مسعد بدر - الكناية في شعر عنيز أبو سالم

المرحوم (عنيز أبو سالم) هو أحد أبناء سيناء عامة، وأحد أبناء قبيلة (الترابين) خاصة، وهو - بعد - شاعر سيناء الأول بلا منازع، حتى الآن على الأقل، مما حدا بالكثيرين - وأولهم صديقنا الشاعر الناقد: حاتم عبد الهادي - أن يسمّوه (أمير شعراء سيناء). وقد اخترنا في هذه المقالة محورا واحدا من المحاور الفنية لقصائده هو (الكناية)، بوصفها ظاهرة فنية تتكرر في شعره تكرارا لافتا.
1- إلمامة بطبيعة الكناية:
يقوم بناء أي قصيدة شعرية على هذه الكلمات التي يتداولها عامة الناس في شئون حياتهم اليومية، ويوظفونها توظيفا (إخباريا) بقصد نقل فكرة محددة يفهمها المتلقّي من ظاهر الألفاظ دون حاجة إلى التعمّق فيما وراء اللفظ.
لكن الشاعر - لأنه شاعر - لا يهدف إلى الوضوح الظاهر على سطح الألفاظ، ولا إلى التوصيل الإخباري المباشر، وإنما يهدف إلى التعبير عن طبقات معنوية مختلفة، ومتراكبة في النفس البشرية يستلزم التعبير عنها توظيف أدوات فنية معينة، منها تقديم بعض الألفاظ وتأخير بعضها، ومنها الحذف، ومنها الإطناب، ومنها الصور البيانية التي تُعدّ (الكناية) نوعا منها. فما هي الكناية؟
الكناية هي صياغة أدبية يلجأ إليها الشاعر حين لا يريد أن يعبّر عن المعنى المراد تعبيرا مباشرا؛ فلا يستخدم الألفاظ الموضوعة للدلالة المباشرة على ذلك المعنى المراد، وإنما يستخدم ألفاظا تشير إلى معنى آخر هو ملازم للمعنى المراد ورديف له ودليل عليه.
نوضح هذا التعريف بإحدى كنايات (عنيز)، يقول: "وحرصك من اللي مقصده لقمة العيش". فهو يريد أن يحذّر من الإنسان المتخاذل، الإنسان الذي وقف به طموحه عند الحد الأدنى من متطلبات الكائن الحي، وهو الحصول على "لقمة العيش"، عاجزا عمّا وراءها من قيم الرفعة والنبل والشموخ؛ فلم يذكر هذه المعاني، وإنما ذكر معنى مباشرا لازما لها ودليلا عليها هو اقتصار هذا الإنسان على مقصد واحد هيّن؛ لينتقل المتلقي - بحركة ذهنية نشطة - إلى (ملزوم) هذا المعنى المباشر، هذا الملزوم هو المعنى البعيد الذي يقصده الشاعر؛ فيستنتج أن التعبير هو (كناية) عن الخمول والوضاعة.
الكناية - إذن - هي الانتقال من دلالة (المواضعة) المفهومة من ظاهر اللفظ، إلى دلالة عقلية هي معنى المعنى، وهذا الأخير هو ما يفيده اللفظ من معنى وما يفيده هذا المعنى من معنى آخر؛ لنصل إلى "المعاني الثواني" التي أشار إليها (عبد القاهر). وبدون الوصول إلى ذلك تظل الكناية في دائرة (التعبير الحقيقي)، لا تتعداه إلى المجاز.
وليس معنى ذلك أن المدلول الأول غير مقصود؛ فإن قصدية هذا المدلول الأصلي الظاهر تظل قائمة في الكناية، ذلك أنها بنية لغوية (ثنائية الإنتاج)، وهو ما يعني أن الكناية بنية محايدة بين الحقيقة والمجاز، ينطلق المتلقي خلال التعاطي معها من المعنى اللازم إلى المعنى الملزوم، من الحقيقة إلى المجاز، أي من مدلول أوّل إلى مدلول ثان؛ بوصف الكناية بنية دالة، وحين نطبق ذلك على قول (عنيز): "وضفت الفريق اللي به السمن دفّاق"، نلاحظ الآتي:
أ- الدال: "وضفت الفريق اللي به السمن دفّاق".
ب- المدلول الأول: فريق من الناس يدفقون السمن على قرى الضيف.
ج- المدلول الثاني: إكرام هؤلاء الناس للضيف.
فأنت ترى أن المدلول الأول قائم ومعتبر (الكناية عن نسبة تُستثنى من ذلك)، ومنه ينطلق الذهن في حركة عميقة ترتبط بين اللازم (دفق السمن) وبين الملزوم (الاتصاف بالكرم)، فإذا لم يتحقق هذا التجاوز فإن إنتاج الصياغة يظل في دائرة الحقيقة. كما أن تغييب المعنى الأول (اللازم) ينتقل ببنية الكناية إلى بنية أخرى تماما، هي بنية المجاز الذي يختفي فيه المعنى الحقيقي.
2- الوظيفة الفنية للكناية:
ترى البلاغة القديمة أن قيمة الكناية تكمن في أنها تأتي بالمعنى مصحوبا بالدليل عليه، فحين يقول (عنيز) عن البعير: "ما طبّعوه معمّرين السوامر"؛ فهو يأتي بالمعنى - الذي هو أصالة البعير وحُسن طبعه - مع الدليل على هذا المعنى، وهو أن تطبيع هذا البعير تم على أيدي رجال لهم خبرة عميقة في هذا المجال، ولم يتم على أيدي أناس كلُّ مهارتهم وخبراتهم مجرد ألفاظ يعمّرون بها مجالس السمَر.
أما الدراسات الحديثة؛ فترى أن الكناية هي انحراف أو عدول أو انزياح - أو ما شاء الدارسون من مصطلحات - يلجأ إليها الشاعر من أجل التوسّع في خطابه الفني، مستخدما (الانحراف) عن الخطاب المباشر الذي يقتصر على المستوى العادي للكلام إلى تعبير غير مباشر؛ ليُضفي على إنتاجه صفة (الشعرية) من طريق كسر العلاقة النمطية بين الدال (الكلمات) والمدلول (المعنى). ونقصد بالانحراف - هنا - أن الشاعر ينحرف عن تأدية المعنى بطريق مباشر، ويعمد إلى تأديته بذكر لازم من لوازمه. ولنوضّح بمثال آخر من كنايات الشاعر في وصف سرعة البعير، يقول: "زُورَهْ بعيدٍ عن مَسَجّ الذراعِ". [مسج الذراع: مجال حركة الذراعين خلال الجري]. قد كان ممكنا للشاعر أن يقول: "إن البعير سريع"؛ فيأتي بالمعنى بطريق مباشر، لكنه (انحرف) عن ذلك إلى تعبير يرسم صورة البعير وهو يعدو فلا يرتطم ذراعه بمؤخرة عنقه، مما يعوقه عن العدو السريع، وهذه الصفة التي ينفيها الشاعر عن بعيره هي من عيوب الإبل التي تعوق سرعتها. وهذا النمط الأسلوبي يؤثر حقا في المتلقي الذي سوف يسعى في تفكيك عناصر هذا التعبير، مع استدعاء خبراته الثقافية والنفسية والعقلية التي تختزن ثروة من الصور الملتقطة من البيئة، من أجل الكشف عن المدلول المتواري وراء المدلول المباشر، وفي ذلك مشاركة تجعل المتلقي إيجابيا في تعاطيه مع النص، وتضمن له الشعور بلذة الاكتشاف.
كما أن للكناية وظيفة (إحالية) تسمح للمتلقي بإقامة كيان بديل لكيان آخر، بأن يتجاوز القارئ آليات التعبير الظاهري الذي يبرز صريحا على سطح النص، وصولا إلى سرّ (الإحالة) التي ينتقل من خلالها إلى المضمون الداخلي المكنون في بنية التعبير العميقة. فحين يقول (عنيز) في وصف قوم: "في الشمس ما يدنون ظل السيالة"، [السيالة: نوع من شجر الصحراء]؛ فإن المتلقي - إذا تفاعل مع التعبير وأجاد توليد الدلالة المرادة منه - فإن هذا التعبير يحيله إلى كيان معنوي هو (شدة تحمل هؤلاء القوم، أو شدة حذرهم وانتباههم)؛ ليكون هذا المضمون الداخلي بديلا من الدلالة الظاهرة على سطح التعبير.
3- أنواع الكنايات في شعر (عنيز):
أ- كناية عن صفة: وهي الكناية التي يُطلب بها صفة من الصفات؛ من خلال ذكر الموصوف بها في الكلام. وهي كثيرة جدا في شعر (عنيز) لا يمكن إحصاؤها؛ فمنها: "لا تاكل عَقاب الوليمة"، كناية عن الترفّع. و"شحمها ما يغطي كلاها"، كناية عن رشاقة الناقة. ومنها: "ولا طبّعوه فلان وفلان وفلان"، كناية عن أصالة البعير وحُسن طبعه. و"ذبّاحةٍ للضيف عبس الملبّات"، كناية عن الكرم. ومثلها: "وضيوفهم تصبح تنادس لحاها"، وتنادس: أي يظهر عليها أثر دهن طعام الضيوف. و"إن شاف الحكومة قال: يا جدّنا حميد"، كناية عن الخوف. و"والشعب ما له غير راي الحكومة"، كناية عن الامتثال لقوانين الدولة. ومن هذه الكنايات، قوله: "ونوبة يلزّونا عـرب زيـد وعبيـد"، كناية عن كثرة ما تعرضت له سيناء من اضطرابات، ومثلها: "قامت تزعزعنا حروب الدّْوِلِّ".
ومن الكنايات المحببة في ثقافة بادية سيناء قوله: "وصدورنا مـن هبّـة الريـح ملِّـي"، كناية عن الكرم والبشاشة في وجه الضيف.
ب- كناية عن موصوف: وهي أن يذكر الشاعر صفات معينة بهدف الوصول إلى الموصوف بها. وهي - كسابقتها - كثيرة في شعر (عنيز) بحيث لا يمكن حصرها. فمن كناياته عن (المرأة): "ادْقـيّـق الذرعان ومدملج الساق"، و" امْعطّرات الوسادة"، و"اللي ثوبها كله رقوم"، أي: تطريز.
ومن كناياته عن (البندقية): "ومسلـحـات بصـنـع دق النـصـارَى". و"اللي خشبهن يلالي"، أي: يلمع. و"امْعشّية المقاوَى"، أي: التي تجلب عشاء الجائعين. و"امْعـدّلات النواشيـن"، أي: نياشين البنادق.
ومن كناياته البليغة في وصف النياق: "مـا فيهـن اللـي أرْزَمـتْ لَلِـحْـوارِ"، أي: ليس من هذه النياق واحدة تحن لحُوارها (ابنها)؛ ذلك أنها لم تلد أصلا، وهذا أدعى للقوة والصلابة.
ومن كناياته الطريفة: "وعينك من اللي للمشاوخ موالي"، وعينك: أي احذر. والمشاوخ: هم شيوخ الحكومة. والموالي لهم هم من ينقلون إليهم أسرار الناس.
ج- كناية عن نسبة: هي الكناية التي تستلزم ألفظاها نسبة بين الصفة وصاحبها، وتذكرهما معا. وينفرد هذا النوع عن النوعين السابقين بأن المعنى الأصلي للكلام (المدلول الأول) غير مراد فيها. فقوله في وصف البعير: "وما يخاطيه الاجنان"، يشمل الصفة والموصوف أيضا، ولكن وصف البعير بـ (الجنون) غير مراد، وإنما المراد وصفه بالسرعة الشديدة، كأن به مسا من الجن!
وهذا النوع قليل في شعر (عنيز)، لم نعثر منه إلا على المثال السابق، ومثال آخر عن سيطرة (الولاليد) واستبداهم بالأمر دون الكبار ذوي الحكمة، يقول: "من يوم صار الراي بيد الولاليد"، أي: بيد الفتيان القليلة خبرتهم في الحياة.
إن شعر (عنيز) هو وثيقة إبداعية، تنطوي على محاور كثيرة جديرة بالدراسة؛ فنرجو أن نرى - قريبا - ديوانه مطبوعا طبعة تجمع كل قصائده المتناثرة هنا وهناك.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى