو استطيع أن اقتل الرغبة الجنسية إلى الأبد، وأن اقطع فرجي وعضو أبي أيضا" ص285، بهذا يكون الأب يمثل القهر والسطوة، بينما تمثل الأم العطاء والحب.

يتبع.

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى