د. سامي عبدالعال - اغراء المختلف

الإنسان يشبه نظيره الإنسان، يُولد، يعيش، يأتلف مع غيره من البشر. بلغة الطيور، يُوالف على أقرانه لبناء أعشاش الحياة. ولذلك ينشغل الإنسانُ في مواقف كثيرة بالظهور مثل الآخرين، يأكلُّ كما يأكلون، ويفكرُ كما يفكرون، ويتكلمُ كما يتكلمون. وإذا قيل له لماذا تفعل هذا، سيقول ها أنا أفعل مثلما يفعل الناس. ويعتقد أنّه يملأ الفجوة الحياتية اجتماعياً دون ذهابٍ إلى اتجاهٍ آخر. إنه إنسان آتٍ من الألفة والموائمة والتماثل مع نظرائه. أغلب المجتمعات تجد أفرادّها هكذا نسخاً مطابقةً لبعضها البعض.

ولكن الإنسان أيضاً هو كائن مغاير، فعندما يجد متنفساً، يتشوّف إلى الاختلاف. يتحين الزمن لمراوغة المألوف، يبحث عن مساحة براح، يفتش عن منفذ فضول قفزاً فوق الأسوار، يختنق من القيود ويرمي عينيه إلى خارج ذاته. لا يهدأ في خصوصياته ولا يكف عن مناكفة الناس، يمارس حريته النزقة ويُطلق أحكاماً ونظرات ملؤها المداراة والتجاوز. أي يترك فضاءً للتململ والكف عن المسايرة طوال الوقت.

ينطبق ذلك على البسطاء، وكذلك على الناس الآخرين أيا كانوا. الإنسان كائن متمرد لا كائن خانع، كائن متلصص لا كائن مفكر فقط، كائن مراوغ لا كائن هادف دائماً، كائن متقلب الأحوال لا كائن ثابت، كائن غير منطقي لا كائن صارم التفكير، كائن فضولي لا كائن مقتصر على ما يعرف، كائن مفرط الحنين للغائب لا كائن حاضر ... إنه لا يستطيع التجمُد بجوار وجوده المحدود. ليس الإنسان صنماً ولن يكون، لكنه منسوج من لحم ودم، من غرائز وعواطف، من أعماق سحيقة وأسطح خادعة ومتماوجة.

ليس أمر الإنسان إزاء الواقع بالمهابة التي تأخذه عادةً تجاه المقدس، لأنِّ ذلك يتم عبر توافه الحياة اليومية. القضية معقدةٌ، لأننا قد ننجذب إلى الأشياء بهوس الفضول. وربما نفعل ذلك كنوعٍ من اكتشاف المجهول، وأنَّ هناك تحقيقاً للذات خارج رتابة الحياة.

هكذا تظهر الخادمةُ أمام جهاز الحاسوب لتتفرس في الصور المختلفة. وضعها الفنان محسن أبو العزم في منتصف المشهد لتعبر عن حاسة (استراق النظر). وهي حاسة ثقافية بإمتياز، تحملق المرأة في الصورة بنصف نظرةٍ دالة على الانبهار والفقدان بالتزامن. انبهار من أشكال لامعة ومدهشة للصور وفقدان لمكانة الذات من حيث الحياة والمآل. وليس الإنسان فقط هو من يمارس فضولاً، ولكن أراد الفنان إدخال الواقع ضمن اللعبة. فأثاث المنزل المحيط غير منظم، والنافذة تعلوها مظاهر الاهتراء، والجدران ليست بأفضل حال، والكتب لصيقة الأرض، والنفايات متراكمة داخل سلة المهملات، بينما الصور الآتية من جهاز الحاسوب مغايرة!!

ثمة عين ثاقبة يتميز بها الشعبيون تمام التميز: أنَّ نظراتهم ليست معتمةً ولا حسيرة، لكنها حادة وطويلة الأمد. فهم يتفحصون، يفتشون الأشياء، يقلبون الظواهر الواقعة في مرمي البصر. لا ترتد نظراتهم إلى العيون، ولكنها شكل من المقارنة بين حال وحال مع التطلع والاستحواذ والقدرة على ابداء الاعجاب.

ليس ذلك فقط، بل هناك أنفاسٌ من التحسر والإزورار نتيجة كآبة الواقع ضمن ظلال المشهد. ويحضر في الأخير إيقاع الحس الإنساني البسيط الذي يترك نفسه للأعمال التلقائية. فهم يتصرفون على سجيتهم ويعابثون الأشياء. ولا مانع من أنْ يستخدم هؤلاء الناس الأدوات والتقنيات كما يستخدمها غيرهم. كأنَّ الإنسان البسيط يتطلعُ إلى الشيء العجيب والغريب من باب كونه موجوداً، كونه إنساناً. ولاسيما إذا كانت الأدوات من حاشية التميز الاجتماعي.

إنَّ نظرتي المرأتين ليستا نظرتين عاديتين، النظرتان تتحينان الفرصة المواتية لرؤية جهاز الحاسوب. والنظرتان تجريبيتان لمحتويات هذا الجهاز الخرافي. نوعان من التصلص المحبب وانتهاك الحجب والاطلاع على ما يعرفه الآخرون. ويبدو أنَّ هناك من يستعمل الجهاز في المنزل، ومن ثم تجرب الفتاتان الفرجة على الصور مثلما تريانها بالصدفة. في اللوحة الأولى، حرص الفنان محسن أبو العزم على ترك نظارة لشخصٍ آخر لتبيان المعنى السابق. والنظارة أثر للآخر الذي كان يستعمل الحاسوب، وهي البصمة التي تجعل المرأة آتية لهذا السبب أو ذاك.

تقول المرأتان: لماذا لا نجرب الدخول إلى عالم الالكترونيات الخفي؟ وقد تركتا أثراً ممتداً إلى المتلقي بكونهما صحيح تنتميان إلى حياةٍ بسيطةٍ، لكن من نفسيهما أنْ تقلبا صفحات هذا العالم. وهو السلوك الذي تنخرط فيه النساء الشعبيات حين تتسمع الحوارات الجانبية وعندما تحرص على نقل الأخبار فيما بينهن، حيث لا وسيلة هناك غير الأجهزة البيولوجية للناس.

المرأتان عند هذا الحد تجسدان صورة العادات والتقاليد، فالعادات القديمة والموروثة تتلصص هي الأخرى عبر منافذ الحياة على الجديد. وتتطفل إزاء التقنيات المبتكرة التي تنذر بالتهديد أو التغيير داخل المجتمعات. ولنتذكر كون العادات القديمة تتحسس وجودها باستمرار مع زحف الثقافة المعاصرة. وقد تتراجع العادات إلى الخلف قليلاً، ولكنها مثل المرأتين تبقى منبهرةً بطغيان الواقع الراهن والثقافات المختلفة التي تقتحم حياتنا. ومع أنَّ هذا شأن لا بد منه بحكم الزمن وتفاعل الثقافات، ولكن العلاقة بين الموروثات والأفكار الجديدة تطرح اغواء المختلف في صلب الحياة والتاريخ.

ورجوعاً إلى اللوحتين سنجد أن دخول المرأتين إلى الحاسوب دخول بالجسد والحركة. لعله ينتمي إلى نوعٍ من الحياة المعيشة بكافة التفاصيل العضوية. إن الجسد هو أخر الأسوار التي يمتلكها الشعبيون، وهو أول حصون الدفاع ضد الأغيار، ضد المختلفين. فالجسد من المحرمات وهو نطاق السلطة الاجتماعية وكذلك هو محط الفتنة. ولذلك تظهر الجرائم الجسدية- سواء الصراعات أم أعمال القتل أم السرقات في الاحياء العشوائية- أكثر من غيرها. حتى تصنف العشوائيات ضمن خرائط الأعمال الاجرامية في العالم.

غير أنَّ الفنان أبي العزم يصنفها ضمن خرائط الإنسانية المنسية. فهي أصل المجتمعات وكذلك تتمتع بكيان إنساني فريد وثري. ولم يغفل جوانب الرغبات الحياتية مثل الألعاب والتسلية المعبرة عن فضاء آخر من الاغراء. فهناك لوحة لاعبي الورق، حيث يبدو مشهدها مُحدداً لمساحة الأغواء خارج السياق. فالشعبيون غالباً يركضون وراء حياتهم الاعتيادية، ويكدون من أجل تحسين أوضاعهم المعيشة.

بيد أن لوحة لاعبي الورق تسرد جانباً شهيراً بين مجموعة أفراد ( سيدتان وأربعة لاعبين ومتفرج واحد ). والسرد يؤكد أن لعبة الورق تشبه ألعاب النوادي الليلية، ولكنها في حالة الشعبيات ضمن بيت فقير الأثاث أو داخل مخزن للأغراض المهملة تجنباً للعيون المتطفلة. وهي إمكانية التفرد ولو عن طريق لعبة تبدد الأوقات وتلبي الرغبات.

وهنا تبدو الرغبات جزءاً لا يتجزأ من الواقع، بل هي الواقع نفسه. ليس حقيقياً أن الواقع مادي صرف، إنه صورتنا التي تنعكس على كل الأشياء. أن نكون واقعيين معناه أن نرى وجودنا الذي صنعناه بصورة متموضعة. أي نتتبع آثارنا التي تركناها طوال الوقت على أنها الحياة والتي ستقودنا إلى المزيد منها. وهنا أغراء اللعب كأنه امساك بخيوط الحياة وتحريكها لصالح اللاعبين. اللعب يُمكِّن الشعبيين من تحقيق أحلام لم تكن لتتحقق سوى بالخيال، وهو لون من الإيهام للشعور بوجود عالم يتحكمون فيه. اللعب يضع بين أيدهم انجازاً لن ينالوه بعد سنوات وسنوات. انجاز الوضول إلى مآرب وأهداف خاصة.

يظل هاجس امتلاك الأشياء هو الهاجس الأول لدى الثقافة الشعبية، وهو أمر مُلح بمقدار فقدان المكانة بين الفئات الأخرى. ولذلك ستجد أن الامساك بالأشياء والأدوات والأفكار والعلاقات يظهر بقوة في لوحات محسن أبي العزم. والخلفية تقول أن هناك معنى آخر لدينا نحن البشر على التعبير عن وجودنا بالشكل المناسب الذي نريده.

تمشي المرأة حاملة المصباح كأنها تخوض غمار كافة الأحاسيس بالتفرد والحميمية. إنها تشعل رغبةَ التواجد والتحقق. المرأة تساوي المصباح، الضوء، النار، الاشتعال، الرغبات المتأججة. ولذلك سنجد مفردة النار في الأغاني الشعبية وافرة الحضور. المرأة تسير خلف النور الذي تحمله، وإشارة اللوحة لا تخطؤها العين في كون المصباح توهُج الداخل النسوي وسط الظلام والأثاث القديم.

حرص الفنان على تزامن عدة رموز: الضوء( المصباح) والماء( الزير) والجسد (الرغبة) والظلام ( الوسط ) والآخر ( المدرك ضمنياً ). رموز على خلفية هذا المشهد المتداخل، واللوحة ترمي بها بطريقة غير مباشرة في ذهنية المتلقي. ذلك بإعتبار أنَّ الجسد وسط الظلام كرمزٍ للعتمة والشهوات وانطلاق الأهواء، وبإمكان الإنسان أن يكون مرتبطاً بمصدر الحياة عن طريقه (الماء)، ولا يعني ذلك الإنغراس في الشهوات، بل هناك الضوء والتوهج الخاص.

المصباح هو تأويل الرغبة بصورة مزدوجة: إما انطلاقاً نحو التحرر خلال الوسط الطالب للإشباع وإما إضاءةً للأجواء المظلمة. النور قد يكون ناراً لا تهدأ وقد يكون ضوءاً يأخذنا عبر مسارات واضحة. ضغطت المرأة على زناد الثقافة في هاتين الحالتين، فهي مصدر القلق في البيئات الشعبية. وهناك كم من الدلالات التي لا تهدأ حول النساء في هذا الإطار. دلالات الحب والكراهية والعواطف والخيانة والأمان والأمل والحقيقة والفتنة والإغواء. هي دلالات تقف على صعيد مفخخ من التناقضات التي قد تنفجر في أي وقت.

خصصت لوحة بائع الملابس تأويل دلالة المرأة في هذا المشهد. فعرض الملابس الداخلية هو صورة الخطاب والكلام الشائع حول الرغبات الحسية. وهو بمثابة الكشف عن الجسد بمعناه الثقافي – الاجتماعي. فالشهوات ممتدة في كل شيء بفعل الثقافة وليست قاصرة على الجسد العضوي فقط. فالذي يمكن فهمه من الملابس والإيماءات التي يترجمها البائع هو ثقافة الغمز واللمز تجاه المرأة. وهو كذلك نطاق الرغبات في المجتمع وسط الموروثات التي تعطي هذا المزيج كل الأهمية.

إن الوجوه التي تراقب مشهد البائع مع المرأة وجوه خليط من المعاني هي الأخرى. فالبائع ومساعده وحامل كاسات الشاي هم وجوه باسمة لدلالة الفضح في المسألة، لدلالة العري والجسد. بينما وجه المرأة الأخرى ووجه الرجل العجور في الخلفية وجهان حاضران بالإنابة عن المجتمع، إنهما آتيان من جوف التقاليد الناقلة لشجب الموقف. وبخاصة أن مأذنة المسجد تنتصب خلف هذين الوجهين، في إشارة إلى كون الوجهين عبارة عن الدين والتراث جنباً إلى جنب.

وسط هذا الصراع بين الإغراء والإنطواء، تظهر المرأة التي تتصيد خروجاً عن السياق. إمراة مهمشة ومهوشة المنظر والوجه، وفوق هذا وذاك ترتبط بتقنات التواصل الحديثة في زمنها وهو التليفون. حيث كان وسيلة لمداعبة الجديد وخرق المألوف. فالشكل الكاريكاتوري الباسم ورنين الضحكات التي تطلقها إنما يمثلان استجابة للمختلف.

ركز الفنان أبو العزم على أنْ تتصدر الفتاة كل اللوحة، كما أنَّ السمات ليست اعتيادية ولكنها ساخرة. ورغم تواضع أثاث المنزل، إلاَّ أن دلالة الانطلاق تذهب بعيداً. وتترك الفتاة نفسها للضحك، حتى توصل فكرة الاختلاف إلى المتلقى. وهذه أخر وضعية يمكن للشعبيين أن يتشبثوا بها، فلا يمتلكون من الحياة غير الضحك. في وجه العواصف يضحكون، في مقدمة الكوارث يضحكون، في حمأة الفقر يضحكون، في وسط سوء الأحوال يضحكون.

الابتسام هو بطل الحكايا الشعبية، وقد يصنع الشعبيون من أنفسهم مادة دسمةً للضحك. فقد يطلقون النكات على أحوالهم وأساليب تفكيرهم. إنَّ قبولاً لما هم عليه قد دفعهم للتعايش مع الأحوال ولو كانوا هم أصحاب المبادرة. وليس أدل على ذلك من منظر الرجل الذي يمتطي حماراً ليمص سيقان القصب. هو لم ينتظر حتى يصل إلى بيته ولكنه جسد منظراً باسماً وصورة هزلية تلقائية.

الرجل لم يهتم بالأحمال الثقيلة التي وضعها فوق الحمار، لكنه انهمك في مص سيقان القصب، وهو النبات الذي يميز أهل الارياف في صعيد مصر وبعض المناطق الريفية الأخرى. والرجل يقف على قمة الحمولة التي ينوء بها الحيوان وأخذته الهمة في هذا المشهد. بينما الحمار مستكين تمام الاستكانة، مع قيام الرجل بهذا العمل دون اهتمام بكون الحمار يئن أم لا. والأرض ليست ممهدة ورجلا الحمار الخلفيتين تظهران كونه يمشي بالكاد. مع كل ذلك يرسم الرجل صورة ساخرة بدرجة كبيرة. والمقارنة بين عيني الرجل وعيني الحمار تظهر أن الرجل غارقاً في عملية مص القصيب بكل إهمال وأن الحمار يسير بكل حذرٍ واهتمام. المقارنة ترمي بالمفارقة بين الطرفين كأنها مفارقة الحياة التي تهمل وتهتم في الوقت نفسه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى