د. سامي عبد العال - الشرق والغرب: الاختلاف الأنطولوجي

ظلت مقولتا ( الشرق والغرب) بمثابة طرفي أرجوحة ثقافية، تتأرجح عليها الآراء والأقلام والأفكار ردماً للهوة أو زيادة المسافة بين طرفيها. فهناك من يرى أنَّ "الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيان "، بينما هناك من يعتقد في شيءٍ آخر آملاً بوجود وشائج إنسانية ومعرفية بين الطرفين. إذ يتم ذلك التقاربُ، مرةً على إثر التأثيرات الحضارية والتبادل العالمي للثقافات السائدة، ومرةً أخرى بناءً على عبور الترجمات من الغرب( اليونان ) إلى الشرق ( العرب )، ثم عبورها ثانيةً من طرف العرب إلى الغرب اللاتيني في نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة الأوروبية. ومرةً ليست بالأخيرة عندما عَمدَ الغربُ إلى الدراسات المتخصصة في الشرق ( الاستشراق ) ليُواجه بعضُنا ذلك بإطلاق ما يُسمى بعلوم الاستغراب كنوع من الموضَّعة للآخر ليس أكثر.

لعلَّ محاولات إيجاد صيغ للتفاهم ( الحوار، التقارب، التواصل، الاتفاق، التشابه...) بين الشرق والغرب جديرة بالعناية والمتابعة، لاسيما إذا كانت المحاولة بعيدةً عن الإطار الخطابي التقليدي، كما أنها مهمة بمقدار ما تجد أفقاً جديداً لهذا التفاهم، ذلك أنَّ أمر تلك الصيغ لا يخلو من جملة أشياء:

أولاً: لا تنفصل محاولات تفهم وضعية الشرق والغرب عن متن الثقافة التي تنطلق منها، وتمثل بُعداً لرسم حدودها، وتعين تمثلاتَّها تجاه الآخر والغائب والمختلف على كلا الطرفين.

ثانياً: هناك مفاهيم وأفكار ضمنية، يجري طرحها حول الشرق والغرب معاً، تبلور كيفية التفكير في القضايا المتعلقة بالحضارة والواقع والإنسان. بحكم أنها قضايا تقف في المناطق المتنازع عليها حضارياً أو المناطق المشتركة. ولا تخلو حضارة من مناطق رمادية غير قابلة للحسم.

ثالثاً: عادةً ما تحضر ( جوانب التاريخ ) في تفاصيل تلك الصيغ، ليشكل حضورها الثقافي خلفية حاسمة في تفسير المعطيات التي تستند إليها، ويزداد هذا الحضور قوة، إذا علمنا أنَّ الصيغ تتبنى بوضوح إعادة تأويل التاريخ، وإبراز الأفكار التي تدعم الصيغة المطروحة.

رابعاً: لابد من تثبيت أرضية مشتركة يقام عليها التفاهم بين الشرق والغرب، لأنه دوماً يحتاج إلى استحضار لأسباب وجوده، والإلحاح عليها، والتذكير بها من حين لآخر. وقد تكون تلك الأرضية أنطولوجية، أخلاقية، إنسانية، معرفية، أو غيرها.

خامساً: لا تضمن تلك الأرضية المشتركة مواصلة التماسك بالنسبة لهذه الصيغة أو لتلك المحاولة، لأنها كما وجدت بفضل تأويل معين للتاريخ، الذي يحمل دلالات العلاقة بين الشرق والغرب، فإنها يمكن أن تنهار بذات الطريقة، أي يعاد إبراز جوانب تاريخية محل تأويل آخر.

سادساً: يتضح من خلال الأرضية المشتركة أنَّها تؤسس فعلها على مستويات أخرى الوجود. والمفارقة البادية أن هذه المستويات لا تخضع بدورها لمفاهيم تلك الأرضية المتخذة كذلك، مما يجعلها مختلفة في ذاتها. بطريقة أخرى سيكتشف القارئ أنها أرضيات متباينة، وليست مشتركة لحمل العلاقة بين طرفين كبيرين، بكل زخمهما التاريخي المعقد.

سابعاً: قد تنتهي العلاقة بين الشرق والغرب إلى مصير الإختلاف، لأنَّ الاختلاف بمثابة قانون وجود طالما أن الكيانين المتحدث عنهما لهما هذا الزخم الثقافي والإنطولوجي. فيكون الإختلاف بمثابة الخلفية الكبيرة التي تفرز وجود الإنماط والرؤى والحيوات بالتبعية.

إذا كانت تلك مبادئ إجمالية، أو لنقل إجراءات نسبية قابلة للتأويل، فإنني سأحاول تقديمها في قراءة الآراء المطروحة حول تلك المسألة الثقافية، ولاسيما الرأي الذي يقول بوجود علاقة وثيقة بين الشرق والغرب إستناداً إلى مفاهيم الأنطولوجيا(1). وهي قراءة تمارس الإجراءات السابقة بشكل أو آخر. لا تصنف المعطيات التي تتوفر لعلاقة الفكر الشرقي بالفكر الغربي، أو تدرج هذين الطرفين في فئتين منفصلتين، يترتب عليهما نتائج فئوية متتابعة، كبعض المحمولات الثقافية التي تُصاغ في ضوء دلالات بعينها، كما سنعرف لاحقا، حين تفرد معالم بعينها للغرب أو للشرق دون أية معالم أخرى. فليست الفئات( إنْ صح طرحُها ) رياضيةً هنا، تحسب نسب الانحراف والتباين أو حتى التماثل، لكنها فئات أيديولوجية لا محالة، بالدلالات نفسها التي يرجعها البعض إلى الحضارة الغربية ( مثل دلالة التفكير والمنطق والإبداع ...) والدلالات الأخرى الراجعة إلى الحضارة الشرقية ( كدلالة التأمل والشعر والفن والسحر والدين ...).

إنها فئات أيديولوجية على نحوٍ غير مباشر حين تصبح قاطعة ووظيفية، بحكم التعميم الشديد بالنسبة لمقولتي الشرق والغرب، وإثبات التناقض الخلفي بينهما، رغم أن الهدف المعلن للبحث والتقصي من أصحاب هذا الرأي هو صياغة الاتفاق. ولذلك بحكم سلب الاختلافات الثرية بين طرفي العلاقة، التي لا تتقرر في المباعدة الساذجة بين الشرق والغرب كما قد يُفهم من كلامي، فالمسألة بالتحديد كالتالي: ما الذي يجعل الشرق شرقاً أياً كانت محمولاته الثقافية والغرب غرباً كذلك بالمنطق نفسه، وذلك يصح بالنسبة إلى أي متغيرين (طرفين) مكانهما؟

وهي المسألة التي طرحها الرأي القائل بالإتفاق مبدئياً بهذا الوضع: ما الذي جعل الشرق غرباً والغرب شرقاً؟ لذلك انخرط الرأي السابق بالتوجه ذاته في تدشين الأرضية المشتركة التي تضمن الانتقال بين حدود كافة القضايا المترتبة عليها، أي تحديد الأنطولوجيا ومعرفة جذورها التقليدية المشتركة. ذلك على افتراض أن هناك أفكاراً في هذا السياق أخذها أصحاب الرأي مأخذ المسلمات وتتلخص في:

- وجود وحدة أصيلة ذات طابع فلسفي، انبثقت عنها ثنائية: الشرق- الغرب ومتعلقاتها اللاحقة التي تداعت تاريخياً.

- أن تلك الوحدة تعينت في شكل الأفكار الأنطولوجية، كأحد وجوه الفلسفة بجانب (الإبستمولوجيا – والأكسيولوجيا).

- أن التركيز على هذا الشكل وفهمه وتبيان حقائقه أمور كفيلة بردم الهوة بين أطراف الثنائية المعروضة للنقاش( الشرق – الغرب).

- أن التراكم التاريخي لمعاني الشرق والغرب عبارة عن إزاحات متتابعة على ذاك الأصل البعيد.

- إذا توصلنا إلى أية صيغة للتفاهم بين الشرق والغرب، فأساسها هو المشترك (المتصل) الأنطولوجي، الذي يحمل المتصل الثقافي بعد ذلك.

- أنَّ العودة إلى الأرضية المشتركة، وهي الأنطولوجيا هذه المرة، تشكل المهمة الأولى لتمتين العلاقة بين الشرق والغرب.

ويُرجَّح بعد خلفية كهذه أن الأنطولوجيا لا تعد " أرضية مشتركة " بتلك الوصفة السحرية، بالتالي ليست الأنطولوجيا متصلاً قوياً لحمل العلاقة المفترضة بين الشرق والغرب، لأن الأنطولوجيا على ما سنحاول إثباته وسيط اختلافيmedium differential بالدرجة الأولى. بمعنى أنَّ فكرة الأنطولوجيا فلسفياً مؤسسة على مستويات أخرى: معرفية، أو دينية، أو ثقافية...، والسؤال المنطقي من ثم: هل يمكن مناقشة الاتفاق بين طرفين (كغاية، كمستقبل، كمتصل أنطولوجي) جرياً مع وسائط الاختلاف؟ وهل يمكن للمناقشة أن تتم على افتراض أن هناك اتفاقاً ممتداً فيما هو مختلف، بل قد تأرّخ بهذا الاختلاف؟

إذن أمام القول بالاتفاق بين الشرق والغرب من تلك الزاوية، لابد من التأكيد على مفاهيم الاختلاف الأنطولوجي شرقاً وغرباً. وأنَّ ما بُني على الاختلاف، فهو مختلف بالضرورة وسيدفعنا إلى تناقضات لو حاولنا إيجاد قواسم مشتركةٍ على نحو تام. وعليه فإنه سيتباين بالتبعية ما قد شُيد فوقه( أي الاختلاف) من ثقافات ومعارف وأنماط العيش والحياة. فالشرق شرق والغرب غرب، وما محاولة الجمع بينهما على هذا المنوال إلاَّ نوع من " القهر الأنطولوجي" الذي يخفي تأسيسات فلسفية غير معلنة.

تأسيس لاهوتي theological:
مع أن الرأي المذكور بعيد تماماً عن تبنى مرجعيةٍ لاهوتيةٍ، إلاَّ أن ما يتضمنه يتأسس لاهوتياً داخل المعالجة الكونية التي طرحها. لايتم ذلك في الإطار العام، ولا في المسار الأنطولوجي فقط، بل يتحدد بذات الدرجة في المفاهيم والتصورات. لربما لم يقصد الرأي هنا هذا الأمر بعينه، من خلال اللغة الفلسفية "الفنية" التي صيغت بها أفكاره المعبرة عن الأنطولوجيا. لكننا نعرف، كما يرى "كارل يونج" في كتابة "سيكولوجيا الدين" (psychology of religion )، وهو ما أكّدَ عليه "ميشيل فوكو" و"أمبرتو إيكو"، بأن التأسيس اللاهوتي من التأسيسات القابلة للتكرار في تجارب عديدةٍ، لأنه تأسيس مُؤصِّل في (تاريخية) اللغة المعبرة بها، وإن كانت فلسفيةً خالصةً. فإذا وردت هناك تجارب (خطابات) جديدة، سرعان ما يخضعها التأسيس اللاهوتي للتكرار، بل ويعيد تأسيسها على شاكلته ضمنياً(2).

أما إحداثيات ذلك الاتجاه، فهي كالتالي:

اختارَ القول بأن فلسفة الأنطولوجيا ومفاهيمها تمثل خلفية مشتركة أساسية للشرق والغرب، لا ليوضح على أثرها ما هو مشترك بين الطرفين فحسب، إنما ماهو متفق بينهما على نحو كامل تقريباً. والأنطولوجيا( بحكم كونها خاضعة لثنائيات الأفكار الميتافيزيقية حول المعرفة والوجود كالذات / الموضوع، الفكر/ المادة، الجوهر/ العرض، والعقل/ الجسم) لاتخلو من دلالات لاهوتيةٍ، كما أشار "هيدجر" إلى ذلك في مصطلحه المعروف: "الأنطوـ ثيولوجيا" (onto-theology)، فقد تحددت الأنطولوجيا تاريخياً، وأخذت معالمها ارتباطاً بالبعد اللاهوتي، ولاسيما المسيحي في القرون الوسطى، وظلّت منقسمةً على نفسها ما بين التحديدات الميتافيزيقية والتحديدات اللاهوتية(3). لذلك لم يستطع البحث التخلص من ذلك الطابع اللاهوتي، لدرجة أنه ينضح به من خلال شروحاته.

ينطبق ذلك التوجه أيضاً على الأنطولوجيا في الشرق منذ البوذية والكونفوشيوسية، مروراً باللاهوت الفارسي (كما يؤكد "إقبال" في كتابيه: "الميتافيزيقا في إيران" و"تجديد الفكر الديني في الإسلام" ) ومروراً كذلك بالعصر الإسلامي الوسيط (الطبيعيات والكونيات والأشياء المادية في علم الكلام) وانتهاءً بـ"عبد الرحمن بدوي" (وإن اعتبره البعض مفكراً أصيلاً في هذا المجال، وهو كذلك بخاصة في كتابه "الزمان الوجودي")، و" أدونيس " على الرغم من تخلصه من الذهنية اللاهوتية شعرياً كما هو واضح منذ رسالته العلمية الشهيرة " الثابت والمتحول " بأجزائها المتعددة، وإنْ استعاد ذهنيته اللاهوتية ثانية في "الصوفية والسوريالية"(4).

المهم أنَّ طرح قضايا الشرق - الغرب الحضارية، حتى وإن كان هنالك اتفاق خلفها، سيُلحق بالتحليلات هذا الارتباط بالدلالات الخاصة للأنطولوجيا بمقدار ما ترتبط باللاهوت، وسيدفع اللغة والنصوص المنتقاة في البحث لأن تتقارب على المستوى الأعلى ( اللاهوتي/ التمركزي )، فتبدو كما لو كانت متجانسةً، بينما هي شديدة الاختلاف.

إنه وضعٌ يفترض أن يلتزم الاتجاه المشار إليه أسلوباً انتقائياً مثلما حدث في أغلب الحالات، وقد سرى هذا بصدد تعامله مع المذهب الفلسفي الواحد ( كفلسفة "هيدجر" على سبيل المثال )، إذ انتزع بعض العبارات الهيدجرية لتأييد وجهة نظره القابعة في الأعلى. في الأعلى غير المرئي للتفكير إلاَّ بسلطة دلالة العنوان (الأنطولوجيا) (5)، فتتقرر في الأفق صحتُها، وأنها طوع التحليل وهي ( أي وجهة النظر) ليست كذلك في القضايا المستشهد بها. يصح هذا الحكم على مجمل الرأي المطروج، حين يقرر بشأن التقاء خطي الفكر ( الغرب ) والتأمل ( الشرق ) أنه "ربما كان الفكر والتأمل كالخطين المتوازيين لايلتقيان رياضياً أو علمياً ولكنهما يلتقيان في العمق أو في السمو الفلسفي".

لكن كيف يلتقي الخطان المتوازيان عند نقطة معينة أو غيرها؟ وبأي معنى سيلتقيان مستقبلاً؟ وأين هذا السمو الفلسفي؟ وما صيغته؟ ولماذا يعتبر هذا السمو الفلسفي مناطاً للاتفاق والالتقاء ولا يعدّ باعثاً على التناقض والاختلاف؟ إن مجال اللاهوت هو الذي يجمع داخله المتناقضات، لأنَّ قاعدة الإيمان تعطيه غطاءً واقياً ضد أي تباين، بالتالي يتحول التناقض إلى تسوية قابلة للتحقق عبر أسماء أخرى (العمق أو السمو الفلسفي أو العلو الميتافيزيقي ). على سبيل المثال هناك فكرة تجسد الإله في شخص إنسان: أي حلول اللاهوت في الناسوت باصطلاحات المسيحية، وغيرها من الاتجاهات الصوفية، وفي حالة بعض العقائد الوضعية. فالجانب الإلهي والجانب الإنساني معروفان، غير أنَّ فكرة الإيمان بإمكانها إدماج الجانبين دون تناقض منطقي أو اختلاف بنيوي. وقد كانت العلاقة بين اللاهوت والناسوت من الأسرار الخاصة بالايمان المسيحي.

في هذا الإطار يواصل الاتجاه السابق التأكيد على الأنطولوجيا بلغة لاهوتية حيث يستنتج بأن الوجود هو المطلق، وهو المعنى الكلي بالانسبة للإنسان: "ثمة وجود لاغير وليس هناك أي فراغ. فالوجود هو الوجود بذاته وهو واحد موحد. ولا يوجد فيه أية أساسيات فيما عداه نفسه لأنه علة ذاته..."، وفي موضع آخر يؤكد أيضاً أصحابه القول بأن: "الوجود، وفق " بارمنيدس"، لا يتفكك ولا يتفتت وهو مغلق على ذاته، لا يوجد مركز في أي مكان والأطراف في كل مكان، الوجود ليس مولوداً...". والسؤال: هل هناك لغة للاهوت سالب (negative theology ) أنقى من تلك اللغة لوصف الوجود الإلهي، وليس الوجود بما هو موجود أرسطياً أو غيره، ولا حتى الوجود منسياً كما في الخطاب الهيدجري؟. أخطر ما في هذه المعالجة الأنطولوجية ـ اللاهوتية أنها أقرّت أشياء ضمنية داخل البحث، سرعان ما ترسبت على هيئة مواقف غير متماسكة فلسفياً، وقابلة لطرح آراء مختلفة، وهذه هي موضوع النقطة التالية.

أن التنظير للأنطولوجيا كلاهوت سالب يقارب فيما بين فرضياته وعقول المتلقين، على اعتبار أنه سيلقى القبول دون مناقشة، وسيكون محط اتفاق من قبل الفلاسفة والقراء معاً، فتبدو الآراء المخالفة كأنها نقاط شاذة وسط اتفاق عام.

على سبيل المثال، لا يعطى الرأي السابق اعتناءً مهماً لـ"سقراط" ذلك جرياً مع أنه لم يفسر الوجود وفقاً للأفكار التي يتبناها الرأي، مدعماً مبرراته بقول نيتشوي بأن "سقراط" هو عبقري الانحطاط الأول، مع أن "نيتشه" نفسه قد وصفه بأن هذا الذي لم يكتب حرفاً، غير أنه أنطق اللغة بما لم تنطق به من قبل، فضلاً عن الدور الذي لعبه في الفلسفة حواراً وأسلوباً، حين جعلها تتساءل بشكل نافذ أسئلة خاصة بالإنسان والحياة والتقاليد الفكرية السائدة. فهل يعد عمل "سقراط" كما يقول الرأي خطوة إلى الوراء، وإن كان ذلك بشأن مسألة الأنطولوجيا ؟ تلك المسألة التي يمكن أن ننظر إليها سقراطياً على نحو مغاير، لو كان هناك، كما نرى، اهتمام بالمنهج السقراطي دون تثبيته على هيئة مقولات أنطولوجية(6).

في المقابل يصدر الرأي حكماً غريباً أمام الفكر الأوروبي الوسيط مؤداه أن هذا الفكر قد فهم "الإنسان كذات للنشاط المعرفي و فهم العالم كموضوع للمعرفة"، وهذا غير دقيق، لأن الذات لم تأت في الفلسفة الوسيطة بصيغة النشاط، معرفياً كان أم غيره، فقد كانت موضعاً لتجلي الحقائق الكونية الخفية، على هيئة أيقونات (icons)، هي نفسها دالة على الوجود الإلهي (أي تماهي الذات الإنسانية مع الذات الكونية/ الأنطولوجية). إذن ليست الذات فاعلة، ولا ناشطة، لكنها منفعلة. وعلى الصعيد عينه يكتنف العالم الأسرار والغموض، لذلك يأتي الدين في المرتبة الأولى الذي يستجلي هذه الأسرار، وقد أصبح "لاهوت المعرفة" هو السائد بجوار لاهوتيات أخرى متعلقة بالسياسة والتاريخ .. الخ ولها الأولوية على العالم نفسه.

بالتالي ليس الأمر استقلالاً بين الذات والموضوع، بل كانت الذات محل المعرفة التي تميزت بطابع ميتافيزيقي - لاهوتي، من هنا اهتمَّ القديس "أوغسطين" بأدوات المعرفة وماهية العقل وخلود النفس ومدينة الله ومدينة الشيطان والوجود الإلهي، وهي الاهتمامات التي نجدها تقريباً لدى "توما الأكويني" بدرجات متفاوتة أخرى، وهي قضايا لا تفهم إلا في حدود الموضوع، حين يقع داخل الذات كتجربة للإيمان، حيث تمثل نموذجاً للتجارب المعرفية الأخرى(7).

هناك تجريدات عامة في الاتجاه السابق، تماثل في وظيفتها تجريدات الميتافيزيقا الكلاسيكية، فالرأي نفسه حين يعبر بتلك الطريقة المجردة عن "الشرق - الغرب"، فهو يتجاهل السياق الثقافي، كأن الاثنين (الطرفين) حالتان كيفيتان تماثلهما وقائع كمية. فمع تعيين الكيف فيما يبدو، يتعين الكم، أو بكلمات أخرى مع تقوم الكيف يتقوّم الكم، وضمن تغيير الكيف يتغير الكم، أي جدل هابط من أعلى إلى أسفل، عكس قوانين المادية التاريخية في المجتمعات.

وما أن يحدث تماثل عند درجة السمو الفلسفي المفترض ما بين الشرق والغرب كيفياً، بآفاق أنطولوجية كيفية أيضاً، إلاَّ ويسهل الوصول إلى فهم مشترك على كافة الأصعدة بين الاثنين(الطرفيين). إن فعل الشرط مفترض، ويترتب عليه جواب شرط مفترض في المقابل، ولكن سيظلان قيد الافتراض فيما يبدو!! والسؤال المنطقي عندئذ: هل وجود المفهومات يترتب عليه وجود المصادقات؟

إن تحديد الشرق والغرب بشكل تعادلي - صوري (formal-equalizational ) أمر غير واضح المضمون، وغير محدد في دلالته، إنه أمر يتسرب إليه الريب أكثر مما يطرح حلولاً منطقية ناهيك عن غياب الرؤية الثقافية: فبأي معنى يكون الشرق شرقاً والغرب غرباً بالأساس ؟ ومن هؤلاء الفلاسفة الذين يقررون هذا التعادل المفهومي والماصدقي أو القيمي أو حتى الإنساني؟ بناء عليه، أية معايير يمكن أن تجرد الشرق من كل أرديته التاريخية بصورة عامة قابلة للتطبيق على عينياته (concretes) المفردة بل والمتناقضة؟ إنه لا يتيسر وضع الشرق في "سلة" أو تعليقه على "مشجب" كأنه قطعة ملابس قديمة، لونها معروف وتصميمها معروف، وموضع إنتاجها معروف، إذا أجيز هذا التشبيه؟ ألعلَّ الشرق يتناقض حدياً في آرائه ومذاهبه ومعتقداته وشعوبه وانثروبولوجياته ودياناته بما لا يحصى؟ وفي ضوء ماذا اتخذ البحث هذا الموقف الذي يخول له هذا التجريد؟.

وبمناسبة الغرب، فلا يوجد ما يسمى "بالغرب"، حتى وإن شاعَ هذا المصطلح عولمياً أو صحفياً، فهؤلاء الذين أشاعوه وانتزعوه من سياقه لايدركون مدى التراكمات المتباينة والمتداخلة وأيضاً التواريخ التي يطويها داخله، والتي تمثل بركاناً في جوفه، بحيث أننا إذا قلنا " الغرب " خطابياً بدون محاولات تعيينه لا يعدو أن يكون مصطلحاً أجوف غير منضبط الدلالة. نتذكر استخداماً هيدجرياً له تحت عنوان "الميتافيزيقا الغربية" حين يشير إلى الوجود والإله والماهية والمعرفة كأشياء حاضرة في الزمان عبر تاريخ الفلسفة، لذلك ربط "هيدجر" بين الزمان والوجود بوصف الأول الأفق الذي يتكشف فيه الأخير ويُطرح كسؤال. لكن هذا يعتمد بالتبعية على توصيف هيدجري يمكن الاختلاف معه، لِمَ لا(8)؟ إذ كان يجب أن يذكر البحث: بناءً على أي أساس تم اختيار الغرب والشرق كمصطلحين مجردين؟ وما هي الدلالة التي تعين كلاً منهما في فضائه الأنطولوجي؟ وما مدى علاقة الفضاء الأنطولوجي بتحديد معالم الثقافة الغربية والشرقية؟ ومتى يختلفان قبل أن يتفقا؟ وما هي أسس الاتفاق؟ وبأي منطق يمكن أن يسير الاتفاق؟.

كان من المستبعد أن يحاول البحث الإجابة على مثل هذه الاستفهامات، لأنها ستُظهر أكثر فأكثر الاختلافات بين الشرق والغرب، ولن يجد لها غطاءً عاماً أو خيطاً ناظماً يجمعها، إلا بهذا السمو الأنطولوجي ـ اللاهوتي الذي تغيب فيه التقاطعات.

في هذا الاتجاه، هناك مقولتان لا تخضعان للنقد والتمحيص " الغرب العقلاني" و" الشرق التأملي "، فهذه الصفات: "العقلاني" - " التأملي "، "الفكري" - "الشاعري"، "المنطقي" - "العاطفي" هي أيضاً ملصقات لاهوتية، يفترض أن تجمع ما تجمعه من الغرب بكل أطيافه، وأن تضم من الشرق ما تضمه بكل ألوانه. ولا تختلف في هذا عن مقولات "الشرق المتدين" - "الغرب الملحد"، "الشرق الفنان"، بتعبير كتاب"زكي نجيب محمود، "الغرب العلمي"، "الشرق الأخلاقي" - "الغرب الفاسق"، "الشرق الهادئ" - "الغرب الصاخب"، وهي المقولات التي يطرحها الذين يقيمون الحضارتين العربية والغربية عادة، وهي نوع من أنواع العنف الثقافي في تلك المقارنات(9)، لأنها تقصي التنوع والاختلافات، واضعة أولوية للتماثل والتطابق، كما يرى "ايمانويل ليفيناس" أمام الثنائيات الميتافيزيقية في كتابه "الكل و اللامتناهيtotality and infinity " أثناء نقده لتاريخ الفلسفة وخطابها الميتافيزيقي من "أفلاطون" إلى "هيجل".

إن الغرب ملئ بالاتجاهات التأملية والشاعرية جنباً إلى جنب. وكذلك لا يخلو الشرق من النزعات العقلانية، ومع ذلك فالاختلاف هو القاعدة الأصيلة التي لا يمكن تجاهلها، فهناك دراسات ثقافية توضح أن الفكر، "المفهوم" برأي الفرنسي "جيل دولوز"، عبارة عن بنية ثقافية، تشمل مستويات اختلافيه وتناقضية بالمثل، وأن التأمل بنية مشروطة بشروط حضارية ومعرفية، كان أجدى للبحث إظهار جوانبهما (أي تحليل فلسفي لهاتين البنيتين على افتراض وجودهما).

وتوضح الدراسات الثقافية ـ الأنثروبولوجية أن التعارض في رؤى الشرق مع رؤى (منطق) الغرب لايمكن تسويته، وأن "جغرافيا الفكر" تقول إن "المنطق" لدى الغرب (وبخاصة اليونان القديم) يقوم على الهوية وعدم التناقض، بينما يمكن أن يقبل المنطق الشرقي في البوذية والثقافات الهندية وجود تناقض جذري في الموضوعات والقضايا وتلقى قبولاً بالمثل، فــ: أ = أ و = أ في نفس الوقت، فالشيء ليس هو الشيء وهوهو معاً. كما أن الذي حدا بالبحث لوجهة النظر التي تقول بالاتفاق بين الشرق والغرب أنطولوجياً أمر قائم، يمكن فهمه وفقاً لأطروحات "فيكو" في كتابه " العلم الجديد" (new science) حين أراد أن ينظر نظرة جديدة لتاريخ الحضارة الأوربية، إذ يشير إلى أن الأنطولوجيا (كموضوع) تقع بين ثلاث تقاطعات مهمة، تتباعد وتتداخل في نفس الوقت، ولا تؤدي إلى الاتفاق بين الشعوب أو الحضارات، كما توضحها الكلمات التالية:

- لاهوت ( أديان / عقائد / أساطير )

- شعر ( نظم / رؤى/ بلاغة / أليات )

- فلسفة ( أفكار/ مفاهيم / أنساق)

كل ذلك التكوين على قاعدة الأنطولوجيا( اللاهوت/ الشعر/ الفلسفة)، فالمجالات الثلاثة تحدثت عن الأنطولوجيا بطريقتها الخاصة طوال تاريخ الغرب والشرق. إذ قد تجرى المعالجات الأنطولوجية على أساس شعري، فيجتمع الفلسفي واللاهوتي في الخلفية، ولربما تجرى المفاهيم الأنطولوجية فلسفياً، فتحضر الرؤى الشعرية والدينية ضمنياً، وإن حدد اللاهوت الأنطولوجيا، فإنه يتكئ على النظم الشعرية والتفكير الفلسفي كاستعارات لذلك.

يرجح "فيكو" أن الرؤى الشعرية هي التي حدّدت الصورة الأولية للأنطولوجيا في بواكير التفكير اليوناني الفلسفي، وهي رؤى تكررت في حضارات أخرى نتيجة التقاطع المذكور في زوايا المثلث الأنطولوجي، غير أنها تتماثل ولا تتفق، نظراً لاختلاف الحضارات والرؤى ذاتها، بينما يؤكد البحث على الاتفاق بين شرق وغرب في هذا الشأن، وهو ما لم يكن متاحاً، فإن اتفقت المفاهيم الأنطولوجية في مستوى، فإنها تختلف في مستوى آخر، سواء أكان شعرياً أم فلسفياً أم لاهوتياً، فلا يمكن جمع هذه التقاطعات في قالب واحد، فهناك سياقات عديدة لها بحسب الثقافة، وليس الفكر أو التأمل، لأن الأخيرين مكونان من مكونات الثقافة وينتظمان تاريخياً وفقاً لقوانينها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1- كل العبارات بين قوسين في المتن تعبر عن وجهة نظر هذا الاتجاه القائل بأن هناك تقارباً أساسياً بين الشرق والغرب بناء على تماثل المفاهيم الأنطولوجية والفلسفات التي تعبر عنها في آفاق العقل الغربي والشرقي على الجانبين.

2- هذه الفكرة من الأفكار المهمة بشأن قراءة النصوص الفلسفية، فهناك محددات ترتبط بالوعي واللاوعي، هي عادة متعلقة بالسلطة الدينية أو الأبوية أو الاجتماعية، ثم تعيد إنتاج نفسها بالتواتر والتكرار عبر اللغة التي تصاغ بها في التجارب النصية واللغوية والحياتية والكتابية عموماً، وإذا كان الجانب الديني أساسياً بالنسبة للإنسان، فإن ما يؤمن به الأخير يمكن أنْ يعاود الظهور مع استخدام اللغة، ولو في مواقف جديدة، لا يستثنى الفيلسوف أو الكاتب من ذلك القانون، وليست فكرة كهذه فكرة مسبقة، لكنها تعتمد على قدرة القراءة على مساءلة النص قيدها، ويتميز التأسيس الديني بالمحاكاة لنموذج كلى، بفضل النزوع نحو المطلق الذي يستبطن التجربة الدينية، ويرتبط بإمكانية إسقاط المعنى، بوعي أو بدونه، على موضوعات مختلفة ارتباطاً بشيء ثابت، يحاكي في هذا عمل العقيدة المقدسة، حين تجعل من ذاتها مرجعا ثابتاً.

Carl G.Jung، Psychology of Religion، New Haven،Yale Uni- Press،1955 (Ninth Printing)، p.7.

الشيء نفسه يقوله "أمبرتو إيكو" عن السر الديني المنتشر في بعض كتب هرمسية القرن الثاني الميلادي، وهو سر يعمم في هذا المجال لأنه طريقة في النظر والمعرفة "لكي نتمكن من فهم الرسالة الغامضة التي يتضمنها الكتاب، كان من الضروري البحث عن وحى يقبع فيما وراء المنطوقات الإنسانية، وحى معلن من قبل الإله ذاته، عن طريق الرؤيا، الحلم، أو النبوءة، غير أن مثل هذا الوحي غير المسبوق، والذي لم يسمع عنه قبلا، كان عليه أن يعبر عن إله لم يعرف بعد، وعن حقيقة ما تزال سارية." [أمبرتو إيكو، التأويل والتاريخ، في كتاب: أمبرتو إيكو (وآخرون)، التأويل و التأويل المفرط، ترجمة ناصر الحلواني، سلسلة آفاق الترجمة العدد(16)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1996، ص ص 52- 53].

ولا يعني ذلك بالضرورة أن البحث الذي نقرأه متورط في قضايا دينية، إنما آلية العمل التي تتوفر للأنطولوجيا التي تحدث عنها الدكتور خليل تشبه السر الهرمسي المشار إليه في نص "إيكو"، ولنلحظ أن البحث يحلل بلغة الأسرار تلك الأنطولوجيا كأنها هلامية أو شبحية غير قابله للرؤية في نفس الوقت الذي يمكن مقارنتها ببعضها البعض، كما أن هناك روحاً خفية تقبع خلف صور الأنطولوجيا غرباً وشرقاً رغم اختلافهما، هي روح متوحدة مع روح الوجود خارج التاريخ و الأحداث والثقافات، وفوق هذا تمثل مبدأً للاتفاق، ويعاد استحضارها لكي ترفع التناقض بينهما، وتحل المشكلات الحضارية.

3- تكمن أهمية إشارة "هيدجر" لا في كونها معرفة فلسفية، لكنها تندرج في إطار إستراتيجية سؤال الوجود، وتحديد آفاقه، وأهم الدلالات التي يأخذها في الأنساق والمذاهب الفلسفية، أما الوعي بتلك الإستراتيجية، فيضع القارئ على خط الارتباط بين الوجود ـ الموجود، أو بعبارة هيدجر: الوجود ـ الدازاين (Dazaen)، ويعنى هذا الوجود في العالم eing- in - the- world، أي مع انكشاف الموجود لذاته ينكشف الوجود في ذاته، لهذا فإن كل معالجة مهمة للدازاين هي اهتمام بوجوده، بوجود الدازاين.

Martin Heidegger، The Concept of Time، Translated by William McNeill، BlackWell، Oxford U.K & Cambridge U.S.A، 1992, p.9E.

المهم أن مدخل الأنطولوجيا، هيدجرياً، تاريخي أنتروبولوجي، فعن طريق الأنتروبولوجي نعرف الأنطولوجي، لذلك كانت تحليلاته العميقة على الحدود بين مجالات عديدة، يظهر على أثرها البناء التاريخي لمعنى الوجود والاختلافات الكامنة فيه، من هنا أؤيد لاحقا اختلاف الأنطولوجيات الشرقية والغربية، نظراً لاختلاف وجود الدازاين فيها، في عالمها بمقدار اختلاف التاريخ.

4- إن "عودة المقدس" حيث يؤسس نفسه بأشكال ملتوية في الأنساق الثقافية موضوع في غاية الخطورة في الثقافات الشرقية، ويتجلى أعمق ما يتجلى لدى المفكرين العرب، فمثلاً "زكي نجيب محمود"، على الرغم من أنه تبنى الاتجاه الوضعي المنطقي إلا أنه سمح طوعاً أو كرهاً لدخول المستوى القيمي بالمعنى الديني ـ التراثي في أفكاره، بل كانت تحليلاته منسوجة ضمنياً على منوال اعتبارات ثقافية ـ تقليدية، ومع وجود تأكيداته العلمية سوى أنها تطرح نفسها كنبرة لاهوتية في أغلب مؤلفاته.

ـ زكى نجيب محمود، قيم من التراث، دار الشروق، القاهرة، 1990، ص ص 25- 30.

ـ زكى نجيب محمود، رؤية إسلامية، دار الشروق، القاهرة، 1992، ص ص 14- 17.

ولا يسقط هذا الاحتمال تجاه "عبد الرحمن بدوي"، وبخاصة في مؤلفاته الأخيرة التي كتبها بالفرنسية حول القرآن والرسول والدفاع عنهما ضد المستشرقين، وهو الذي تعلّم وعرف الفلسفة وتلقى دروسه الأولى في هذا المجال داخل حاضنة الاستشراق على يد " بول كراوس". الأمر نفسه مع "أدونيس"، إذ بدأ ثورياً ومتمرداً على الدراسات التقليدية وعلى الفكر العربي من خلال دراسته لمفاهيم الإبداع والإتباع في التراث، واهتم بتقويض الأفكار النمطية الخاصة بالنقد، وانتهى بتحديدات لاهوتية للتجارب الصوفية والسوريالية، تحت مزاعم النزعة الإنسانية، وهي في الأفق العام لم تخلص نفسها عما عبرت عنه ، يقول أدونيس: " .. هذا الذي لم يحل ( لايحل )، هذا الذي لم يعرف (لا يعرف) ، هذا الذي لم يقل (لا يقال) هو ما يولد الصوفية. وهو نفسه مما سوغ نشأة السوريالية. فدعوى السوريالية الأولى هي أنها حركة لقول ما لم يقال، أو ما لا يقال. ومدار الصوفية، كما أفهمها، هو اللامعقول، اللامرئي، اللامعروف".

- ادونيس، الصوفية والسوريالية، دار الساقي، بيروت- لبنان، الطبعة الثالثة، 2006، ص 11.

أن هذا التحديد الادونيسي لا يختلف عن قول "إيكو" بصدد النزعة الهرمسية، ومع وضعي البعد الإنساني في الاعتبار إلا أن المنحى العام يقترب إلى درجة التماهي مع اللاهوت السالب، ويمكن لأي إنسان أن يزعم نفس المزاعم لدى تجربة الإيمان الديني ولا نلمس فارقاً.

5- لا أتفق مع منحى البحث في عزل أنطولوجيا "هيدجر" عن طريقته في طرح الأسئلة الفلسفية، فالأخيرة تكشف عن خصوبة التحليلات التي طرحها لا في المذهب، إنما في المنهج، ولو أن البحث أخذ الفلسفة الهيدجرية بتلك الوجهة ما كان له إلا أن يفرق بين المؤتلف والمختلف في النظر إلى قضية العلاقة بين الشرق والغرب.

6- هناك حركة يحاول البحث إثباتها بطريقة أو بأخرى، هي حركة تحويل المضمون الذي يرد في المقولات الأنطولوجية إلى شكل معين، كأنه قد تجسد فأصبح موضوعاً للموضوع (أي كموضوع للاتفاق) قيد المناقشة، فمثلاً يأتي بأقوال لفيلسوف على غرار" بارمنيدس" ليطابق بين مضمونها المحتمل والمضمون العام الذي هو مقرر سلفاً في بداية البحث ونهايته، وبذلك يسقط من الحسبان ما يأتي وهو الأهم، أن القول الفلسفي يخضع لتحويرات وإعادة صياغات بلغة شديدة النقاء الصوري والنسقي، لتبرر أشياء معينة، وتضفي عليها التماسك بينما لم تكن مقصودة لذاتها، وليس "أفلاطون" ببعيد عن "بارمنيدس"، هذا الذي أعطى توظيفات للنص الفلسفي ومقولاته ودلالاته، فكان يعنى موضوعات في الظاهر، بينما يومئ إلى مستويات أخرى، متمشية مع اللوغوس أو القانون وهو إتحاد غير حيادي إلى درجة التواطؤ بين السياسي والديني والاجتماعي والأخلاقي والأنطولوجي لصناعة العقل اليوناني وأساليبه في التفكير.

7- ربما نميز ما يوجد في الفلسفة الوسيطة "البعد الرمزي" الذي ظهر بفضل تحول الأشياء إلى أيقونات، تعكس الوجود الإلهي، لذلك تعتبر الأفكار الفلسفية قابلة للقراءة بمنظور آخر غير الطريقة التي تعتبرها أفكارا أنطولوجية أو معرفية صرف، هو منظور الاستعارة والتمثيل المجازي، فكل شيء لا يحضر إنما يستحضر ومعه فائض الدلالة اللاهوتية، من ثم تتواصل الحفريات بحثاً عن العمق الذي لا يمكن الوصول إليه مباشرة، وطبعا لا نملك إلا التأويلات، لهذا كما يقول "متى" المسكين: إذا قيل إن هناك شيئية الأشياء، فإن الشيئية احتملت الحلول، فلم تعد شيئية، فالمسيح عندما حل في الناسوت، فقد حلّ الكل في الجزء، ولم يعد الجزء جزءاً، انفرش الكل على الجزء، وانفتح الجزء على الكل، فأصبح المحدود غير محدود، وأصبح اللامحدود في صورة المحدود، لقد أضحى رمزاً.

- الأب متي المسكين ، في: المجاز الروحي، حوار أجراه "نصر حامد أبو زيد" و"جابر عصفور"، مجلة ألف، العدد الثاني عشر بعنوان: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، مجلة البلاغة المقارنة، تصدر سنوياً عن قسم الأدب الإنجليزي والمقارن، الجامعة الأمريكية، القاهرة، فصل الربيع، 1992، ص 208.

8- في كتابه "الوجود و الزمان" يطرح "هيدجر" مصطلح :" الميتافيزيقا الغربية" ضمن إطار يعرفنا الاختلافات بين المعاني المذكورة للوجود، وبخلاف التماثلات الذي يذكرها تبنى "هيدجر" الفينومينولوجا لمعرفة قواعد التماثل بشكل جينالوجي، أي تتبع جزئيات (وحدات) المعنى الواحد، وما بينها من علاقات وارتباطات تاريخية، كأنه يفتت العام إلى النوعي والنسبي، حتى وإن كان مذكوراً في سياقه الإجمالي، لأنه يعتمد على انكشافه لا على احتوائه.

M. Heidegger ، Being and Time، Translated by Joan Stambaugh، State Uni- of New York Press،1996,pp 13-35.

9- إن الثنائيات بهذا الوضع تستقطب التنوعات والتدرجات الموجودة بين أطرافها، لذلك تستقطب حركة الأفكار أيضاً، فما إن يفكر الإنسان في موضوع له صلة بها حتى تقدم له خطاً جاهزاً للمعنى الذي هي أصلاً في طور التكوين، كما أنها توفر إجابات جاهزة على الأسئلة إن أثيرت والمحتمل أن تثار مستقبلاً، من هنا كان وصفها بالعنف الثقافي وهو عملية ليست مقصودة بالطبع، ولكنها تتجلى بقوة النصوص والخطابات المصاغة في هذا الشأن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى