رائد الحواري - محمود شاهين وحزنه على فراق ميلينا في "رسائل حب إلى ميلينا "



مقالات في أدب محمود شاهين (13)

رائد الحواري


الرسائل يفترض أن تكون/تكتب بين طرفين بعيدين (مكانيا/جغرافيا) عن بعضهما، لكن عندما تأتي/تكتب من طرف واحد، فهذا يعني أستحضار الذكريات الماضية، وهذا ما يجعلها رسائل مفعمة بالمشاعر والعاطفة الجياشة، المثير في هذه الرسائل، أنها صادرة من طرف واحد هو "المرسل/القاص" الذي يقتات على ذكرياته مع "ميلينا"، من هنا يتحدث عن كل شيء مرت عليه: "البيت موحش... جدرانه تسأل عنك.. كنباته تتوق إلى جلوسك عليها، وأسرته تسألني فيما إذا لم تعودي للنوم عليها.. أما لوحاتي المجنونة فكم تبدو حزينة لأنك لم تعودي تنظرين إليها.. كلنا نشعر بالوحشة لغيابك.. وكلنا في شوق إليك، أنا البيت الجدران والأسرة واللوحات والشرفة والكنبات والبلاط والمطبخ والحمام والصالون والأبوب" ص185، نلاحظ أن الحزن يطال كل شيء في المنزل، اللوحات، السرير، الكنبات، البلاط، المطبخ، وهذه إشارة إلى الفراغ الذي تركته "ميلينا" على المكان وعلى المرسل، اللذين يعانيان من أثر الغياب.

فالمرسل عندما تحدث بصيغة الجمع: "كلنا يشعر بالوحشة" أكد على الوحدة التي يعانيها، من هنا التجأ إلى الأثاث/الجمادات لتكون شريكه في الحزن والألم الذي أصابه بعد رحيلها.

إذن المرسل (يخلق) لنفسه شركاء في حزنه، لهذا نجدهم يتحدثون مثله مبدين حزنهم على الغائب: "الأريكة في مواجهتي تسألني عنك وتتساءل: لماذا لم تعودي تجلسين عليها في الصباح" ص186، أنسنة الجمادات/الأشياء وإنطاقها يشير إلى حالة الفراغ التي يعانيها المرسل، لهذا أوجد/خلق لنفسه شركاء ينوبون عنه في إبداء الحزن ويشاركونه، لكنه سرعان ما يتذكر نفسه فيحدثنا عن حالته وما يمر به: "كم شعرت بالفرح لتعرفي إليك. وكم شعرت بالحزن لفراقك.. راحلا في المسافات.. مسافرا في الصحاري.. هائما في البلاد" ص186، نلاحظ أن المرسل يستخدم الفاظا الراحل/المسافر: "راحلا، مسافرا، هائما، المسافات، الصحاري، البلاد" فهو يتحدث عن حالة السفر/الرحلة وعن المكان أيضا، الصحراء /البلاد، وهذا ما يُظهر وكأن سفره حقيقي وليس متخيلا.

كما أن نسب السفر لنفسه وليس "لميلينا" يشير إلى ما يحمله من مشاعر حب لها، والتي يظهرها بقوله: "ميلينا، لهذا الصباح طعم مر، لأن ابتسامتك لم تشرق عليه... لا لون لهذا الصباح لأني لم أر وجهك... لم أملأ عيني بمرآى عينيك، ولم تعبق في أنفي رائحة شعرك ولم تذق شفتاي طعم خدك" ص193، إذا ما توقفنا عند ما جاء في هذه الرسالة/ سنجد أن المرسل بدأ يعي الحقيقة، حقيقة غياب ميلينا، بصورة عقلانية، لهذا ابتعد قليلا عن أنسنة الجمادات/الأشياء، وأخذ يتحدث بروح العاشق (الواعي)، وليس بروح العاشق (المجنون).

الأديب/الفنان يلجأ للكتابة/للفن ليخفف ما علق به من ألم وحزن، فالكتابة/الرسم، والمرأة، والطبيعة، والتمرد، عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها وقت الشدة/الضغط: "ميلينا...يبدو أن شوقي إليك أكبر من شوقي إلى الألوان.. كنت جالسا في الشرفة، وما أن أنهيت الرسالة حتى دخلت إلى الصالون كي أرسم شيئا ما، لكن، تبين لي أن عقلي ما يزال معك وليس في رأسي... للمرة الثالثة أكتب لك هذا اليوم، ولا أعرف كم سأكتب لك، وإلى متى سأظل أكتب لك، والألوان تندهني كلما نظرت إلى سحرها، لأستلقي بين أحضانها" ص200، عندما يفقد الأديب/الفنان القدرة على القيام بعمله، الكتابة/الرسم فهذا إشارة إلى أنه يعاني، وبما أنه لا يستطيع استخدام أدوات التخفيف/الفرح، فإنه سيعاني أكثر.

من هنا يعود إلى (جنونه): "سألت عنك الألوان فلم تجبني، سألت الاشعار والحكايات، سألت الشرفة، سألت النباتات والورود المحيطة بي، سألت الكراسي والمقاعد، سألت الأواني والطاولات، سألت فيروز، سألت الصمت، وسألت ابنة الجيران حين قرعت بابي راجية رأيي في موضوع إنشاء" ص205.

نلاحظ أن المرسل يتحدث إلى أشياء جامدة، لكنها لا تنطق ولا ينطقها كما فعل في بداية الرسائل، وهذا يعطي صورة مخففة عن حالة (الجنون)، لكنه يبقى متعلقا بها ومتأثرا بغيابها.

يعاود المرسل إلى عناصر الفرح/التخفيف، الرسم والكتابة: "أحضرت الالوان ورحت أرسم رغم أن هاجس الكتابة كان يضغط على روحي والكلمات تندهني متوسلة... رسمت أربع لوحات كبيرة بسرعة جنونية (أقل من ساعتين)" ص207، وبهذا يؤكد المرسل على أن الكتابة/الرسم عنصر فرح وتخفيف ناجعة في وقت الضيق، وأنها قادرة على تحقيق (توازن) في المضغوط وتعيده إلى حالته السوية/الطبيعية.

ونلاحظ أن حجم الإنجاز كان كبيرا وغير متوقع، وهذا يعود إلى حجم الضغط الواقع عليه، لهذا استخدم طاقة توازي حالته/ ما يمر به، فكان انجاز أربع لوحات في ساعتين انعكاسا لحجم الألم/الضغط الذي هو فيه.

يجد المرسل نفسه في الرسم والكتابة، التي كانت بلسما لحالته: "ميلينا .. أخذتني الألوان في رحلة مجنونة طوال خمس ساعات، تشاجرت معها وخاصة مع اللون الأسود الذي راح يفرض حضوره علي في كل اللوحات، وما أن فرغت من اللوحة الخامسة حتى سجنت اللوحات في المرحاض العربي..! أنها تصرخ الآن وتدق على الباب من الداخل راجية أن افتح لها" ص219.


المرسل يتعامل مع عنصر الفرح/الرسم/الكتابة بحرفية متناهية، لهذا يؤنسنها، فهي أحد أولاده/بناته، لهذا عندما تنحرف عن المسار الذي يريده (يعاقبها). بهذا الشكل يؤكد المرسل على أنه يستخدم الكتابة/الرسم بطريقة صحيحة مؤكدا على دورها في التخفيف، وقدرتها على إخراجه من حزنه وبؤسه.

تأخذ حالة المرسل في التوازن، بعد أن اقتنع/استوعب أن "ميلينا" رحلت فعلا عنه، وعليه أن يتعامل مع هذا الغياب بطريقة (منطقية/عقلانية) بحيث لا يهلك نفسه بها، من هنا يلجأ إلى الكتابة الأدبية إلى الشعر لما يمنحه من هدوء وسكينة:

"ميلينا

ساكنة أنت في تألق الخيال

تعبرين تلافيف الذاكرة

ويمر طيفك بين الحنين والحنين

ولا تغيبين عن البال" ص227.


بهذا المقطع نجد حنين المرسل إلى "ميلينا" فمن خلال استخدامه للفظ: "تلافيف" الذي يجتمع فيه حرف الفاء، وتكراره لفظ "الحنين" يؤكد على أنه ما زال متعلقا بها، من هنا نجد أنه يركز على أثر المكان من خلال: "ساكنة، تعبرين، يمر" لكن هذا التعلق لم يعد كما كان في السابق، فقد تحرر المرسل من أثره النفسي عليه، لهذا تحدث عن "الخيال/الذاكرة/الحنين" بمعنى أن تأثره بها أصبح مقتصرا على الذاكرة فقط، ولم يعد له أثارا نفسية أو عقلية.

وهذا ما يجعله يتذكرها بصورة (منطقية/عقلية):

" قبلتك قبلة كالنسيم

كالندى

كرائحة الياسمين

كالفرح

وكلحم قديم" ص231و232.


نلاحظ أن هناك ميلا للطبيعة التي نجدها في: "النسيم، الندى، الياسمين" وهذا يشير إلى أن المرسل يستخدم عنصر فرح/تخفيف جديد، الطبيعة، وهذا ما جعله هادئا/متوازيا/طبيعيا، فجاء المقطع ناصح البياض، تجتمع فيه الفكرة مع الالفاظ لخدمة الفرح/الهدوء الذي يسكن المرسل.

يوقن المرسل حقيقة "ميلينا" التي رحلت، ويسلم برحيلها من خلال:

"أحبي كل الشباب

أحبي كل الرجال

أحبي ما شاء لك الحب

أحبي من القب

أحبي ولو من أجل الحب

وحين لا تجدين أحدا يحبك

ستجدينني في انتظارك

كما لو كنت جالسا على نار" ص250و251.


الحرية التي يمنحها المرسل "لميلينا" تشير إلى أنه سلم بالأمر الواقع وعلى أنها لم تعد له، لهذا قدمها بصورة حرة/طليقة فيما تريده وتفعله، لكنه يبقي لنفسه قشة النجاة متعلقا بها، إذا لم تجد ميلينا" من تحب، هذه القشة جاءت من باب الإخلاص لها ولمشاعره التي أنهكته في حزنه عليها وعلى غيابها.

****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى